بعد أن توقَّـفَ رنينُ هاتفي الجوَّال، رفعتُ رأسي قليلاً عن الوسادةِ بِـتَـبَـرُّمٍ وتثاقل، نظرتُ إلى السَّاعةِ بعينٍ واحدةٍ نَـعِـسةٍ نصف مُغمضةٍ فخمَّنتُ بأنّها لم تتجاوز التاسعة صباحاً من يوم الجمعة، عطلتي الأسبوعية التي أستمتع فيها بالنوم، بِمتعةِ طفلٍ بنومهِ بعدَ أن أعْـفَـتْـهُ أمّهُ مِن الذهابِ إلى المدرسة.
عُدتُ لأستأنف العومَ في نفقِ النوم اللذيذ، تركتُ رأسي الـمُثقل بالخَدرِ يهوي حُرّاً على المخدّةِ كما لو كان ليس لي، شعرتُ برطوبةٍ على غشاء المخدّة، قدَّرتُ أن تكون بقعةَ لعاب، قلبتُ الـمِخَدَّةَ ووضعتُها فوق رأسي كي أتخلّصَ من رنينٍ مُحتملٍ وشعاعٍ من ضوءِ الشَّمسِ الآتي عَـبـرَ فتحةٍ ضيِّقةٍ بين سِتارَتَي النافذة. عاد الرّنينُ فلعنتُ أبا الـمُتصلِ كائناً من كان، شدَّيتُ المخدَّةَ أكثر على جبهتي وعَينيّ وشرعتُ أتقلَّبُ في فراشي متذمِّراً منزعجاً، ولكنّ الـمُتّصل لم يتوقف عن اقترافِه "لجريمة" إزعاجي .
أخيراً انقطع حبلُ صبري قبل أن ينقطعَ الرَّنين، استويتُ في فراشي غاضباً مُـسْـتَنـفِـراً، أمسكتُ الهاتفَ بقبضةِ مصارعٍ يمسك بمعصمِ خصمهِ ويضغطُ عليه كي يُرغمه على الاستسلام، ورغم أنّي لا أزعم حِفظَ كلّ أرقامِ هواتفِ أصدقائي وأقربائي والموظفين والمورِّدين ومسؤولي الفروع عن ظهرِ قلب، فقد لاحظتُ بأنَّ هذا الرقم غريب وجديد.
طرحتُ جهازَ الهاتفِ جانباً بنزقِ النّاعسِ المنزعجِ من إيقاظهِ رغماً عنه، ولسببٍ لا يهمّه، وعُدتُ إلى النوم، تناهى إلى أذنيّ هسيسُ رسالةٍ قصيرةٍ، قرأتُها : " أنا جهانجير، أرجوكَ الحضور لأمرٍ هام" .
جهانجير ؟ آه ... جهانجير !!! الفتى الآسيوي الذي يبيعُ سندويشات وشاي وقهوة في سيارته الـ "فان" العتيق على طريق صحراء الربع الخالي، تذكَّرته ، ولكن ما الذي حدا به للاتصال بي بعد ثلاث أو أربع سنوات من آخر لقاء لي به ؟ اتصلتُ به فقال لي: "أتذكر العبارةَ التي كنت تردِّدها من وقتٍ لآخر خلال أحاديثنا ؟"
- جرى بيننا الكثير من الأحاديثِ ومن البديهي ألا تتوقع منّي أن أتذكّرها كلّها، ذكِّرني بتلك العبارة.
- ضحك ثم قال بالعربيةِ الفُصحى التي يجيدها: "ألأم الآهاتِ هي العصيّة على مغادرةِ الشفتين"
- حسناً ، وما المناسبة يا جهانجير؟؟
- إن كنت لا زلت تعتبر نفسكَ صديقي سوف أبوح لك بكلِّ شيءٍ حين حضورك. وأرجو ألا تخذلني، أنا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى مساعدتِك لي.
بعد أن أدار مُولِّدَ الكهرباء الصغير وشَغَّل المروحة الصغيرة أيضاً، ووضعَ كوبَ الشاي وصحنَ التمرِ على دلوٍ بلاستيكيٍّ مقلوبٍ قال لي جهانجير:
- يا صديقي العزيز، سيسرّكَ أن تعلم بأنّي بِـصَدَدِ السفرِ بإجازةٍ للزواجِ والبدءِ ببناءِ بيت،ولهذين الغرضين، سوف أكون بحاجةٍ لتحويلِ مُدّخَراتي إلى حسابي المصرفي في بلدي. ولكنّي لا أستطيع ذلكَ دون حيازتي على إقامتي النظامية، كما تعلم،حيثُ أن كفيلي أبا مْـنـاحِـي يحتجزها لديه بعد تجديدِ صلاحيتها، إذ لسوءِ طالعي، أنّه طَـلَّـقَ إحدى زوجاته الأربع ويرغب في الزواجِ، ويطلب منّي دفعَ جزءٍ من مَهرِ زوجتهِ الجديدة.
فَرَدْتُ راحتَيَّ في الهواءِ بِحيرةٍ متسائلاً : إذن تريدني أن أتدخَّلَ لإقناعهِ بالإفراجِ عن إقامتِك؟
- نعم و لا ، نعم لتحريكِ موضوعِ استرجاعِ الإقامة، و لا لبحثِه مع أبي مْـنـاحِـي، بل مع شيخ القبيلة "أبو سعود". عليك نقل المسألة إلى الشيخ بحيث لا تبدو كشكوى مني على كفيلي الذي سوف يغضب عليّ وينتقم مِنِّي، فهو ماكرٌ وعنيد ولكنّه جبان.
تركتُ جهانجير وتوجَّهتُ بسيّارتي صوب الهُجْرةِ القريبةِ التي تحتوي كذلك على مضاربِ بدوٍ حيثُ يقيمُ أبو مْـنـاحِـي، أرشَدَني أحدُهُم إلى خيمتهِ، رحَّب الرَّجُلُ بي حينَ عرفَ بأنّـي قادم بغرضِ التعاقُـدِ معه لتزويدِ شركتِنا بعمالةٍ للعملِ لدى أرامكو في حقول الشِّيبة، استجابةً لكذبةٍ فبركتها له كمبررٍ لزيارته، وسأل بلهجةٍ يشوبُها الدَّهاء:
- لماذا لم تستخدم عمالةً من الدَّمام أو الخُبر؟ أو الهفوف ؟ لماذا من هنا ؟
- عرفتُ من أحدهم بأنَّ عُمّالكَ يعرفون أماكنَ العملِ في الشِّيبة ويسهلُ عليكَ، أكثر من غيركَ، عملية الحصول على تصاريح دخولِ المواقعِ بسهولةٍ كونكَ معروفاً لدى أرامكو.
بَدت علائمُ النّشوةِ والتفاخرِ على وجهه، ابتسمَ ثم عَبَسَ وشعَّت عيناهُ بشعاعِ خُبثٍ خِلتهُ يتساءل ويُُشكِّـك، ولكنّي لم ألحَظ أيةَ إشارةٍ تدلُّ على الجَبانة في تقاسيمِ وجههِ الأسمر النّحيل الصّارم. ثم قلتُ له : متى زرتَ طبيبكَ آخر مرّة ؟
- طبيبٌ ؟ ولماذا ؟ الصحّة حَديد ، عَسَى الله خِـير ؟ لماذا تسأل ؟
- ألَـمْ يُـلفِت نظرَكَ أحدٌ إلى الشُّحوبِ في يَديكَ ووجهِك ؟ إنّـهُ أحَـدُ دلائلِ المرضِ الخبيث على ما سمعت، لا سمح الله.
تَـكـلَّفَ ابتسامةً باهِـتةً أرادها ساخرة هازئة لا تخلو من خوف شبه خفي وقال: لا تخاف عليّ، ثم أدارَ ظهرَهُ لي واستلَّ من جيبِ ثوبِهِ ما قَـدَّرتُ أنَّـهُ مِرآة. تركتُه يتفحَّصُ وجهَه للتأكّدِ ممّا قلته له وشرعتُ أتصفَّحُ شاشةَ جوَّالي، وحينَ عادَ وجلسَ بِقُربي رأيته شخصاً آخرَ بملامحَ أُخرى وسأل مُستفسراً عمَّا أتصفّحه :
- "وِشْ تْـنَـاظِـر ؟ الـبْـنيّاتْ العَريَاناتْ ؟". وبالكاد استطاعَ أطلاق رُبع ضحكة .
أدرتُ شاشةَ الهاتفِ صوبهُ وقلتُ له: وَرَدَتْنِي من صديقٍ منذ قليل : هذه صورةُ الميتِ في قبرهِ في اليومِ الأوَّل، وهكذا يبدو مُنتفخاً في اليومِ الثّاني، وهذه صورةُ انفجارِ أحشائهِ في الأيامِ القليلةِ التاليةِ لدفنهِ، والآلاف من دودِ القبر تَـنهشُ عَينيهِ أولاً، ثم تُـكملُ التهامَه إلى أن يستحيلَ هيكلاً عظمياً كهذا.
تَحسَّسَ أبو مْـنـاحِـي يَـدَيهِ ووجههِ ثم وقفَ وأدارَ ظهرهُ لي مرَّةً أُخرى. أمْضى دَقائقَ في وقفتهِ وحينَ عادَ سألني :
- "وهل الشُّحوبُ يعني مرض في الدّم؟" أعوذُ بالله !!
- هذا ما سمعتُ به.
- اعذرني إن قلت لكَ بأنّي لا أصدّقك، على أي حال سوفَ أتأكّد من الأمرِ بطريقتي.
أخبرتُ شيخَ القبيلةِ بالتفاصيل، بما فيها احتمال زيارة أبي مْـنـاحِـي للطبيبِ للكشفِ عليه. أبى الشيخُ التدخُّلَ في البدايةِ نظراً لصُعوبةِ التعاملِ مع أبي مْـنـاحِـي لِـما عُـرِفََ عنه من نكثٍ لِعُهوده، ولكن بعد شَرحي للدوافعِ والـمُبرِّراتِ الـمُوجِبةِ دِينيّاً وإنسانيّاً وأخلاقيّاً، استدعى الشّيخُ طبيبَ الهُجْرةِ وأوصاهُ أن يقولَ لأبي مْـنـاحِـي بأنَّـه مُصاب بمرضٍ سيُودي به إلى الموتِ خلالَ شهرٍ على الأكثر، وبأنَّـهُ مُـلْـزَمٌ بِـتَبرئةِ ذِمّتِهِ ممّا عليهِ من مُستحقّاتٍ للنّاسِ كي يُلاقي وجهَ ربّه راضِياً مرضيا.
يوم الجمعة التالي، وبينما كنت أغطُّ في نومِ الضّحى، أفَـقْـتُ على هَسيسِ رِسالةٍ قصيرةٍ من جهانجير بَعَثَ بِها من بَلدِه، وقرأت كلمة "شكراً" .
الخبر في : 24/06/2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق