ما بين أرضٍ أميركية.. وأمّة عربية/ صبحي غندور

اضطررت في عامٍ سابق لأن أقود سيارتي على مدار أكثر من 12 ساعة في يومٍ واحد، ومن دون رفيق درب، عابراً ثماني ولايات أميركية في الوسط الشمالي للولايات المتحدة. ولم تكن تلك هي المرّة الأولى التي أتنقّل فيها برّاً بين ولاياتٍ أميركية، لكن جدّة التجربة لي كانت بأنّي أفعل ذلك دون رفقة أحد ممّا أتاح لي شيئاً من الخلوة مع الطريق، ومع جغرافية الأرض الأميركية، ومع سلسلة من البرامج الإذاعية الإخبارية التي كنت أتابع سماعها خلال هذه الرحلة.
أولى الملاحظات التي راودت ذهني هي التساؤل عن كيفية الجمع في التجربة الأميركية بين تنوّع الطبيعة الجغرافية ووحدة النظام المستخدم عليها. أيضاً، بين تعدّدية المجتمع واختلاف ألوان البشر فيه وأصولهم الثقافية والعرقية والدينية، وبين انتمائهم جميعاً إلى هويّة أميركية واحدة تجمعهم وتوحّد بينهم.
فخلال مسافة قاربت الألف ميل، عبرت ولاياتٍ ذات طبيعة جبلية وأخرى هي سهول ممتدّة. ولايات يتميّز بعضها بالتصنيع والمدن الصاخبة، وبعضها الآخر بالزراعة والحياة الهادئة البسيطة. وتجد في أيّ محطة أو استراحة على الطريق أشكالاً وألواناً مختلفة من الناس لكن جميعهم يستخدمون التسهيلات ذاتها في الولايات كلّها، ولا تعرف أنّك انتقلت من ولايةٍ إلى أخرى إلا من خلال دفع رسوم "الطريق السريع" أو من لافتات صغيرة على جانب الطريق.
وتساءلت في نفسي: لِمَ نجح الأميركيون (والأوروبيون الآن أيضاً) فيما فشل فيه العرب؟ فالمسافة التي قطعتها برّاً في يومٍ واحد هي تقريباً كالمسافة ما بين بيروت وجدّة أو بين بيروت والكويت.  فلِمَ استطاع الأميركيون القادمون من أصول ثقافية مختلفة أن يحقّقوا تكاملاً على الأرض الأميركية بين ولايات تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، بينما فشلت الدول العربية في تحقيق ذلك رغم ما هي عليه من وحدة ثقافة وأرض وتاريخ وحضارة ومصالح مشتركة؟
أيضاً، لِمَ نجحت تجربة السوق الأوروبية المشتركة، التي تزامن تأسيسها مع تأسيس جامعة الدول العربية، في التحوّل إلى اتّحادٍ فيدرالي بين أمم أوروبية مختلفة، بينما تزداد الدول العربية انقساماً وصراعاً في علاقاتها مع بعضها البعض، بل وفي داخل أوطانها نفسها أحياناً؟
أليست المشكلة عربياً هي في انعدام الإرادة السياسية بتحقيق التكامل والاتحاد، وأيضاً في خطايا الإدارة السياسية للأوضاع العربية؟!
صحيح أنّ المنطقة العربية هي منطقة صراعات دولية، وأنّ حدودها الراهنة هي محصّلة تسويات أوروبية تمّت في مطلع القرن الماضي، وبأنّ الأمّة العربية ينخر في قلبها جسم صهيوني غريب استنزف طاقات الأمّة لعقود طويلة، لكن هذه العوامل كلّها هي أيضاً أسباب مهمّة للتكامل والتوحّد السليم بين الأقطار العربية. فلا الأمن الوطني لأيِّ بلدٍ عربي يمكن تحقيقه بمعزل عن الأمن العربي العام، ولا التنمية العربية الشاملة ممكنة من دون تكامل الثروات والطاقات العربية المبعثرة والمستنزفة من قبل شركات الخارج، أو أحياناً أخرى في بلدان الخارج.
بلا شكّ، فإنّ المدخل السليم لتكامل الدول والأوطان هو صلاحية النظام السياسي الذي تقوم عليه هذه الدول. فالبناء الدستوري السليم هو الأرض الصلبة المطلوبة لأي عملية تكامل بين الدول. هكذا كان درس التجربة الأميركية التي وضعت أولاً دستورها الشهير قبل أكثر من مائتي عام وجعلته المرجع الوحيد للحاكمين والمحكومين في ثلاث عشرة ولاية، فإذا بهذه التجربة الدستورية والتكاملية تتطوّر على مدى أكثر من قرنين من الزمن لتضمّ الآن خمسين ولاية أميركية هي في مجموعها اليوم أكبر قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية في العالم، لكن ليس بمقدور أي ولاية منها أن تعيش وتزدهر من دون الولايات الأخرى ونمط الحياة المشتركة الرابط بينها جميعاً، فهي وحدة "الكل" الجامع لخصوصيات متنوّعة ومختلفة.
***
وفي رحلة الطريق هذه استمعت لبرنامجين إخباريين أحدهما عن العلاقة بين الدين والدولة، والآخر كان مقابلة هاتفية حول مسألة الهوية الوطنية في البلدان العربية.
وكانت ملاحظاتي على البرنامج الأول حول الدين والدولة أنّه تعامل مع الموضوع من منطلق مسلّمات في المفاهيم وليس من نسبية المعرفة والإدراك لطبيعة كلٍّ من الدين والدولة. ففي تقديري أنّ المشكلة ليست في إحداث "الفصل" أو عدمه بين الدين والدولة في أيّ مجتمع، بل المشكلة هي في كيفيّة فهم الدين وفي كيفيّة بناء الدولة. فالفصل بين الدين والدولة ليس ضمانة لتقدم المجتمع أو لتحقيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية فيه بدلالة تجربة الاتّحاد السوفييتي التي جرى الفصل فيها بين الدين والدولة، ولم تنجح هذه التجربة في الاستمرار ولا في بناء مجتمعات واحدة ديمقراطية متقدّمة. وهكذا كانت التجربة التركية أيضاً في تطبيق العلمانية.
وهناك في العالم نماذج مختلفة من الدول العلمانية واللاعلمانية، وفي المجموعتين هناك أزمات كثيرة تتعلّق إمّا في كيفية فهم الدين أو في كيفية بناء الدولة. فقبل الوصول إلى الفصل المنشود بين الدولة السياسية والمرجعيات الدينية، فإنّ المجتمع كلّه بحاجة إلى فهمٍ سليم للدين يحرص على قيمه ومبادئه وغاية وجوده في الحياة من حيث الدعوة للإيمان الديني والعمل الصالح في أيّ مجتمع، كما هناك حاجة قصوى إلى بناء الدول على أسس دستورية سليمة.
أمّا البرنامج الآخر عن مسألة الهوية الوطنية في البلاد العربية، فوجدت نفسي أتساءل عن هذا الضياع العربي في موضوع الهوية، وكيف ينظر بعض العرب إلى دوائر انتمائهم بشكلٍ متناقض دون أيِّ مبرّر موضوعي لذلك. فالانتماء لأي دين أو للتاريخ الحضاري الإسلامي لا يتناقض مع الانتماء للهوية الثقافية العربية ولا مع الانتماءات الوطنية المتعدّدة في أرجاء الأمَّة العربية. تماماً كما هو حال الهوية الأميركية الآن لدى عموم الولايات الأميركية. فالمشكلة ليست أساساً في كيفية رؤية هذه الانتماءات الثلاث: الدينية والقومية والوطنية، بل هي في افتعال التناقضات بين هذه الانتماءات المتعدّدة وفي هذا التفسّخ الحاصل داخل بعض الأوطان العربية، وفي تغذية الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية. 
فالتخلّي عن الانتماءات الجامعة بين العرب لن يؤدّي إلى تقوية أي هوية أخرى للعرب، دينية أو وطنية، بل إنّ إضعاف الهوية العربية هو مقدّمة للتخلّي عن الهوية الوطنية نفسها لصالح انتماءاتٍ إثنية وطائفية ومذهبية ضيّقة تدفع بصراعاتها إلى حروبٍ أهلية عربية تدمّر الداخل وتفيد كلَّ مشاريع الهيمنة الأجنبية والإقليمية.
الأرض الأميركية المكتشفة من بعض الأوروبيين تحولت بمرور الزمن إلى "أمّة أميركية"، بينما يحاولون جعل "الأمة العربية" مجرد أرض فقط تُنتهك وتُستباح.! 
***
كانت رحلة سفر طويلة على أرضٍ أميركية، لكنّها كانت مناسبةً أيضاً لوقفة خواطر مع حال الأوطان العربية، تلك التي تبحث الآن في جنس هويتها بينما الأعداء يطرقون الأبواب وبعضهم بات في الداخل.!

يوم في ضيافة انطون تشيخوف/ جودت هوشيار

تلقيت دعوة كريمة من منظمي المؤتمر العلمي العالمي المكرس لإبداع أنطون تشيخوف - الذي سيعقد في موسكو من 29 يناير ولغاية 1 فبراير2019 - للمشاركة في المؤتمر، بقراءة ورقة في موضوع يتعلق باحد جوانب حياة وأدب هذا الكاتب ، الذي يحظى بمكانة سامية في الأدب العالمي.
تشيخوف يبدو اليوم بعد أكثر من قرن على رحيله ، كاتبا معاصراً لنا ، وما زالت كتبه تطبع ويعاد طبعها في بلدان كثيرة ، ،ويلتقي المشاهد بأبطاله على مسارح موسكو وبطرسبورغ ونيويورك وطوكيو ولندن وباريس وبيونس ايرس وغيرها من المدن .
وقلما نجد كاتبا قصصيا او مسرحيا منذ تسعينات القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا لم يتأثر بفن تشيخوف . وثمة عدد هائل من الكتب والبحوث والأطاريح العلمية المكرسة لإبداعه ، كما أن الكثير من مؤلفاته أخرجت سينمائيا وتلفزيونيا .
وتحتوي اللغة الروسية الحديثة على العشرات من العبارات والأقوال السائرة الذكية واللاذعة ، التي دخلت هذه اللغة عن طريق مؤلفاته ، ويستعملها الروس في حياتهم اليومية دون ان يفطنوا انها لم تكن موجودة في لغتهم قبل تشيخوف. 
ولهذا يبدو لاول وهلة ، ان من الصعب على اي باحث أن يأتي بجديد عن ابداع تشيخوف ، الذي اشبعه الكتّاب والنقاد والباحثون دراسة وتحليلاً . وبعد تأمل الموضوع قلت في نفسي :" ان لكل باحث قراءته الخاصة لأعمال أي كاتب كبير. وأنا عندما أعيد قراءة روائع تشيخوف بين حين وآخر ، اكتشف فيها جديداً في كل مرة . إلا أن هذه القراءة لن تكتمل من دون قراءة رسائله ودفاتر يومياته وزيارة الأماكن التي عاش وكتب فيها ، من اجل فهم أعمق وأفضل لأعماله الأدبية . ولم اكن اول من يفعل ذلك ، فقد اعتاد العديد من المخرجين والممثلين المسرحين في روسيا زيارة الأماكن، التي كتب فيها تشيخوف أعماله المسرحية ، للعيش في أجوائها ولو لفترة قصيرة فبل تجسيدها على المسرح .
عزبة تشيخوف في ميليخوفو
  في فبراير 1892  كتب نشيخوف رسالة الى صديق له يقول فيها :" إن كنت طبيباً ، فإنني بحاجة الى مرضى ومستشفى ، وإن كنت أديباً فعليّ أن أعيش في وسط الناس ، لا في زقاق مالايا ديمتروفكا ... إنني في مسيس الحاجة الى (قطعة) من الحياة السياسية والإجتماعية . وأما هذه الحياة بين جدران أربعة ، حيث لا أناس ولا وطن ، ولا صحة ولا شهوة ، فهي ليست حياة ، وإنما هي الموت بعينه . 
وفي آذار من السنة ذاتها ابتاع  تشيخوف عزبة صغيرة في قرية " "ميليخوفو ". وكان ذلك إختياراً موفقاً. فهي قريبة نسبياً من موسكو ، حيث يمكنه زيارة أصدقائه من الكتّاب والفنانين  والتواصل مع الناشرين ورؤساء تحرير المجلات الادبية ، وهي في الوقت نفسه تقع في منطقة خضراء ساحرة في عمق الريف الروسي بعيداً عن صخب العاصمة ، ومكان هاديء ومثالي للتفرغ للكتابة .
انتقل تشيخوف الى هذه العزبة مع أسرته المؤلفة من والديه وشقيقه الأصغر ميخائيل وشقيقته ماريا  في آذار عام 1892 ، ولم يكن قد تزوج بعد . كانت العزبة مهملة وبحاجة الى ادخال تحسينات شاملة عليها، وزراعة الأشجار المثمرة واحواض الزهور فيها . 
واعترف تشيخوف في احدى رسائله ، انه لا يفقه شيئا في امور الزراعة . ولكن لم يمض سوى وقت قصير حتى شرع افراد اسرة تشيخوف في احياء المزرعة المهجورة . فقد تولّى والد تشيخوف بافل ايغوروفيتش تمهيد المماشي والإعتناء بالأشجار ، وبادرت ماريا بافلوفنا ، شقيقة تشيخوف الى زرع أصناف فرنسية من الخضراوات في ركن سمّتها " ركن فرنسا " . وكان تشيخوف يمضي معظم وقت فراغه في الحديقة ، وخلال السنة الأولى غرس اكثر من 240 شجرة بينها عدد كبير من اشجار التفاح وشجيرات الكرز والليلك . وكان يجد لذة حقيقية في زرع الورود ورعايتها.وقال في ما بعد مازحاً:" يبدو لي أنني لو لم أكن كاتباً ، لكنت بستانياً " . 
عاش أنطون تشيخوف في ميليخوفو سبعة اعوام  ( 1892- 1899 )  ، حيث كتب خلالها  اكثر من اربعين مؤلفاً ،  منها مسرحية "النورس" وقصص "الراهب الأسود" و"العنبر رقم ستة".  " البيت ذو العلية " و "الطالب " تناول فيها الحياة اليومية بسخرية لاذعة و صوّر مشاهد عائلية ،وروى حكايات ابطالها من التجار و الطلاب و الموظفين . وتعد هذه الفترة من أنضج وأخصب فترات حياته الإبداعية . وقال أنه كتب هنا أفضل أعماله . 
في عالم تشيخوف 
وصلتُ الى العزبة – التي تحولت الى متحف تشيخوف الرئيسي - بالسيارة في صباح يوم صيفي جميل في منتصف شهر أغسطس 2018 . وكان أول ما لفت نظري هو الأجواء الإحتفالية فيها . ثمة المئات من الزوار القادمين من مختلف أنحاء روسيا والعالم ، وباصات مدرسية تنقل مئات التلاميذ من الجنسين بصحبة معلميهم لزيارة المكان الذي تدور فيه أحداث العديد من قصص ومسرحيات تشيخوف ، التي تدخل في المناهج الدراسية في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي .
تجولت في كافة زوايا وجنبات المتحف للتعرف على كل ما يرتبط بحياة الكاتب، وقضيت ساعات أتمعن في الجو الذي عاش وكتب فيه تشيخوف أعماله الرائعة. 
يضم المتحف أكثر من 20 ألف قطعة أثرية جمعت من الأدوات والأشياء التي كانت تحيط بالكاتب ، بينها لوحات الفنانين من أصدقائه، وصور التقطت له ولأفراد أسرته ، وسريره ومكتبه ، ورسائله ومخطوطاته ، ومعطفه ونظارته ، والطبعات الأولى لكتبه ، والمجلات الروسية القديمة الصادرة في موسكو وبتروغراد، التي نشرت قصصه ومسرحياته . وضمن مكتبته المنزلية - التي تعكس اهتماماته الأدبية والفلسفية والتأريخية –حوالي 400 كتاب نادر من القرن الثامن عشر . 
يحافظ المكان على كل لحظة من تاريخ حياة الكاتب في ميليخوفو ويوفر للزائر الفرصة لكي  يعيش في الجو نفسه الذي عاش فيه تشيخوف في نهاية القرن قبل الماضي . وقد أحسست به قريباً مني أكثر من أي وقت آخر.
بضم المتحف عدة بنايات اكبرها  المبنى الرئيسي -الذي كان يقيم فيه تشيخوف مع افراد اسرته ويحتوي على الجزء الأكبر من الأشياء التي تخصهم .
كانت ماريا ، شقيقة تشيخوف ، معلمة وفنانة تشكيلية بارعة وما يزال العديد من لوحاتها معلقة على جدران غرفتها .وتدور في كواليس المتحف حكايات عن علاقة حب بينها وبين الكاتب ايفان بونين ، وعندما تقدم الأخير لخطبتها ، سألت شقيقها انطون عن رأيه في بونين وهل تتزوجه أم لا ؟ فقال لها قرري ذلك بنفسك . وكان أن رفضت ماريا الزواج من بونين . 
في قصة " ابريق القهوة الثاني " التي ترجمناها عن الروسية ونشرت العام الماضي يتحدث بونين عن الفنانة ماريا ويقول بأنها لم تكن فنانة موهوبة . ويبدو ان ماريا تركت ندبة لا يندمل في قلب بونين .
أما ميخائيل ، شقيق تشيخوف الأصغر ، فإن مذكراته عن شقيقه العظيم ، أصبحت مصدراً مهما لدراسة حياة تشيخوف عموما وعن فترة ميليخوفو خصوصاً .
هنا استقبل الكاتب الأصدقاء القادمين من موسكو. وكان سعيدا دائما لرؤية الضيوف ، وكتب في احدى رسائله : " ان كل مثقف يمر بالقرب من عزبتي يرى من الضروري أن يزورني " . وتحت نافذة المنزل شرفة رحبة كان يفضل شرب الشاي  فيها مع ضيوفه .  ولكن تدفق الزوار على عزبته كان يشغله عن التفرغ لعمله الإبداعي . 
وفي عام 1894 بنى بيتا صغيرا منفصلا يحتوي على غرفتين صغيرتين : مكتبه وغرفة نومه . وتوجد لوحة معدنية بقرب باب المبنى تفيد بان تشيخوف كتب هنا مسرحيته الشهيرة " النورس " .
وتوجد في العزبة بناية كان يستقبل فيها مرضاه ، ويقدم الأدوية اللازمة لهم مجاناً وكان يضطراحياناً لقطع عشرات الكيلومترات للوصول الى مريض في حالة حرجة يإحدى القرى .
وثمة بناية أخرى، يقول عنها المرشدون أنها المدرسة التي أنشأها تشيخوف لأطفال الفلاحين وتوفير كل مستلزمات الدراسة فيها على حسابه الخاص .
أغلب الظن أن تشيخوف – كما قال أحد زملائه الأطباء – قد أصيب بمرض التدرن منذ شبابه . ولم يتم التأكد من ذلك الا في عام 1897 ، عندما تردى صحته كثيرا . وكان نيكولاي تشيخوف احد أشقاء الكاتب قد توفى بهذا المرض قبل ذلك بعدة سنوات . وحين تفاقم مرض تشيخوف عام 1899 ، أدرك - وهو الطبيب المتمرس -ضرورة الإنتقال الى مكان لطيف المناخ ، فباع العزبة وقلبه يعتصر ألماً ،، لأنه كان يحب الإقامة في (ميليخوفو) ، فاختار مصيف ( يالطا ) الساحلية الجميلة في شبه جزيرة القرم ، وابتنى فيه منزلا اطلق عليه أصدقاؤه إسم ( البيت الأبيض ) .
 انتقلت العزبة بعد ذلك من يد إلى يد. وانهار المنزل الرئيسي فيها وتفكك بالكامل ، وظلت العزبة مهملة الى عام 1940 ، حين قررت الحكومة المحلية إنشاء متحف تشيخوف في ميليخوفو . والروس يعتبرون هذا التأريخ عام تأسيس المتحف ، رغم أن العمل الفعلي لم يبدأ في إنشاء المتحف إلا في 29 حزيران عام 1950 ، حيث تم الشروع باعادة بناء منزل تشيخوف وأسرته ، كنسخة من المنزل الأصلي ، ولم تنته أعمال الترميم والإصلاح في ارجاء العزبة الا مع حلول الذكرى المئوية لميلاد الكاتب في 29 يناير عام  1960 . 
في عام 2006 تم افتتاح مسرح " ستوديو تشيخوف " وقد اطلعت على ريبورتوار (برنامج ) المسرح ورأيت ان المسرح يقدم عروضاً مستمدة من قصص تشيخوف : " السيدة " و" الدب" , "المرضى النفسيين " وغيرها .
والى جانب ذلك ثمة  مدرسة تشيخوف المسرحية ، حيث يقوم ممثلون ومخرجون مشهورون بالإشراف على " ورشة الإبداع المسرحي "لطلاب المعاهد المسرحية. ومنذ عام 1982 يقام هنا مهرجان مسرحي دولي يحمل اسم " ربيع ميلوخوفو " .
( العزبة – المتحف ) مؤسسة كاملة تابعة لوزارة الثقافة الروسية ويعمل فيها  123 منتسباً بينهم 11 من الباحثين العلميين والمرشدين الذين يقدمون للزوار معلومات مفيدة وشيقة عن تأريخ العزبة وحياة الكاتب واسرته فيها ، ويزورها سنويا حوالي 150 ألف شخص . وهناك كافتريا واكشاك لبيع منتجات الصناعة الشعبية المحلية والهدايا التي تذكرنا بتشيخوف. 
هل كان تشيخوف جيكياً ؟
كان الكسندر اسماعيلوف ( 1921-1873) أول من نشر عام 1914 كتاباً عن السيرة الحياتية والإبداعية لتشيخوف ، ذكر فيه أنه لم يتم العثور على وثائق أو أدلة تشير الى أصل لقب " تشيخوف " ، ولكن أجداد تشيخوف كانوا يقولون أنهم من أصل " جيكي او " تشيكي "بالروسية ،  وان الجد الاكبر لتشيخوف كان جيكيا لجأ الى روسيا بعد ملاحقته في بلاده لأسباب دينية . وقد تم عن طريق الفحص الجيني إثبات صلة القرابة بين أفراد سلالة تشيخوف القاطنين في كل من روسيا وجيكيا ، وكانت نتائج الفحص مطابقة الى حد كبير ، وشكلت مفاجأة يفضّل الباحثون الروس عدم التطرق اليها. 
سبب وفاة تشيخوف
توفى أنطون تشيخوف يوم 15 يوليو 1904 في فندق بمنتجع  بادينويلر في ألمانيا . وكان الإعتقاد السائد الى وقت قريب انه توفى نتيجة لمرض التدرن ، الذي اصيب به منذ شبابه ،  ولكن التحاليل الكيميائية الدقيقة ، التي اجرتها مجموعة من العلماء البريطانيين في أواخر العام الماضي لقميص كان يرتديه الكاتب ، كشفت بقدر كبيرمن اليقين تحديد سبب الوفاة. على القميص توجد بقع فيها بالإضافة إلى بكتيريا السل، مادة بروتينية، وهذا بالذات ما يدل على احتمال تشكل تخثر في دمه وحدوث انسداد في الأوعية الدموية ونزيف في الدماغ ..
عندما غادرت المتحف ، الذي تحول الى أحد أحب الأماكن لدى الشعب الروسي ، كانت ألوان الشفق تنعكس على صفحة بركة الماء التي كان تشيخوف يربي فيها انواع منتقاة من الأسماك الجميلة ، ومئات الناس من مختلف الجنسيات يغادرون العزبة ،  وعلى وجوه الزوار الروس مسحة من الحزن المشوب بالزهو ، لأن روسيا أنجبت واحدا من أنبغ الكتاب على مدى التأريخ .

مسقبل السلم الدولى والقضية الفلسطينية ما بين خطاب ترامب وضحكات القاعة الساخرة/ د. عبير عبد الرحمن ثابت

تظهر سياسة الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس الحالى دونالد ترامب جانب مهم من طبيعة السياسة والعلاقات الدولية دون أى أقنعة دبلوماسية، فلم تشهد قاعة الجمعية العامة على مر تاريخها خطاب لرئيس أمريكى أو ربما لأى رئيس دولة عظمى بحجم هذا الوضوح الوقح والصادم فى الكثير من جوانبه؛ والفاقد كليا للحد الأدنى من الدبلوماسية والتى من الضرورى أن تتحلى بها مواقف الدول العظمى السياسية.

لقد استعرض ترامب بنرجسيته الساذجة ما أنجزه لبلاده على مدار عامين لتغرق القاعة خلال هذا الاستعراض بسيل من الضحكات الساخرة من قادة دول العالم؛ ضحكات ذات معانى عميقة وبعدها صمت الرجل لبرهة ومن المؤكد أنه لم يفهم تلك المعانى العميقة؛ ليرد بأنه لم يتوقع ردة الفعل تلك من مستمعيه فى القاعة الفاخرة وواصل الرجل خطابه الصادم ليعلن فى مجمل خطابه أن الولايات المتحدة من الآن فصاعدا لن تعطى بل ستأخذ من الجميع، وفى نهاية الخطاب كان واجبا على كل من ضحك سلفا أن يعيد النظر فيما سمع من ترامب،  فالعالم اليوم أمام تحدى كبير بوجود تلك العقلية فى سدة اتخاذ القرار لأكبر دول العالم اقتصاديا وعسكريا. والإدارة الأمريكية اليوم تضع العالم أمام تحديات سياسية واقتصادية كبرى لا يستبعد أن تنزلق لاحقا إلى تحديات عسكرية، ولكن التحدى الأكبر للعالم الذى تفرضه الإدارة الأمريكية عليه هو تحدى أخلاقى عميق الدلالات لأن نجاح سياسات الادارة الأمريكية يعنى ببساطة انهيار تام لمنظومة التعاون والشراكة بين الأمم،  وهو ما سيؤدى حتما  لتقويض دعائم الاستقرار والسلم الدولى.

وهنا على العالم  وبالأخص الاتحاد الأوروبى أن يدرك مدى العبث الاستراتيجى الذى اقترفه عندما وضع جل بيضه فى السلة الأمريكية  قبل أكثر من سبع عقود اعتمادا على شبكة الروابط الاقتصادية والقيم المستركة على ضفتى الاطلنطى، والتى أصبحت ترى الادارة الامريكية بزعامة ترامب أنها روابط ضارة بالولايات المتحدة تأخذ منها أضعاف ما تعطيها.

والجميع اليوم أمام إدارة لا ترى أى بٌعد حضارى إنسانى أخلاقى لدور الولايات المتحدة كقوة عظمى إنما ترى فقط البعد الامبريالى القومى الفاشى لقوتها مستغلة حاجة العالم لها فى تمرير سياساتها الجديدة الموغلة فى القومية بعيدا عن كل قيم الشراكة والتعاون الدولى حتى مع أصدقائها قبل خصومها، ومن الواضح أن الكثير من شعوب العالم ستدفع ثمن تلك السياسات من اقتصاداتها خاصة فى العالم الثالث أو ما يعرف بالدول النامية، فعندما يصبح اقتصاد أكبر دولة فى العالم اقتصاد قومى لا يؤمن بشركة المصالح الاقتصادية  فإن أى نسبة نمو لذلك الاقتصاد تعنى ببساطة خفض فى نسب النمو لاقتصاد ما فى هذا العالم، وكل نصر سياسى لتلك العقلية القومية هو بالتاكيد هزيمة لكل من يؤمن بقيم الشراكة الانسانية المتحضرة وانتكاسة لنهج التعاون الدولى وتقويض للسلم الدولى.

وبكل تأكيد نحن الفلسطينيون من أوائل أولئك الضحايا المرتقبين لإدارة ترامب، فهو عاقد العزم وجاد جدا على تصفية القضية الفلسطينية لأنه يدرك تماما حبة الكرز التى ستتوج كعكة سياساته هى إنهاء الصراع الفلسطينى الاسرائيلى؛ وأن خروجه من البيت الابيض قبل تحقيق هذا الانجاز سيعنى فشلا سياسيا كبيرا لإدارته، ومن هنا علينا أن نتخيل حجم الضغوط التى مورست وستمارس مستقبلا على الطرف الفلسطينى للقبول بالتسوية التى تعرف إعلاميا بصفقة القرن؛ والتى بدأت الإدارة الأمريكية فى تنفيذها واقع على الأرض منذ عام عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل ونقل سفارتها إليها ووقف الدعم لوكالة الغوث وإغلاق مكتب منظمة التحرير فى واشنطن وصولا لوقف المساهمة فى موازنات مشافى القدس، ورغم كل تلك الضغوط لا زالت القيادة الفلسطبنية صامدة فى رفضها لسياسة إدارة ترامب ولا زال الرئيس الفلسطينى المدرك جيدا لأبعاد ما يجرى يقاوم بصلابة تستحق الاعجاب لكل الضغوط الأمريكية متمترسا خلف الشرعية الدولية ومتسلحا بها، وفى المقابل فإن تدعيم هذا الصمود ليستمر يتطلب لزاما ترتيب الفوضى فى الوضع الداخلى الفلسطينى المتمثلة بالانقسام الفلسطينى الذى يفتح الباب واسعا لتمر صفقة القرن بكل سلاسة، فإن مبررات الانقسام الفلسطينى السياسية قد انتهت اليوم بعدما أصبحت القيادة الفلسطينية على يمين حركة حماس فى مواقفها الرافضة للتسوية الأمريكية وبعدما عدلت الحركة ميثاقها واستبدلت المقاومة المسلحة بالسلمية عبر تظاهرات فك الحصار على الحدود الشرقية للقطاع، وبعدما اتخذ المجلس الوطنى والمركزى قرارات متقدمة بتعليق الاعتراف باسرائيل ووقف التنسيق الأمنى معها والتحلل من اتفاق باريس وهى قرارات تعنى فى مضمونها إنهاء اتفاق أوسلو اذا ماوضعت محل التنفيذ.  ولم يعد ثمة اختلاف سياسى بين الطرفين، حتى قضية سلاح التنظيمات العسكرية ليست بالعقبة الواقعية التى تمنع تخطى مرحلة الانقسام إذا ما كان هذا السلاح بين أيادى وطنية تدرك حجم الخطر الداهم على مستقبل شعب يراد له أن يكون من تبقى منه فى فلسطين هنودا حمرا جدد  للشرق الأوسط

إن تضخيم العراقيل وافتعالها أمام إنهاء الانقسام هو جريمة بحق الفلسطينين وخاصة الأجيال القادمة، والوضع  الذى آل له قطاع غزة اليوم هو بالدرجة الأولى مسؤولية أصحاب القرار فيه قبل أى أحد آخر وهم تحديدا ما عليهم اتخاذ القرار الرشيد للخروج من الأزمة التى أحدثتها قرارات خاطئة غير مسؤولة قبل  وخلال عقد من الزمن دفع ولا زال يدفع كل سكان القطاع ثمنها، وقطاع غزة اليوم بمشكلاته المزمنة وبحالته الاشكالية الاقتصادية والسياسية  أكبر من أن يتحمل مسؤوليته دول فكيف يمكن لحركة فعل ذلك؟

لا أحد بمقدوره تحمل عبئ غزة ولن يقبل أحد أن تلقى غزة فى حجره وهو ما يعنى ببساطة أن أى شئ  لن يتغير فى غزة ما لم تكون تحت حكم السلطة الشرعية التى يعترف بها العالم، تلك حقيقة سينتهى الانقسام عندما يدركها أصحاب القرار فى غزة ولو أنهم أدركوها باكرا لما وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم، ولا ما تجرئ الرئيس ترامب على أن يحلم مجرد الحلم بانهاء القضية الفلسطينية بصفقة كتلك التى ينفذها اليوم والتى يمثل الانقسام الفلسطينى حجر الزاوية فيها.

إن تقويض صفقة القرن هى بالأساس مهمة فلسطينية، ولكن على العالم أن يشارك الفلسطينين ويدعمهم إن أرادوا للأجيال القادمة فى العالم أن تعيش فى عالم متحضر تسود فيه قيم الشراكة والتعاون والحرية والعدالة  والسلم والأمن الدوليين بحدودهم الدنيا، لأن تمرير صفقة القرن هو تقويض لكل تلك القيم التى هى فى الحقيقة باكورة التقدم الحضارى الانسانى للبشرية جمعاء .

الولايات المتحدة، بين الحاجة إليها والاستغناء عنها/ د. عادل محمد عايش الأسطل

حتى قبل تولي "دونالد ترامب" رئاسة الولايات المتحدة، كانت شخصيّته تنضح بانحيازه العملي لإسرائيل، حيث أثبت ذلك، منذ اللحظة الأولى من تعداد أعضاء إدارته، ومن ثمّ جلوسه على التلّة، حيث بدأ بإجراءات نادرة نحو تشييد علاقات (شاملة)لا سابق لها مع إسرائيل، وسواء بالنسبة لتصوراته الأمنية الواجب تحقيقها، أو لإسناد شخصيّتها داخل المؤسسات الدولية.

حيث حصلت إسرائيل على تصورها الأمني الكبير، والذي لم تنله في أي وقتٍ مضى بصورة جوهرية، وهو التعمّق أو (الاندماج)الحقيقي بقوّة عظمى، باعتبار أن التحالف الاستراتيجي القائم بينها وبين الولايات المتحدة منذ العام 1981، برغم نجاحه في استخلاص كافة الأغراض منه، لم يكن مكتملاً كما هو الآن.

 أيضاً، وفي ضوء قيامه بالتنكّر لالتزامات أمريكية سابقة، وسعيه باتجاه تقويض حل الدولتين، فإن إجراءات "ترامب" والتي على رأسها، قيامه بإجراءات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، هي التي جلبت أغضاب الفلسطينيين، خاصة المؤسسة الرئاسية، حيث ساهمت في تنفيذ بعض الشعائر الاحتجاجية، وبدرجةٍ أقل، الجمهور الأوروبي، الذي عبّر عن أسفه لتلك الإجراءات، وبدرجة أكثر انحداراً، النظام العربي، الذي حالفه الحظ، في تكوين بعض العبارات الرافضة لها، باعتبارها غير متوقعة.

بعد كل إجراء، كان "ترامب" على عكس ما توفره الطبيعة لكل نفس، من الالتزام بالصبر بعد كل حادثة، حيث أصبح مستمراً في اتخاذ المزيد من الإجراءات وسواء المحاذية لإسرائيل، أو المتنافرة مع الفلسطينيين على نحوٍ خاص، والتي كان آخرها إغلاق الممثلية الفلسطينية في واشنطن، وقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية، حتى تلك الموجهة إلى مجالي التنسيق الأمني والتطبيع.

كانت تلك السياسة ولا تزال، (أهم لبِنة) لا في التصور الأمريكي وحسب، بل في التصور الإسرائيلي أيضاً، باعتبارها وخلافاً لرغبة الفلسطينيين، الكفيلة التي بإمكانها المساهمة في تهيئة الظروف المواتية، لإنجاح صفقة القرن، التي من المفترض أن تخرج إلى حيّز الوجود قريباً.

إن الحسم في أي أمر عند حدوثه، هو أمرُ جيّد، خاصة وأن السلطة الفلسطينية، قفزت خطوات هامّة، نحو إعادة النظر في الرعاية الأمريكية لمسيرة السلام، لا سيما وأن الرئيس الفلسطيني "أبومازن" أعلن رفضه وفي كل مناسبة، وسواء للإجراءات الأمريكية المتواترة، أو لاستمرار واشنطن بمتابعة دورها كوسيط أول للسلام، وأعلن عن عزمه بالوصول إلى جهات دولية أخرى للحلول محلها، وكان قد هاجم أواخر الأسبوع الماضي، خلال كلمته أمام الجمعية العامة "ترامب" بسبب سياساته تجاه الفلسطينيين، واصفا إياها بأنها اعتداء سافر على القانون الدولي.

لكن مع عدم وجود بدائل، أو التعلق ببدائل وخيارات وهميّة، لمساندة القضية الفلسطينية، فقد يعمل ذلك العدم، على استلام المزيد من الخسارة، لاسيما وأن العناصر الاخرى من المنظومة الدولية، تعتبر في عداد المفقودين، خاصة وأن أياً من تلك العناصر، ليس في واردها مواجهة الولايات المتحدة، كما ولن يكون إبداء أي إجراء صارمٍ ضد إسرائيل، باعتبارها قوّة إقليمية مهمّة، تُسهم في الأمن الدولي من جهة، وفي الحضارة الغربية من جهةٍ أخرى.

 على أي حال، قد يكمن فهمنا أحياناً، في أن إصرار "أبومازن" في تحديد سلوكه على هذا الشكل، هو لإدراكه بأن تكون هناك تغييرات أو تقلّبات جادّة، وسواء داخل الولايات المتحدة نفسها، أو في توازن القوى الدولية لصالح القضية الفلسطينية، ولكن تلك التغيرات بقدر ما هي لدى الكثيرين حول العالم، لا تبدو ممكنة، نتيجةً للمعطيات القائمة، فإنهم من جهةٍ أخرى، يشهدون، بأن القضية الفلسطينية، لا تزال في حاجة إلى الرعاية الأمريكية، حتى في حال استمر "ترامب" في سياسته، باعتبارها من الحقوق الأمريكيّة المحفوظة. 

الحرب هي على انجازات أسرى فلسطين/ جواد بولس

لم يحظ إعلان وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، جلعاد أردان، عن تشكيل لجنة خاصة لفحص شروط معيشة الأسرى الأمنيين الفلسطينيين في سجون الاحتلال،  بعناية فلسطينية تتناسب وخطورته؛ لا سيما بعد توضيح الوزير بأن اللجنة مطالبة وموكلة بوضع توصيات من شأنها المساس بحقوق الأسرى، المكتسبة منذ عشرات السنين، وحصرها في نطاق الحدود الدنيا التي تتيحها القوانين وأنظمة مصلحة السجون الإسرائيلية الجائرة.  
من الضروري أن نرى كيف تجاهر حكومة إسرائيل الحالية بنيّتها وبإصرارها على محاربة "الحركة الأسيرة الفلسطينية"، فوزراؤها يتنافسون بإطلاق التصريحات العدائية، ولا يتسترون على تحريضهم، الذي استهدف ويستهدف القضاء على منجزات "الوضع القائم" داخل السجون.
يسعى قادة اسرائيل من أجل محو الصدى الذي يعكسه هذا الواقع وآثار تلك الصراعات الندّية الطاحنة التي اجتازتها عناصر الحركة الأسيرة ، خلال مسيرتها الطويلة، بما يلامس المعجزات، حين حوّل آلاف الأسرى والأسيرات تجارب اعتقالهم المريرة إلى ملاحم تجدّد فيها الارادة الفلسطينية تفوّقها على سجّانها وتثبت للعالم وللمحتلين ان للحرية في فلسطين شمساً لن تحجبها أبواب الفولاذ، وروحاً تعاف أقفال الكراهية، وعزيمة لا يفتّها قمع الطغاة.
باشرت اللجنة عملها ومن المتوقع أن تصدر توصياتها بعد فترة الأعياد اليهودية الحالية أو قبل نهاية العام الجاري؛ إلا أنّ مصلحة السجون قد شرعت بتطبيق هذه التوصيات في بعض السجون ، وفقًا لما رواه الأسرى لمحامي "نادي الأسير الفلسطيني"؛  فقامت ادارة سجن  "هداريم" مثلاً بسحب حوالي 1800 كتاب كانوا في متناول أيادي الأسرى الفلسطينيين ؛ كما وأعلمتهم أنها بصدد تنفيذ قرارات جديدة. 
وفي تقرير آخر  تبيّن لمحامي نادي الأسير أن الأسيرات في سجن "هشارون" خضعن لنفس الإجراء وذلك عندما زارهنّ أعضاء "لجنة أردان" وحققوا معهن حول أوقات خروجهن للساحات وللفورة ، وحول تفاصيل ادارتهن للمطبخ ونوعية الأكل وكمياته وعن الكنتين وعن العلاقات التنظيمية والاجتماعية بينهن وما إلى ذلك .  
كما وتبين أيضًا أنه في أعقاب تلك الزيارة قامت الادارة بتشغيل كاميرات المراقبة الموجودة في جميع مرافق السجن، علمًا بأنها كانت معطلة منذ سنوات بمقتضى اتفاق أبرمته الأسيرات مع المسؤولين في حينه.
لم تتوقع الأسيرات هذا الاستفزاز الفوري فأعلنّ عن بعض الخطوات الاحتجاجية وعن استعدادهن للتصعيد إذا لم تتراجع الادارة عن قرارها؛ لإنهن يعرفن أنّ فشلهن سيمحو جميع انجازات الماضي ويُحكم على رقابهن عقدة  "الهاء" في أنشوطة النكسة !  
على جميع الأحوال فنحن في "نادي الأسير الفلسطيني" ، وبناء على تجاربنا الطويلة ورصدنا لتأثير تداعيات الحالة الفلسطينية العامة والخاصة بالسجون، نرجّح أن الأمور ذاهبة في اتجاه تصعيد خطير؛ فالقضية ، كما يفهمها الاسرائيليون، أكبر من وجود كاميرا وأهم من وجبة وأخطر من كنتينا وكتاب؛ إنها فرصتهم ، هكذا يتخيلون، بالقضاء على وجود هذا "الكائن" ونسفه من الجذور ، وتحويل أعضائه، أسرى الحرية الفلسطينيين،  إلى مجرد "جناة وارهابيين" يتذللون عند عتبات سجانيهم من أجل قطعة صابون أو كسرة خبز او فرشة وحبة دواء، وذلك كما كان أردان قد صرّح بعظْمة لسانه قائلاً: "على اللجنة أن تفحص امكانيات تشديد ظروف معيشة الأسرى الأمنيين"؛ وأضاف متباهيًا بأنّ هذه الخطوة تأتي كخطوة متممة لمنعه زيارات أعضاء الكنيست العرب لدى الأسرى الأمنيين ولمنع زيارة بعض الأهالي ولمنع اعادة جثامين بعض الشهداء، ومنوّهًا إلى أنه "علينا أن نتذكر بأن الأسرى الأمنيين هم ارهابيون ساندوا أو شاركوا بتنفيذ عمليات إرهابية ضد المواطنين في اسرائيل..".           
لقد حذرنا في الماضي من هذه السياسة، فقيادة اليمين الاسرائيلي الحاكم استوعبت جيدًا أن نقطة التماس الوحيدة الساخنة المتبقية بين الاحتلال وبين من يقاومه تتجلى بشكل يومي في السجون، وذلك بسبب وجود ودور الحركة الأسيرة بهيئتها وهيبتها المكتسبتين منذ عقود، وتحوّلها إلى كيان جامع لم يقوَ عليه القهر، ولم يكسره القمع ولا التعذيب ولم تشوّهه عتمة الزنازين.          
لقد اعترفت أسرائيل بعظَمة ما حققته "الحركة الأسيرة الفلسطينية" من خلال أجيال المقاومين الأوائل ومن تلاهم في مسيرة الكرامة المشعّة؛ وقد شهد العالم كله كيف بنى "سكان الزنازين" صرحًا، عرّى، ببعديه المجازي والواقعي، ممارسات الاحتلال وفضَح موبقاته وأحيى بالمقابل،  بتضحيات اعضائه الجسيمة،  "لحاء الانسانية" المزروع  في سحر حياة كل ثورة وكل شعب يسعى للتحرر ؛  فحيثما يوجد احتلال وقمع توجد مقاومة وحبس، وحيثما يوجد حرمان وأسر، يبزغ الأمل ويولد المستقبل من رحم اليأس. إنه قانون الحرية الخالدة كما جسّدته هذه الحركة؛  فالفلسطيني الأسير أصبح حرًا في أصفاده، بينما صار الإسرائيلي الغاصب المحتل عبدًا لعنجهيته ، مأزومًا في "سجنه".           
لقد توقعنا تعاظم محاولات إسرائيل  لقصم ظهر هذه الحركة الفذة، بالذات في ظل الانقسامات الداخلية التي بدأنا نشهد اتساع دوائرها داخل السجون وتحوُّلها إلى مناكفات صاخبة بين مراكز  قوى فصائلية جديدة متنافسة على "السلطة" وعلى التأثير داخل معظم السجون.
لم تتدخل اسرائيل، في البداية، في حروب "الاخوة الاعداء"، بل وقفت ترقب تنامي هذه التصدّعات وهي تصير جروحًا دامية وتوفر عمليًا لإجهزتها الامنية فرصًا ذهبية لزرع الأسافين ولاسترضاء جهات على حساب جهات.
اليوم وبعد هذه السنين تقف الحركة الأسيرة أمام مفترق خطير ؛ ومع أنها كانت، بشكل من الاشكال، ضحية لانقسامات الخارج ولتصارع القادة في الفصائل ولحروب "الامارات" على السيادة والمحافظات، تتحمل هي قسطًا من المسؤولية وتبقى سيدة حاضرها  والمؤتمنة على مصيرها.
فرغم ما شهده تاريخ فلسطين الحديث من صراعات على المواقع وعلى مصادر القوة، نجحت الحركة الأسيرة، حتى بداية الالفية الثالثة، بتحييد تأثير هذه العوامل، وحافظت على كونها صمام أمان للحركة الوطنية وبوصلة لنضالها ؛ وشكلت -من خلال فهم قيادييها لمكانتها الفريدة ولمسؤوليتهم التاريخية، خاصة في زمن الأزمات - منصّة حسمت مرارًا نبض الشارع وزوّدته  بالأمل وبالهدف وبالشعار السليم.
لقد أحسّ السياف بارتباك "فريسته"  فحاصرها بغريزة الصياد الماهر الحذق وأخذ يرميها بسهامه وينتظر، ثم يرميها و يتأهب لانزال ضربته القاضية، التي لن ترحم أحداً فيما نرى، لا مَن وقف في وجهه ولا من تهاون واستظل بفيء "سلطان" ، كان معلمَيه عرقوب والعقرب النزق.
هل يمكن افشال توصيات "لجنة اردان" ؟
قبل الاجابة بنعم على هذا السؤال يجب على جميع الفلسطينيين أن يؤمنوا بضرورة خوض هذه الحرب وبضرورة الانتصار بها؛  لأنها ليست، كما يدّعي البعض، مجرد معركة صغيرة في حسابات المصائر والوطن؛ 
فصحيح أن مصير القضية يتأرجح على وتر وسيبقى هو وجع الوجع؛ وصحيح أنّ هذا "العالم" ظالم وعاهر، وصحيح أنّ معظم الاشقاء دهاة "وخناجر "؛ ولكن مع كل هذا ، أو ربما بسببه، نقول أن الايمان بضرورة انقاذ الحركة الأسيرة سيكون أول عرابين الصمود الفلسطيني والضمانة لبقاء الحصن في الواجهة والحصانة في وريد "القضية".
النصر ليس مستحيلًا، فلا تدَعوا ، أنتم الذين في السجون، ومثلكم من في رام الله ومن في غزة، أردان ينجح في حربه؛ لأنكم إن سقطتم فستكتمل هزيمة الشعب الكبرى، وسينتظر بعدها  "أفراخكم" طويلًا سماد السماء وانفطار القمر. 

لك ولكل السيدات/ فؤاد الورهاني



وجهك رسمتو بزحمة الاشواق 
 مطرح مشمس الصبح عم تطلع

عبّا بجمالو فسحة الافاق
 صار الشفق منظر الي اروع

نهاري بدون الصبح ما بينطاق 
وصبحي عوجهك اجمل وابدع

قطر الندى شربتو عن الاوراق 
 قلي الندى من ريقك المنبع

العرب في أوروبا.. سيكولوجيا الاغتراب.. أزمة انتماء وهوية رمادية/ حسن العاصي

الاغتراب كان وما زال قضية الإنسان أينما وجد، فطالما أن هناك فجوة شاسعة بين الأحلام الفطرية للبشر وبين واقعهم، وطالما أن هناك تعارضاً واضحاً بين القيم النظرية والمثل الإنسانية وبين حقيقة السلوك البشري، وهناك خللاً في العلاقة بين الإنسان والآخرين، واضطراباً في علاقته مع ذاته، وعدم التماهي بين الفرد والمجتمع، فلا بد أن يشعر الإنسان بالاغتراب وإن تعددت المجتمعات واختلفت، وإن تعاقبت العصور كذلك تظل قضية الاغتراب السمة المشتركة لجميع الذين يعانون من وجود شيء ما يفصلهم عن واقعهم وعالمهم.
إن ظاهرة اغتراب الفرد عن محيطه لم تعد السمة التي يعاني منها فقط المبدعين من الشعراء والكتاب والفنانين، بل تحولت إلى حالة شبه عامة يكابد مفاعيلها الجميع.
في الوقت الذي تتواتر فيه الهزائم والانكسارات على امتداد العالم العربي، يتضخم معها الإحساس بالإحباط والشعور بالخيبة لدى أبناء المجتمع كافة، خاصة شريحة المثقفين والمبدعين الذين تبدأ علاقتهم مع السلطة السياسية بكل دلالاتها في التأزم، نتيجة اصطدام طاقاتهم الإبداعية ورؤيتهم وأحلامهم بواقع قاتم مستبد، مما يؤدي إلى حالة من الاغتراب يعيشها المثقفين والمبدعين الذي يفضل جزء منهم الاستسلام والانكفاء على الذات.
حتى في بعض الدول الغربية التي تعاني من ظروف معيشية متردية بسبب الضائقة الاقتصادية، وتعاني كذلك من انعدام المساواة وغياب بعض الحريات في مجتمع رأسمالي، فإننا نجد الناس تميل إلى الانكفاء على أنفسها نتيجة الإحساس بالاغتراب، خاصة أولئك الذين يخفقون في تحقيق أي نوع من الانسجام والتماهي مع أعراف وثقافة وتقاليد وقوانين المجتمع، فتلجأ إلى الانعزال والانسحاب والانكفاء.
الاغتراب كمفهوم
يعود استخدام مصطلح الاغتراب منهجياً للفيلسوف الألماني "هيغل" الذي اعتبر أن الاغتراب هو قيام الفرد بنفي ذاته عن نفسه كفاعل مؤثر، فيتحول إلى مفعول به، فيكون غريباً عن محيطه، لا ينتهي هذا الاغتراب إلا حين يتماثل الإنسان بنفسه مع موضوعه وأهدافه، من خلال صنع هوية ثابتة تخصه وحده من خلال عنصر أخر "الوطن، العمل، العقيدة"، واعتبر أن للاغتراب وجهان، أحدهما سلبي يؤدي إلى الانعزال، والآخر إيجابي يوصب للإبداع.
ويستخدم مصطلح الاغتراب للدلالة على حالة ضياع الإنسان والتيه الذي يصيبه، والشعور بالغربة عن نفسه وعن المحيط الذي ينتمي إليه، وكذلك هو اغتراب الفرد عن المنظومة السياسية والاقتصادية والحقوقية والثقافية.
الاغتراب توصيف يشير إلى حالة من العجز عن تحقيق الانسان لتطلعاته، واللامبالاة التي يبديها تجاه الأحداث المحيطة، ثم الانفصال عن واقعه ومجتمعه، هذا يؤدي إلى انعزال الانسان عن الآخرين وانكفاءه على ذاته، وشعوره بالقهر ولانسحاق والطحن والتفتت، فيصاب بالتسليم والاستكانة ثم الانقياد.
يفقد الإنسان الذي يعاني الاغتراب الضوابط المعيارية التي تحكم سلوكه ومواقفه، ويعاني من الإحساس بفقدان المعنى لكل شيء، ويقطع صلته مع حركة المجتمع، ويصاب بالفكاك الثقافي، واغتراب عن وجوده الحقيقي وقيمته الروحية. ونلاحظ الطابع التشاؤمي لديه نتيجة الانغلاق والتقوقع على حاله، فيصاب باستسلام للقدر، وحالة من الإحباط الشديد يبررها أن كل شيء أصبح عبثياً بالنسبة له، وأن الإحساس بالفراغ واللا جدوى يسيطران عليه، فيستوي الموت مع الحياة من وجهة نظره بسبب الاكتئاب، ثم يجد أن لا خيار متاح أمامه سوى الرضوخ والانصياع للشرط السياسي والاجتماعي والديني.
الناس الذين يصابون باغتراب عن أنفسهم ومجتمعهم، يكرهون العمل والإنتاج ويفقدون الإبداع، خاصة الشريحة المثقفة، نتيجة الإحساس بأن مجتمعهم لا يقيم للإبداع قيمة، ولا يهتم بالطاقات الخلاقة، وأن غاية السلطة السياسية هي تحويل الإنسان إلى مجرد ماكينة تؤدي وظيفة محددة وعملاً معيناً، دون أية اعتراضات بعد أن يتم تفريغ الفرد من الجوانب الروحية وقتل شغفه.
قد يؤدي الشعور بالاغتراب إلى الانتحار خاصة لدى المبدعين الذين لا يمكنهم الانصياع ولا التكيف، كما حصل مع العديد من الأسماء في الوطن العربي أو الغرب، أذكر منهم الكاتب الأمريكي "إرنست همنغواي" الذي انتحر العام 1961، الشعر اللبناني "خليل حاوي" العام 1982، المغنية المصرية-الإيطالية "داليدا" العام 1987، الممثل الأمريكي الحائز على جائزة الأوسكار "روبن ويليامز" العام 2014، وآخرون. فيما يسعى آخرون لاستعادة مكانتهم من خلال التمرد والثورة على ما هو سائد في المجتمع.
الاغتراب كظاهرة يأتي أيضاً نتيجة جملة التحولات المجتمعية الجسيمة، والمتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية كما تلك التي تولّدت في المجتمعات العربية، بسبب السياسات القهرية الكبتية التي تنتهجها معظم الدول العربية التي تُظهر وجهاً حضارياً وسلوكاً استبدادياً.
 فالوطن العربي الذي أضحى معقلاً لفنون الاستبداد والقتل والظلم والرياء، وعنواناً للفقر والجهل والبطالة والتخلف والعنف، تسبب في إحداث شرخ بكينونة وشخصية الإنسان العربي، وسلبت منه دوره وحقوقه، فأصبح فرداً انهزامياً ومرتبكاً وتائهاً، فقد التحكم بحياته، وصار خاضعاً للقمع وإخضاع من قبل قوى سياسية واجتماعية، بدءًا من البيت والأسرة مروراً بالسلطة الدينية ورموزها، انتهاء بالسلطة السياسية ودلالاتها وأدواتها المتعددة.
هذا القهر والقمع والاستبداد الذي تتسم به غالبية النظم السياسية والاجتماعية العربية، هو أحد أهم أسباب التفكك والانحلال السياسي والاجتماعي والديني في بلادنا، ويشكل خطراً يهدد الوحدة المجتمعية، ويعيق الاتصال الحضاري والإنساني مع بيئات أخرى متنوعة.

العرب في أوروبا
العرب المقيمون في القارة الأوروبية هم كتلة غير متجانسة، لا من حيث جذورهم الجغرافية، ولا من حيث التركيبة العمرية والمدة التي قضوها في مجتمعاتهم الجديدة، ولا من حيث تحصيلهم الدراسي والعلمي أو تكوينهم المهني.
تعود هجرة العرب نحو أوروبا في العصر الحديث إلى نهاية القرن التاسع عشر، واقتصرت على المئات من دول المغرب العربي نحو فرنسا، وبأعداد اقل من المشرق العربي، وهجرة بعض أبناء اليمن والعراق وفلسطين نحو بريطانيا، وكذلك بعض الليبيين نحو إيطاليا. لكن هذا الوضع تغير تماماً مع وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم تجنيد عدد من العرب ضمن قوات الحلفاء في مواجهة القوات الألمانية النازية والفاشية الإيطالية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تدفق إلى دول لأوربية مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولاندا، مئات الآلاف من الأيدي العاملة العربية، معظمهم من دول شمال افريقيا، حيث كانت هذه الدول الخارجة من حرب مدمرة تبحث عن ايادي عاملة رخيصة، لإعادة إعمار وبناء ما هدمته الحرب. ثم التحقت بهم عائلاتهم في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
وعلى الرغم من أن الجاليات العربية كانت -بمعظمها- متماسكة في الفترات الأولى لوجودها في أوروبا ومرتبطة ببلدانها، وبالأحداث التي تعصف بالمنطقة العربية، وتقوم بتوحيد جهودها التضامنية مع القضايا العربية الكبرى وأهمها القضية الفلسطينية، إلا أن هذا الحال لم يدم طويلا.
في بداية العقد الأخير من القرن العشرين، ومع اشتداد الخلافات العربية-العربية، واتساع رقعة الخلافات بين العديد من الدول العربية، تغير حال الجاليات العربية المقيمة في أوروبا، حيث انعكست عليهم هذه الخلافات، واتضح أنهم -بشكل عام- لم يهتموا بتنظيم وجودهم في البلدان المضيفة، ولم يقوموا ببناء مؤسسات ولا أطر لنشاطهم، ولا هيئات ترعى شؤونهم، وأنهم -بمعظمهم- لم يندمجوا في مجتمعاتهم الجديدة، ولم يتمكنوا أيضاً من دمج نشاطهم وحراكهم المجتمعي والثقافي حراك المجتمع الآخر. ولم تهتم الجاليات العربية بالنشاط السياسي والحزبي من خلال الانخراط في عضوية الأحزاب الأوروبية، بالرغم من أن العديد منهم كان قد تمكن من الحصول على جنسية بلد الإقامة. لكن هذا الحال قد بدأ في التغير الإيجابي خلال الفترات الأخيرة نتيجة قدوم اللاجئين السوريين والفلسطينيين السوريين.
لقد ألقت الخلافات العربية-العربية بثقلها على العرب في أوروبا الذين تفاعلوا مع الأحداث الجارية في بلدانهم الأصلية، مما أثار الشقاق بينهم، ووصل الأمر إلى حد الخلافات بين أبناء القطر الواحد على خلفيات إثنية ومذهبية وقبلية، مما أعاق توحيد جهود هذه الجاليات العربية في الدفاع عن مصالحها ومستقبلها في مكان إقامتها، وبالتالي أجهض كل محاولات اندماجها ومشاركتها الإيجابية.
قد وصل الخلاف إلى مستوى تدخل ومشاركة أعضاء بعض البعثات الدبلوماسية لبعض الدول العربية في أوروبا، الذين كان لهم دوراً سلبياً في إثارة بعض النعرات المذهبية والعرقية، ومحاولتها السيطرة على نشاط الجالية، واستقطاب القائمين على بعض المؤسسات إضافة إلى النشطاء، لصالح الأنظمة العربية التي تمثلها هذه البعثات.
وتم تغليب الخلافات القطرية على حساب القضايا التي تجمع العرب وما أكثرها. وجرى العزف على وتر الانتماءات الدينية والعرقية لشق صفوف الجاليات العربية في أوروبا. فانقسم القادمين من بعض الدول العربية بين عربي وكردي، وعربي وأمازيغي، بين سني وشيعي، بين موالاة ومعارضة، بين ملتزم وعلماني، بين مندمج ومتحفظ، بين من يشجع الانخراط في الحياة السياسية للبلد المضيف ومن يرفضها بالمطلق، بين من يريد أن يدفن في البلد المضيف ومن يتعجل العودة إلى وطنه الأم لكن الأبناء لا يقبلون.
كل هذه الثنائيات المتناقضة في مشهد حياة العرب بأوروبا جعلتهم معظمهم- تائهين مشتتين غير منظمين، لا يمتلكون اية رؤية استراتيجية ويفتقدون التنظيم، مما أضعف من مشاركتهم في الحياة المجتمعية، وجعل منهم ورقة ضعيفة في مهب ريح صناع السياسة الأوروبية. وربما يتغير الحال مع الجيل الثالث والرابع من المهاجرين العرب، ومع دخول عدد من الكفاءات العلمية يحملها شبان وصلوا أوروبا ضمن موجات الهجرة الحديثة.

اغتراب واضطراب
أمام تصاعد الأحزاب اليمينية القومية المتطرفة في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، واتساع رقعة الكراهية والعداء ضد العرب والمسلمين، بل وضد كل من هو من غير العرق الأبيض، من مواطني القارة الافريقية والدول الآسيوية وأولئك القادمين من أمريكا اللاتينية. هي حالة عداء عرقي وقومي وإثني، باتت تشكل خطراً على الوحدة الأوروبية وعلى كل من هو مغترب في بلدان القارة الأوروبية.
في خضم هذه المعطيات البغيضة يجد العرب القاطنين في أوروبا أنفسهم أمام وضع مربك وشائك وخطير، ويشعرون بالاستياء الشديد والغضب خاصة بين أوساط الشباب من الجيل الثاني والثالث، وأصبحوا يعانون من صعوبة في التكيف مع محيطهم، نتيجة للسياسات الخاطئة التي اعتمدتها العديد من الدول الأوربية نحوهم، مما أدى إلى تهميشهم وإقصاءهم، وعدم احترام خصوصياتهم الثقافية واللغوية والعرقية والدينية في بعض الدول الأوروبية بضغط من الأحزاب اليمينية، وكذلك فشل جميع المقاربات التي اعتمدتها أوروبا في إدماج المهاجرين بالمجتمع.
في دول جنوب ووسط وشرق أوروبا يعاني العرب وخاصة الشباب من تدني فرصهم في الحصول على عمل أو وظيفة بأربع مرات عن غيرهم، ولا يحصلون على فرص متساوية في التعليم والتعليم المهني، ويشكون من السلوك العنصري الرسمي والشعبي، ومن كراهية المجتمع لهم، ومن وفرة الوقت الضائع، يتعرضون لإقصاء اجتماعي، ولديهم ما يكفي من مشاكل العيش وصعوبة الوضع في دول متطورة وتوفر العدالة الاجتماعية لمواطنيها، لكنها تحرم المغتربين من المساواة.
سياسة التغييب والاستبعاد هذه أسقطت سياسة الاندماج، وبالتالي سقوط المغتربين في طاحونة الاغتراب، والدخول في حالة من الانعزال والتراجع، وتولّد الإحساس بالغربة في المجتمع الجديد، اغتراب قد يصل بالمرء بفعل الضغوط إلى حدود الانهيار. هذا الشعور بالاغتراب يدفع الانسان للقطيعة مع محيطه والتبرم من قيمه وثقافته، ثم الانكفاء والتقوقع ضمن جماعات عرقية أو إثنية صغيرة لكي يحافظوا على أنفسهم، هروباً من مجتمع باتوا يؤمنون أنه لا يريدهم وأنه يحاول سلبهم هويتهم وثقافتهم، ومن هنا تتوفر البيئة التي يبحث عنها الفكر المتطرف لدى الشباب.

استقطاب ديني
إن الاستقطاب الديني خلال السنوات الماضية للعرب المقيمين في أوروبا، عرقل بشكل ملحوظ اندماج هؤلاء وأبناءهم في المجتمعات الجديدة، وجعل ارتباطهم بالقضايا العربية يحدده العنصر الديني، مما أبعد أيضاً كثير من الناشطين الأوروبيين عن المشاركة بأية فعاليات تضامنية أو مظاهرات مع العرب، لأن دوافعهم للمشاركة هي دوافع إنسانية يمليها الجانب الأخلاقي لا الديني. وهذا ما شاهدنا ونشاهده باستمرار في العديد من العواصم الأوروبية، إذ لا يرغب الفاعلين الأوروبيين في المشاركة بأنشطة يتم من خلالها إقصاء المفاهيم الإنسانية ويحضر فيها الانتماء الديني بشكل جلي، لأنه يحرض الآخرين على مهاجمتهم من أتباع أديان أخرى، ويمنح اليمين المتطرف الذريعة لتصعيد خطابه المعادي للعرب والمسلمين، حيث يعتمد بعض قادة هذا اليمين خطاب التنبيه من خطر "الغزو الإسلامي" لأوروبا، يقابله خطاب آخر محافظ من جانب بعض الجهات المسلمة التي تغذي روح العداء "للصليبية واليهودية".

أزمة هوية
واقع الجاليات العربية في أوروبا الذي يفتقد لمنهجية عمل مشتركة، وسياسات الإقصاء والتهميش التي تعتمدها بعض الدول الأوروبية، أدت إلى ظهور أزمة هوية لدي الجيل الثاني والثالث من المهاجرين. فلا هم ينتمون إلى بلدان آباءهم وأجدادهم، ولا هم ينتمون إلى بلد إقامتهم، على الرغم من أن عدداً منهم قد ولد في هذه البلاد ويحملون جنسيتها ويتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة. وتستغل الأحزاب اليمينية هذه الظاهرة للقول إن المهاجرين يجدون صعوبة في الاندماج.
الواقع العربي الراهن المتأزم، والذي يعاني من انسدادات سياسية واقتصادية وثقافية، يدفع عدد من العرب للإصابة بمتلازمة الهزيمة الحضارية التي تعاني منها الأمة العربية، لأن الانكسارات التي أصبحت سمة للعرب، وكذلك التخلف والجهل والجوع والأمراض والحروب والأمية والقمع والعنف، كلها مرادفات للعرب، فأصبح الكثيرون من العرب في أوروبا يشعرون بالخجل والعار لانتسابهم للأمة العربية، حتى صار اللغة العربية وتراثنا موضع خجل من قبل البعض. إن سعي البعض للتنكر للهوية هو سلوك يهدف إلى إزاحة مسؤولية الهزيمة التي نعانيها عن كاهله، فتراه ينسلخ من هويته الحقيقية ويحاول أن يجد لنفسه هوية أخرى تعوضه عما فقده.
وأمام التجاذبات السياسية والدينية بين أفراد الجاليات العربية في أوروبا، تبرز بعض الأصوات التي تقدم تفسيراً ضيقاً ومحرفاً للنصوص الدينية وللفكر الإسلامي. الأمر الذي يمنح القوى اليمينية الأوروبية المتطرفة الحجة والذريعة لمواصلة هجومها على العرب والمسلمين، ويعطي خطابها نوعاً من المصداقية أمام مؤيديها.
ثم يظهر في المشهد سلوكاً مرعباً من بعض العرب والمسلمين لتكتمل الصورة. هذه التصرفات نتيجة متوقعة للأثر الذي تحدثه بعض المفاهيم المتطرفة لدى قسم من رجال الدين المسلمين، ونتيجة الفهم الخاطئ للعقيدة الإسلامية. فلا عجب في أن نرى سائق حافلة مسلم في إحدى المدن البريطانية، أوقف المركبة بعد أن أغلق الأبواب وأدى صلاته في الباص. ولماذا الاستغراب إن قام أحد العرب أو المسلمين في قتل أخته أو زوجته أو ابنته بدافع الحفاظ على الشرف. ثم يظهر لك إمام مسجد في بريطانيا أو فرنسا أو هولاندا، ويقوم بتحريض المهاجرين المسلمين على عدم الانقياد والانصياع لقوانين البلدان المضيفة لأنها "بلاد حرب" وقادتها من "الكفار" والمسلمين فيها يجاهدون لأجل بسط الهداية. نعم هي تصرفات محدودة لكن للأسف فإن الأثر الذي تخلفه مسيئاً جداً إعلامياً وتعبوياً.
إن سؤال التاريخ باعتباره جزء من مكونات الهوية لا يجب إسقاطه ونحن نتحدث عن اندماج العرب في المجتمعات العربية، خاصة الشباب الذين تقتضي هويتهم المزدوجة انفتاحاً على الآخر، وإحداث مقاربة متوازية تحفظ حقه في معرفة أصوله ووطن أبويه وأجداده، وتاريخه ولغته الأم. ولا تتطلب مواجهة سياسة اليمين الأوروبي -بظني- انغلاقاً من العرب وتصلباً في مواجهة الآخر. فهوية المهاجرين العرب بعمقها التاريخي والقومي هي قضية ثابتة وليست في حالة جمود، لأنها في الأصل حصيلة وخلاصة لتاريخ طويل وممتد من التجارب الثقافية والانصهار الحضاري، وكذلك المزج الإنساني، لذلك فهي عملية تفاعلية تمالك قابلية التغير والتكيف والتعايش مع الهويات الأخرى، بما يحقق الانسجام باختيارات واعية وفي سياقات تكفل التعادل والتكافؤ، مما يؤدي إلى غنى وإثراء ثقافي وإنساني للهوية.


أغلبية صامتة
تتعدد الأنماط الحياتية للعرب في أوروبا، منهم مندمج ومنسجم بالكامل مع الشروط المعيشية للبلدان التي يقيمون فيها وهم قلة قليلة، وجزء منهم يرفض ثقافة المجتمع الغربي وينعزل على نفسه وأسرته، وهناك الأغلبية التي تمارس خليطاً من هذا وذاك، تشارك مجتمعياً مرة، وتنزوي مرة أخرى. لكن يمكننا القول بوضوح إن الغالبية العظمى من الجاليات العربية في أوروبا هي غالبية صامتة، ذات موقف سلبي من المشاركة والمساهمة في الشأن العام. ربما يعود ذلك في أحد جوانبه إلى أن لا وجود لمشاركة سياسية حقيقية للمواطنين في معظم البلدان العربية التي أتى منها هؤلاء المهاجرين، وبالتالي نحن أمام ناس لا يمتلكون ثقافة ووعياً سياسياً. هناك عامل آخر خلف إحجام بعض العرب عن المشاركة السياسية في البلدان الجديدة، هو الخوف الذي حملوه في حقائبهم من بلدانهم، هذا الخوف الذي يجعلهم يظنون أن أية مشاركة لهم في الشأن العام قد تعرض وظيفتهم ومكاسبهم الاقتصادية للخطر. إضافة إلى العامل الديني الذي يساء توظيفه وشرحه ونقله وإظهاره للآخر بصورة مشوهة. هي الصورة التي تقدمها بعض الجماعات الإسلامية في بعض الدول الأوروبية بغير قصد أو معه، من خلال مشاركة العشرات من المسلمين المتشددين الذين يهتفون ويدعون للجهاد على الكفرة الصليبيين الذين يشارك الآلاف منهم في نفس المظاهرة التي نظموها دعماً للقضية الفلسطينية أو لقضايا عربية أخرى.
بالرغم من ندرة هذه المشاهد خاصة خلال السنوات الأخيرة إلا أنها تشكل عاملاً محبطاً للقوى الأوروبية المتضامنة مع القضايا العربية، وتمنح اليمين الأوروبي المتشدد مادة لتصعيد خطابه المعادي.

حصاد مر
في الحصيلة يظهر مشهد الجاليات العربية في أوروبا شائكاً ومتعثراً ومنقسماً وفوضوياً، تمزقها الانتماءات الطائفية والمذهبية والقبلية والمناطقية، وتفرقها الولاءات لهذا النظام أو الزعيم أو ذاك، مشهد يخلو من أي تأثير لأبناء الجاليات في المجتمعات الأوروبية -باستثناء حالات قليلة جداً-. هذا الوضع المختل تستغله جماعات الضغط الأخرى، خاصة اللوبي اليهودي-الصهيوني، للإساء إلى صورة الجاليات العربية.
والبعثات الدبلوماسية العربية -معظمها- تلعب دوراً سلبياً في استقطابات سياسية وحزبية تعمق الفرقة بين أبناء الجالية، وبين أبناء القطر الواحد أنفسهم.
لكن بالرغم من هذه الصورة التي لا تعبر عن عافية، لا بد من الإشارة إلى بعض التجارب الإيجابية والمشرفة لبعض أبناء الجاليات العربية في بعض الدول الأوروبية، في فرنسا وإسبانيا وهولاندا وإيطاليا وبلجيكا والدانمرك والسويد، ووصول عدد من أبناء الجاليات إلى البرلمانات ومجالس البلديات، وحتى تقلد مناصب وزارية.
إن المشهد العام للجاليات العربية في أوروبا هو انعكاس لوضع المجتمعات العربية ذاتها. إن جميع الانقسامات والخلافات والمشاحنات بين تلك الدول، تجد لها صدىً فورياً في الجاليات، وأي إنجاز حضاري وثقافي وسياسي واقتصادي يتحقق في البلدان العربية، سوف ينعكس إيجابياً على واقع المهاجرين.
من الحقائق التي يجب التذكير بها، أن المهاجرين العرب والمسلمين في الكثير من الدول الأوروبية، أصبحوا جزء مهم ومكون رئيسي من تاريخ وثقافة وحاضر هذه الدول. فقد ساهم الآلاف من المسلمين في الشمال الافريقي ببناء فرنسا حين كانت امبراطورية وحين أضحت جمهورية، ومنهم من ارتبط بثقافتها، والكثير من هذه الشعوب دفع جزء من أبناءها حياتهم في إعادة إعمار فرنسا الخارجة من الحرب العالمية الثانية لتبدو كما هي عليه الآن. وكذلك الحال بالنسبة لبريطانيا التي ساهم أبناء مستعمراتها السابقة من العرب والمسلمين في نهضتها. وفي ألمانيا قام العمال الأتراك بدور فعال في إعادة بناء الاقتصاد الألماني المنهار بعد الحرب، وأصبحوا مكوناً من مكونات الحياة الألمانية. لذا تبدو سياسة التخويف من المهاجرين المسلمين، التي يعتمدها اليمين الأوروبي المتطرف في خطابه الشعبوي، سياسة تتناقض مع ثقافة التعايش بين المهاجرين والأوروبيين التي كانت سائدة قبل ارتفاع صوت اليمين.
من المهم أن يدرك العرب المهاجرين في أوروبا أنهم جزء أساسي من المجتمعات الأوروبية التي يقطنونها، وأن بإمكانهم توسيع وتعزيز مشاركتها وفاعليتها في الشأن العام، من خلال استغلال المناخ الديمقراطي والبدء في الانتقال من حالة السلبية والحيادية إلى الحيوية والنشاط، والابتعاد عن الكسل، وتوظيف العامل الثقافي وليس الديني في مقاربة سياسة الاندماج بما يحقق التقارب مع ثقافة البلدان التي يعيشون فيها، وليس التنافر معها. رغم وعينا بالأثر المحبط الذي تحدثه المواقف العنصرية لبعض القوى الأوروبية تجاه المهاجرين العرب وسواهم، إلا أنه لا طريق ثالث أمام عرب أوروبا، فإما المشاركة الإيجابية وإما الانكفاء والتقوقع.

أهداف مستمرّة للتجربة الناصرية/ صبحي غندور

48 سنة مضت على غياب جمال عبد الناصر. 48 سنة هي تقريباً ثلاثة أضعاف عدد سنين التجربة الناصرية التي امتدّت من 23 تموز/يوليو 1952 حينما حدثت الثورة المصرية بقيادة ناصر، إلى 28 أيلول/سبتمر 1970 حينما وافته المنيّة.
18 سنة من تجربة ناصرية غيّرت مجرى الأحداث والتاريخ في مصر والأمَّة العربية وفي العديد من دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. تجربة ناصرية أحدثت تغييراتٍ جذريةً في المجتمع المصري ونظامه السياسي والاقتصادي والعلاقات الاجتماعية بين أبنائه، وكانت أيضاً ثورة استقلالٍ وطني ضدّ احتلالٍ أجنبيٍّ مهيمن لعقودٍ طويلة (الاحتلال البريطاني لمصر)، ثمّ كانت أيضاً قاعدة دعمٍ لحركات تحرّرٍ وطني في عموم الدول النامية، كما كانت كذلك مركز الدعوة والعمل لتحرّر وتوحّد البلاد العربية، ولبناء سياسة عدم الإنحياز ورفض الأحلاف الدولية في زمن صراعات الدول الكبرى وقمّة الحرب الباردة بين الشرق والغرب.. 
لكن إنجازات التجربة الناصرية كانت أكبر بكثير من حجم أداة التغيير العسكرية التي بدأت بها التجربة، وهي مجموعة "الضبّاط الأحرار" في الجيش المصري. كذلك، فإنّ الأهداف التي عملت من أجلها طوال عقدين من الزمن تقريباً، أي إلى حين وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، كانت أيضاً أوسع وأشمل بكثير من "المبادئ الستّة" التي أعلنها "الضبّاط الأحرار" عام 1952. فتلك "المبادئ" جميعها كانت "مصرية"، وتتعامل مع القضاء على الاستعمار البريطاني لمصر وتحكّم الإقطاع والاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم في مصر، وتدعو إلى إقامة عدالة اجتماعية وبناء جيش مصري قوي وحياةٍ ديمقراطيةٍ سليمة، ولم يكن في هذه "المبادئ" ما هو خارج الدائرة المصرية من دورٍ مهمّ قامت به الثورة لاحقاً على الصعيدين العربي والعالمي.
وإذا كان واضحاً في "المبادئ الستة" كيفية تحقيق المرفوض (أي الاحتلال وتحكّم الإقطاع والاحتكار)، فإنّ تحقيق المطلوب (أي إرساء العدالة الاجتماعية والديمقراطية السليمة) لم يكن واضحاً بحكم غياب "النظرية السياسية الشاملة" التي تحدّث عنها ناصر في "الميثاق الوطني" عام 1962. أيضا، لم تكن هناك رؤية فكرية مشتركة لهذه المسائل بين أعضاء "حركة الضبّاط الأحرار"، حتّى في الحدِّ الأدنى من المفاهيم وتعريف المصطلحات، فكيف بالأمور التي لم تكن واردة في "المبادئ الستة"، أي بما يتعلّق بدور مصر العربي وتأثيرات الثورة عربياً ودولياً، وكيفية التعامل مع صراعات القوى الكبرى ومع التحدّي الصهيوني الذي فرض نفسه على الأرض العربية في وقتٍ متزامنٍ مع انطلاقة ثورة يوليو، حيث شكّل هذا التحدّي الصهيوني المتمثّل بوجود دولة إسرائيل، والمدعوم والمستخدَم من قبل الغرب، أبرز ما واجهته ثورة يوليو من قوّة إعاقةٍ عرقلت دورها الخارجي وإنجازاتها الداخلية. 
أهمّية هذه المسألة المتمثّلة في ضيق أفق أداة التجربة الناصرية (الضبّاط الأحرار) ومحدودية (المبادئ الستّة) مقابل سعة تأثير القيادة الناصرية وشمولية حركتها وأهدافها لعموم المنطقة العربية ودول العالم الثالث، أنّها تفسّر حجم الانتكاسات التي حدثت رغم عظمة الإنجازات، وأنّها تبيّن كيف أنّ الثورة كانت تيّاراً شعبياً خلف قائدٍ ثوريٍّ مخلص لكن من دون أدواتٍ سليمة تربط ما بين القائد وجماهيره، وبين الأهداف الكبرى والتطبيق العملي أحياناً.
ورغم هذه السلبية الهامّة التي رافقت التجربة الناصرية في مجاليْ الفكر والأداة، فإنّ ما حققته داخل مصر وخارجها كان أكبر من حجم السلبيات والانتكاسات.
كذلك، فإنّ الخلاصات الفكرية والسياسية لهذه التجربة، خاصّةً في العقد الثاني من عمرها، هي التي بحاجةٍ إلى التأكيد عليها الآن وفي كلّ المناسبات "الناصرية".
وقد ظهرت هذه الأمور الفكرية والإستراتيجية في أكثر من فترة خلال مراحل تطوّر التجربة الناصرية، لكن نضوجها وتكاملها ظهر واضحاً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياة عبد الناصر، أي ما بين عامي 1967 و1970.

فاستناداً إلى مجموعة خطب عبد الناصر، وإلى نصوص "الميثاق الوطني" وتقريره، يمكن تلخيص الأبعاد الفكرية للتجربة الناصرية بما يلي:
الدعوة إلى الحرّية، بمفهومها الشامل لحرّية الوطن ولحرّية المواطن، وبأنّ المواطنة الحرّة لا تتحقّق في بلدٍ مستعبَد أو محتَل أو مسيطَر عليه من الخارج. كذلك، فإنّ التحرّر من الاحتلال لا يكفي دون ضمانات الحرّية للمواطن، وهي تكون على وجهين:
- الوجه السياسي: الذي يتطلّب بناء مجتمعٍ ديمقراطي سليم تتحقّق فيه المشاركة الشعبية في الحكم، وتتوفّر فيه حرّية الفكر والمعتقد والتعبير، وتسود فيه الرقابة الشعبية وسلطة القضاء.
- الوجه الاجتماعي: الذي يتطلّب بناء عدالةٍ اجتماعيةٍ تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني وتوفير فرص العمل وكسر احتكار التعليم والاقتصاد والتجارة.

المساواة بين جميع المواطنين بغضّ النظر عن خصوصياتهم الدينية أو العرقية، والعمل لتعزيز الوحدة الوطنية الشعبية التي من دونها ينهار المجتمع، ولا تتحقّق الحرّية السياسية أو العدالة الاجتماعية أو التحرّر من الهيمنة الخارجية.

اعتماد سياسة عدم الإنحياز ورفض التبعية لأي جهة خارجية تقيّد الوطن ولا تحميه، تنزع إرادته الوطنية المستقلّة ولا تحقّق أمنه الوطني.

مفهوم الانتماء المتعدّد للوطن ضمن الهويّة الواحدة له. فمصر تنتمي إلى دوائرَ أفريقية وإسلامية ومتوسطيّة، لكن مصر - مثلها مثل أيّ بلدٍ عربيٍّ آخر- ذات هويّة عربية وتشترك في الانتماء مع سائر البلاد العربية الأخرى إلى أمّةٍ عربيةٍ ذات ثقافةٍ واحدة ومضمونٍ حضاريٍّ تاريخي مشترك. والاستناد إلى العمق الديني لمصر وللأمّة العربية القائم على الإيمان بالله ورسله ورسالاته السماوية التي ظهرت جميعها على الأرض العربية.

رفض العنف الدموي كوسيلةٍ للتغيير الاجتماعي والسياسي في الوطن أو للعمل الوحدوي والقومي، وبأنّ الطريق إلى التكامل العربي أو الاتّحاد بين البلدان العربية لا يتحقّق من خلال الفرض أو القوّة، بل كما قال ناصر: "إنّ الإجماع العربي في كلّ بلدٍ عربي على الوحدة هو الطريق إلى الوحدة" .. وقال ناصر أيضاً في "الميثاق الوطني": "طريق الوحدة هو الدعوة الجماهيرية .. ثمّ العمل السياسي من أجل تقريب يوم هذه الوحدة، ثمّ الإجماع على قبولها تتويجاً للدعوة وللعمل معاً". وقال أيضاً في الميثاق: "إنّ اشتراط الدعوة السلمية واشتراط الإجماع الشعبي ليس مجرّد تمسّك بأسلوبٍ مثالي في العمل الوطني، وإنّما هو فوق ذلك، ومعه، ضرورة لازمة للحفاظ على الوحدة الوطنية للشعوب العربية".
***
أمّا على صعيد مواجهة التحدّي الصهيوني، فقد وضع جمال عبد الناصر منهاجاً واضحاً لهذه المواجهة، خاصّةً بعد حرب عام 1967، يقوم على:
بناء جبهةٍ داخليةٍ متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو عرقية، ولا تلهيها معارك فئوية ثانوية عن المعركة الرئيسة ضدّ العدوّ الصهيوني، ومن خلال إعدادٍ للوطن عسكرياً واقتصادياً بشكلٍ يتناسب ومستلزمات الصراع المفتوح مع العدوّ.
وضع أهدافٍ سياسيةٍ مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط بحقوق الوطن والأمَّة معاً، ورفض الحلول المنفردة أو غير العادلة أو غير الشاملة لكلّ الجبهات العربية مع إسرائيل.
العمل وفْقَ مقولة "ما أُخِذ بالقوّة لا يُسترّدّ بغير القوّة" وأنّ العمل في الساحات الدبلوماسية الدولية لا يجب أن يعيق الاستعدادات الكاملة لحربٍ عسكريةٍ تحرّر الأرض وتعيد الحقَّ المغتصَب.
وقف الصراعات العربية/العربية، وبناء تضامنٍ عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء لمنع انزلاق أيّ طرفٍ عربي في تسويةٍ ناقصةٍ ومنفردة، كما يؤمّن هذا التضامن العربي الدعم السياسي والمالي والعسكري اللازم في معارك المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي.
***
هذه باختصار مجموعة خلاصات فكرية وسياسية أراها في التجربة الناصرية، خاصّةً في حقبة نضوجها بعد حرب عام 1967، وهي خلاصات لا يُسقط الزمن أهمّيتها بل نجد هناك حاجةً قصوى الآن لإعادة الاعتبار لها والعمل لتحقيقها في هذا الزمن العربي الرديء.
ما يحدث الآن في البلاد العربية هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة قراءة "المشروع الناصري" الذي لم يمنحه القدر الفرصة الزمنية الكافية لإثبات جدارته. والكتابة عن ناصر هي ليست ابتعاداً عن الحاضر أو تجاهلاً للمستقبل أو حنيناً لماضٍ يفتقده عشرات الملايين من العرب، بل هي دعوةٌ للمقارنة بين نهجٍ سائد الآن في التعامل مع الأزمات وبين نهج "ناصري" واجه أزماتٍ مشابهة لصراعاتٍ مستمرّة لقرنٍ من الزمن، وما زالت تنخر في جسد الأمَّة العربية.
إنّ التجربة الناصرية أصبحت الآن ملكاً للتاريخ، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن قضايا العدل السياسي والاجتماعي، وبناء مجتمع المواطنة السليمة، والتحرّر من الهيمنة الأجنبية، والحفاظ على الوحدة الوطنية، والتمسّك بالهويّة العربية، هي أهدافٌ مستمرّة لشعب مصر ولكلّ شعوب الأمّة العربية مهما تغيّر الزمن والظروف والقيادات..

بين (إذن) و (إذاً) ...وحروف الجواب/ كريم مرزة الأسدي

الموضوع الأول، بين كتابة ( إذن) و (إذاً):

هناك اختلاف بين النحاة في طريقة كتابة ( إذن) و (إذاً).
 1 - (إذاً) تُكتَب بالألف دوما - كما رُسِمت في المصحف ( القرآن الكريم) - وهذا القول منسوب إلى أبي عثمان المازني(*) 
2 - (إذن) تُكتَب بالنون دوما ؛ وهذا مذهب المبرد (**) القائل : أشتهي أن أكوي يدَ مَن يكتب ( إذن ) بالألف لأنها مثل أنْ و لنْ ولا يدخل التنوين الحروف.
 3 - تُكتَب بالنون إذا كانت ناصبة. 
4 - وبالألف ( إذا)، إذا أَلغيتَ عملها.
5 - (إذن) تكتب بالنون في حالة الوصل .
6 - (إذا) بالألف في حال الوقف.
7 - إذاً : حرف جواب مبني على السكون لا محل له من الإعراب نحو : للطلاب معلم يعلمهم ،إذاً يرشدهم.
8 - إذن : حرف نصب وجواب واستقبال و جزاء ،مبني على السكون لا محل له من الإعراب. 
وأخيراً حسب قول ( أبي العباس المبرد) المتوفي 285 هـ ، وهو زعيم المدرسة البصرية - مدرسة القياس النحوي - التي نسير على نهجها الآن في كل أقطار الوطن العربي ، تكتب (إذن) 
 ..........................................................................

.والمبرد كان يقول : “أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذن بالألف ، لأنها مثل أن ولن“، وهذا المذهب يستند إلى أنها يوقف عليها بالنون لا بالألف، ولكي يفرق بينها وبين (إذا) الظرفية، وهو رأي له قيمته ووزنه طبعًا
أمّا الدكتور التهامي الهاشمي -أستاذ كرسي القراءات القرآنية بكلية الآداب بالرباط و بمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء- فقد قال:
يحسن أن ترسم (إذن) بالنون، ولكن إن كُتِبت بالتنوين (إذًأ) فلا بأس.
الخلاصة: 
لدينا نقيضان في الرأي: أحدهما أن تكتب بالنون (إذن) مطلقًا عملت أو لم تعمل.
والثاني أن تكتب بالألف مطلقًا (إذًأ) عملت أم لم تعمل.
ولدينا رأي ثالث وسطًا بينهما: يكتبها بالنون (إذن) إذا عملت، وبالألف (إذًا) إذا لم تعمل.
ولأن الخلاف حول هذه المسألة ما زال محتدمًا.. فالكتابتان صحيحتان ولكم أن تختاروا منهما ما تشاؤون!!
 أحيانا أنا أكتبها بالشكلين محتاطاً ، وأنا أغلب رأي المبرد لكي لا يخلط القارئ الكريم بين ( إذاً ) و ( إذا) الشرطية غير الجازمة.
.......................................................................................

الموضوع الثاني:  حروف الجواب :

    حروف الجواب،وهيَ -غير عاملة -: "نَعَمْ وبَلى وإي وأَجلْ وجَيرِ وإنَّ ولا وكلاَّ"،
 مثل:
- نَعَمْ :حرف جواب، يفيد الإثبات في الجواب عن السؤال المثبَت، والنفيَ في الجواب عن السؤال المنفي
أسافر خالد؟  
نعم، سافر.
أما سافر خالد؟
نعم، ما سافر.
- بَلَى. تختصُّ بوقوعها بعدَ النّفي فتجعلُهُ إثباتاً:
قال تعالى: [ألست بربكم قالوا بَلَى[ (الأعراف 7/172). فقال ابن عباس معلّقًا، لو قالوا: [نَعَم] لكفروا.
.ووجه ذلك أنّ [نَعَم] - كما ذكرنا آنفًا - لا تُغَيِّر من النفي والإثبات شيئًا؛ فلو أجابوا قائلين: [نَعَم]، لكان تأويل ذلك: [نعم لست ربّنا]، ولكان ذلك كفراً.
ونحن نبحث عن الفاصلة، والمثل:
ألست أنا صاحبك؟ 
بَلَى، أنت صاحبي.
- أما (أَجلْ)  بمعنى (نعَمْ)، وهي مثلُها تكونُ تصديقاً للمُخبر في أخبارهِ، أو لوعده ولكن لا تأتي بعد الاستفهام، مثل:
- قد حضر أخوك .
أجل، حضر.
- اجتهد في دروسك.
أجل، اجتهد.
- (جَيْرِ) حرفُ جوابٍ، بمعنى "نَعَمْ". وهو مبنيٌّ على الكسر. وقد يُبنى على الفتح. والأكثرُ أن يقعَ قبلَ القَسم، نحو:
جَيْرِ، والله لأصدقن القول.
- (أي) لا تُستعمَلُ إلا قبل القسمِ، كقوله تعالى {قُلْ إي ورَبي إنَّهُ لَحَقٌّ}. "أي" توكيد للقسم، والمعنى نعم، وربي ، وموضوعنا ( الفاصلة)، مثال:
إي، وربّي سأكون صادقاً.  
 - (إنَّ) حرفُ جوابٍ، بمعنى (نَعَمْ)، يقال لك:
 هل جاءَ زُهَيرٌ؟
إنَّهُ، جاء.
قال الشاعر:
بَكَرَ العَواذلُ، في الصَّبُو *** حِ، يَلُمْنَني وَأَلومُهُنَّهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ *** كَ، وَقَدْ كَبِرْتَ، فَقُلْتُ إِنَّهُ
إنّه، قد علاني.....أي: نعم، قد علاني.
والهاءُ، التي تلحقه، هي هاءُ السَّكت، التي تُزادُ في الوقف، لا هاءُ الضمير ولو كانت هاءَ الضمير لثبتت في الوصل، كما تثبتُ في الوقف. وليس الأمرُ كذلك، لأنك تحذفها إن وصلتَ، يقال لك (هل رجعَ أُسامةُ؟) فتقولُ :إنّ، يا هذا، أي نعم، يا هذا قد رجع.

- (لا وكَلاَّ)  تكونانِ لنفي الجواب. وتُفيدُ (كَلاَّ)، مع النفي، رَدعَ المُخاطبِ وزجرَهُ. تقولُ لِمنْ يُزَيَّنُ لك السوء ويُغريكَ بإتيانهِ:
 كَلاَّ،  لا أُجيبُكَ إلى ذلك.
وقد تكونُ (كَلاَّ) بمعنى (حَقاً)، كقولهِ تعالى: "كلاَّ، إنَّ الإنسانَ لَيَطغى أنْ رآه استغنى"
15 - بعد لفظ المنادى المتصل، مثل:
 يا زيد،  اقرأ دروسك.
  يا رجل، حان وقت العمل.
أي بني، لا تؤجل عمل اليوم إلى غد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أبو عثمان بكر بن محمد بن عثمان المازني (؟ - 247 هـ) هو نحوي ومتكلِّم من البصرة، ومن أشهر علماء عصره، ويُعدُّ شيخ الطبقة السادسة من المدرسة البصرية في النحو. امتلك المازني براعة في التصريف إلى جانب تعمُّقه في النحو
(**) أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر المعروف بالمبرد ينتهي نسبه بثمالة، وهو عوف بن أسلم من الأزد.(ولد 10 ذو الحجة 210 هـ/825م، وتوفي عام 286 هـ/899م)، أحد العلماء الجهابذة في علوم البلاغة والنحو والنقد، عاش في العصر العباسي في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).

العراق ومؤامرة الكتلة النيابية الاكبر/ كافي علي

انتهت الانتخابات العراقية للعام 2018 ودخل البلد في مرحلة الصراعات والسمسرة السياسية لتشكيل الكتلة النيابية الاكبر، حيث تهيمن الكتل الخاسرة على المشهد السياسي وتقدم شروطها للتنازل والانضمام إلى الكتلة الفائزة لأجل دعمها عدديا في تشكيل الحكومة .
انتهت الانتخابات وانتهى دور المواطن العراقي بعد استلاب صوته وتركه يدور حول معاناته وافتقاره إلى أدنى متطلبات العيش، حقه في رشفة ماء صالحة للشرب، وضوء مصباح يهديه في ظلمة عيشه. البلد العائم على بحر من البترول يعاني شعبه من انعدام الخدمات منذ اليوم الذي وطأة أمريكا وعملائها أرضه. عملائها الذين بعثرتهم المنافي وتاهوا في شظف عيشها، قبل أن يلملمهم بول بريمر ليكونوا اسياده وسياسيه. كيف يحمي الخائن وطن؟
اما إيران، الحليف الاستراتيجي لأمريكا في العراق، فتعمل كعادتها مع مرجعية النجف على تشكيل حكومة موالية لمشروعها الطائفي في المنطقة. لازال قاسم سليماني يتخذ من استراتيجية المحاصصة وقرار القاضي مدحت المحمود في وأد صوت الشعب بمؤامرة قانون الكتلة النيابية الاكبر وسيلة لتشكيل الحكومة، متجاهلا المتغيرات التي فرضتها المرحلة على الوعي الشعبي العراقي من جهة، والنهج الجديد للسياسة الأمريكية تجاه بلاده من جهة اخرى. جهود ستؤدي حتما للفشل، ليس بسسب تجاهله للمتغيرات، ولكن عدم قدرته على خلق عملاء جدد يمكن أن تستوعبهم المرحلة الراهنة. لم تتمكن مرجعية النجف وإيران من إيجاد بدائل مؤهلة لقيادة الدولة بعد سقوط سياسيهم في مستنقع الجريمة والفساد.
منذ انتهاء الإعلان عن نتائج الانتخابات وإيران تعمل على تشكيل حكومة محاصصة تمنح رئاسة برلمانها لموالي لها من السنة، ورئاسة وزرائها  لرجلها من الشيعة، أما رئاسة الجمهورية فمنصب فخري مقياسه حجم التنازلات التي يقدمها الحزبين الكوردين. 
دورة محاصصة سياسية جديدة، يكون الإرهاب تهمة المواطن السني الرافض للتدخل الإيراني في شؤون بلاده، واللطم والطقوس نصيب الشيعي المؤمن بمظلوميته، والأكاذيب والأوهام نصيب المواطن الكردي الحالم بالاستقلال. فإذا فاضت العاصمة بمياه الأمطار في عهد أول حكومة محاصصة شكلها قاسم سليماني مع مرجعية النجف، واحتل تنظيم داعش المدن السنية في الثانية، وشربت العوائل البصرية الماء الملوث في عهد الثالثة، ماذا ينتظر العراقي من سياسي سليماني بعد تشكيله الحكومة القادمة؟ 
لا انتخابات، ولاحرية وديمقراطية في العراق إذا لم يتم إلغاء صك عبودية الشعب الذي سلمه  القاضي مدحت المحمود لإعداء الشعب وسراق المال العام. 
الحرية تُؤخذ ولا تُمنح، لن يكون الشعب العراقي حرا إلا بالعودة إلى صوت الشعب وانتهاء مؤامرة قانون الكتلة النيابية الأكبر.
كتلة سائرون التابعة لمقتدى الصدر فازت في الانتخابات البرلمانية، ومن حقها وحدها تشكيل الحكومة، ليس بسبب الإيمان بقدرتها على قيادة الدولة، ولكن رضوخا لإرادة الشعب.  وإذا فشلت الكتلة في إدارة الدولة ومؤسساتها، من حق الشعب المطالبة باستقالتها والدعوة إلى انتخابات مبكرة. هكذا هي الديمقراطية، حكم الشعب واحترام وعيه في اختيار ممثليه، لا قتله بتدوير نفايات السلطة من المجرمين والفاسدين في المطبخ السياسي البائس لسليماني.
.من حق الشعب العراقي الذي اشترى حريته بالدم أن يكون له دولة مستقلة  محكومة بقانون يحفظ حق جميع طوائفه وقومياته، قانون يحمي الضعيف من القوي والأقليات من سطوة وهيمنة الأغلبية. قانون يجعل من العقال العربي والسروال الكردي، من العمامة السنية والشيعية، أزياء شعبية تأثيرها شخصي على المؤمنين بها، ووطني على المجتمع. يمكن للمؤسسة الدينية الشيعية في النجف أن تؤثر على التوجهات الشخصية للمواطن الشيعي، مثلما يمكن أن تلعب الأحزاب الكوردية على الوجدان القومي للمواطن الكوردي، لكن يبقى الشيعي والكوردي وغيرهم من مكونات الشعب العراقي بحاجة إلى دولة مستقلة وقوية تحتويهم، وإلى حكومة تدير دولتهم وتنظم علاقاتها الخارجية وشؤونها الداخلية  على أسس ومؤهلات وطنية لا انتمائات وولاءات طائفية وقومية عنصرية. كيف يمكن أن يحدث هذا والعراق محكوم بسياسة محاصصة تفرض بالقوة هيمنة القوي على الضعيف، والأغلبية على الأقلية؟

الصحراء.. رحلة إلى الهقار/ ابراهيم مشارة

من يذهب إلى الصحراء مرة يعاوده الحنين بالرجوع مرة أخرى فالأشياء المقفرة في السطح هي أشياء غنية في العمق.
إ.م

قال الخسين ونحن نستعد لمغادرة مدينة تمنراست  بسيارته رباعية الدفع سنصل إلى الأسكرام بعد ست ساعات وسيكون لك ما تشاهده.

الحسين رجل من الطوارق يلفظ الحاء خاء مكتهل في الخمسين ملثم بلباس الطوارق   الأزرق  عادة  فهذا اللون  هو تعويذة  ضد السحر كما أنه يبث السكينة  في نفس صاحبه وفي نفس الناظر إليه ،هادئ ودود ككل رجال الطوارق بسيط  تغشاه السكينة يحرص على أداء الصلاة في وقتها  لا يعرف القلق سبيلا إليه  سألته : كم لك من الأولاد ؟

 - من هذه المرأة عشرة ،عندكم في الشمال هذا كثير الرزق على الله.

 هو رفيقي في هذه الرحلة الصحراوية إلى إحدى أعلى قمم الهقار "الأسكرام" حيث قررت أن أبيت هناك وأشاهد غروب وشروق  الشمس الذي قيل إنه شاعري جميل ولا مثيل له على وجه الأرض.

تزودنا بالطعام ،الماء ،الشاي والحطب وتلك ضروريات السفر في الصحراء.

حين تغادر المدينة يكون ذاك الجبل الصخري المسمى "البيك" هو آخر حارس للمدينة وآخر ما يودعك وأول ما يستقبلك إذا عدت من قمم الهقار، جبل صخري آخر عملاق يحف بالمدينة من الجهة الأخرى "أدريان" ويسمونه الرجل النائم فهو حقا يشبه رجلا نائما مفتوح الفم ، حين تكون في المدينة وتنظر باتجاه الشمال تبدو القمم الثلاث وهي أعلى قمم الهقار التاهات أتاكور ،إلامان والأسكرام كأنها ثلاثة رهبان يتأملون  وهم حارسوا الصحراء والمدينة. !

ما إن أوغلنا في براري الهقار حتى انقطعت صلتنا بالحضارة فلا طريق معبد ولا هاتف ولا عمود نور أرض ممتدة وأودية جافة وصخور بركانية تتخذ أشكالا عجيبة  قال الحسين انظر تلك الصخرة اسمها "أدودا" أي السبابة ألا ترى أنها تشبه الأصبع ؟ لكل صخرة منتصبة القامة شكل عجيب واسم وأسطورة فالطوارق شعب السحر والأساطير بامتياز حتى المقابر عجيبة الشكل وأعجب منه قبر ملكتهم تينهنان في "أبالسة" تلك التي وقفت على قبرها الفارغ متعجبا فقد اكتشفه الفرنسيون ونقلو جثتها بعيدا ثم أردف الحسين هناك إلى الأعلى في تلك القمة قبر سيدة تدعى "مدام جالوزي"  هلكت هناك وتم دفنها في تلك القمة  المعزولة مر على خاطري للتو قول امرئ القيس  وقد أوشك على الهلاك:                                                       

أجارتا إنا  غريبان هاهنا: وكل غريب للغريب نسيب               

الجو في الهقار معتدل فلا حرارة كبيرة عكس مايتصوره الناس  فمدينة تمنراست ترتفع عن سطح البحر بأكثرمن 1300مترا والطريق إلى الأسكرام غير معبد نمر بالصخور والأودية وبقايا الرماد البركاني فالبراكين  كانت ناشطة منذ ملايين السنين ثم خمدت في الطريق إلى تلك القمة لا تنفع إلا سيارة الدفع الرباعي والماء والشاي والطعام  والدليل إذا ضللت طريقك هلكت وأهم شيء العلامات . تقدم الصحراء أفضل درس للإنسان فالمظاهر خادعة والغنى في العمق وسلاح الإنسان في متاهة الحياة قوته الداخلية إيمانه، ثقته بالله وبنفسه، الصبر ، الإصرار عدم الاهتمام بالبهارج والرتوش وكما أن السائر في الصحراء لا بد له من علامات يهتدي بها فكذلك في الحياة علامات يهتدي بها الإنسان في مشوار العمر وإذا أضاعها كان نصيبه الضياع.

في منتصف الطريق أشجار باسقة وادي عذب وبرك جميلة تسبح فيها الأسماك" أفيلال" توقفنا أعد الحسين الشاي تغدينا وعادة مايكون الغداء لحم جمل "حاشي" كما يسمى مشوي على النار  ثم الشاي  وللشاي طقوسه وألوانه ومذاقه وطرق تحضيره فهو لذيذ جدا ومنعش استرحنا، في تلك البرك العذبة رأيت شيخا فرنسيا ربما  يعبث بالماء كأنه طفل صغير وهو في حالة نشوة.

أتعبنا الطريق الوعر بين الصخور والغبار و بدأنا في الصعود الأخير إلى القمة حين أشرفنا على الأسكرام  رأينا سيارات أفواج السياح والكل فرح بالوصول حجزنا غرفة للمبيت وأسرعت أصعد إلى القمة عبر ممر ضيق مهترئ صاعد متعب حين وصلت إلى القمة وهي على ارتفاع 2780مترا كان منظر الصحراء فريدا الجبال تحني رؤوسها لنا والمدى الضارب إلى الحمرة لا نهائي السكون يخيم على الصحراء والشمس بدت كأنها اقتربت منا ومدت ذراعيها-أشعتها- وأخذتنا بالأحضان. !

وحين الغروب كانت القمة تضيق بالسياح من كل لون ومن كل جنس والكل منتش فرح سيشاهد غروبا لا مثيل له على وجه الأرض ،هكذا يقال !

السماء لازوردية اللون والشمس مسفرة تستعد للغروب تلعب معنا لعبة "الغميضة " يختفي قرصها   كله أو بعضه  وراء قمم الجبال وأشعتها تتراقص بجنون بين الشقوق  يبدو قرصها كبيرا  تنزلق رويدا رويدا وتتجرد من أشعتها كأنها محارب إغريقي نزع سرباله وألقى سلاحه قد جميل وبشرة ناعمة ونظرة مغرية بدأ اللون اللازوردي  يتنوع في اللون بين الأزرق الكحلي والفيروزي والفاتح والشمس كرة من التبر سبكها جواهرجي ماهر في مصهرالكون تنزلق بهدوء  وتغيب  تتعدد الألوان في الأفق بين لون الذهب، اللون الوردي واللون الأرجواني وعلى أعلى قمم الهقار "التاهات  أتاكور" و"إلامان"   وقمم الهقارالأخرى تختلط تلك الألوان السماوية بلون الصخر البني فيزداد المنظر غرائبية وإدهاشا  حين غابت الشمس صفق الجميع لها  وعبر الجميع بلغات شتى عن روعة المنظر قال أحدهم منذ أيام جاء سائح ياباني  وحين كان يتأمل الغروب جثا على ركبتيه وبكى  تعبيرا عن دهشته.منذ وصلت إلى الأسكرام وأنا أحس بصداع خفيف نبهني الطوارق إلى ذلك  وذلك راجع لنقص الأكسجين.

القمم دائما تتعب توجع الدماغ الرجولة والشهامة  والجوهر قمم مثل قمم الجبال من يصعد إليها يدفع من عرقه وصحته وفكره وروحه لكنه يأبى النزول يعاف المستنقعات  والحضيض .

في العشاء وكان تقليديا جدا بدائيا جدا كان إلى جنبنا فوج من السياح الفرنسيين  يأكل طعاما تقليديا مع الأدلاء من الطوارق وسط مرح وحبور .

الليل في الأسكرام أحد أروع ما في الطبيعة  وقد شدني أكثر مما شدني الغروب الرياح تولول والسماء تكاثرك بنجومها فهي في غير هذا المكان تبدو مقبرة لا نهائية الأبعاد  أما هنا فهي تموج حركة شهاب مخترق للفضاء نجم يبدو أنه يلمع أكثر مما يجب فلن ترى الطريق اللبني في مكان في العالم كما تراه في الأسكرام فبياضه أشد من اللبن  وحتى أنني صدقت تلك المقولة التي تقول أن الأمريكيين فكروا في بناء مرصد فلكي هنا وفوق ذلك السكون والظلام الحالك أمامك والأشباح تلك الصخور التي تشاهدها نهارا أحجارا  تراها أشباحا في الليل ، هنا هيأ شارل دو فوكو ديره الذي اتخذه للتأمل دخلت إلى الدير حيث عاش الرجل قارئا وعابدا متأملا متخلصا من أدران المدنية –لولا أن للرجل نزعة استعمارية تبشيريه- لكنه رجل حاذق متأمل عرف أين يظفر بالسكينة والرؤية الصافية .دير بسيط مضاء  بالشموع  مكان أبسط للصلوات ،رف فيه كتب منها معجم أعده هو فرنسي طرقي  غير أن الرجل مات مقتولا لكن ديره استمر واليوم فيه رهبان أحدهم إسباني يتكلم العربية استضافنا في الدير بشاي وبسكويت وأحاديث مجاملة حين أدينا زيارة وداع للديرسأله أحدهم :ألا تفكر في العودة إلى بلدك؟ رد بصوت حازم :هذا بلدي أيضا فأنا  هنا في أفضل مكان في الدنيا أتأمل جمال الخالق ،أعيش بالسكينة وأعبد الله.ونحن نترك الأسكرام بعد مشاهدة شروق الشمس الذي لم يكن في جمال الغروب ولكنه شاعري وجميل كذلك.

من نفس الطريق عدنا الصحراء مدى واسع لا نهائي الصخور تماثيل فنية صامدة أشجار السدر منثورة هنا وهناك وقطيع من الجمال يرعي يرفع رؤوسه يتأملنا ثم ينصرف عنا غير مبال .  ليس من الغريب أن تشاهد حيوان الأروي أو غزالا نافرا شاردا يتسلق  المرتفعات الصخرية ،وقد قال لي أحد الطوارق إذا صادفنا الغزالة  أمامنا جرينا وراءها بالسيارة فتفر وتجري بسرعة ثم تتوقف تماما نمسك بها نعطيها تشرب ثم نذبحها.

الصيد غير المشروع اليوم والمضر بالطبيعة هو إقدام بعضهم على الصيد بالأسلحة وإبادة عدد لا يستهان به في رحلة واحدة من الغزلان والأروية وهو فوق الحاجة في  الاستهلاك  هذه جريمة من جرائم الإنسان.

انحرف الحسين في طريق العودة ناحية" أزرنن " فهو يملك زوجة أخرى هناك لم نجدها  مررنا بقطع صخرية لا نهائية العدد مكتوب عليها  بالتيفناغ  ورسوم بسيطة لحيوانات منثورة في كل مكان ومن السهل سرقة بعضها ، استرحنا شربنا الشاي وقفلنا راجعين إلى تمنراست حيث استقبلنا  جبل "البيك" مرحبا كالعادة.

في الطريق مابرحت أذني موسيقى الطوارق إيقاع عذب يدفعك إلى الإحساس بالنشوة تغمض عينيك تحرك رأسك جيئة وذهابا أو ربما بدنك بشكل صغير تجاوبا مع روعة الإيقاع  تلك الموسيقى المنبعثة من آلات تقليدية الصنع الكلمات شعرية بامتياز تتغنى بالصحراء بالهقار بالإنسان الملثم في صبره في كدحه بالمرأة، بالحب   وقد قرأت مرة أن أحد المستشفيات النفسية والعصبية في ألمانيا يعالج مرضاه بهذه الموسيقى وللطوارق أسمارهم الليلية يختلطون رجالا ونساء فيتناغم الجمال جمال الصحراء وجمال الإنسان وجمال الإيقاع.

في الطريق إلى عين صالح طريق آخر وطويل عبر أرض "الحمادة" تستقبلك  

واحات عين صالح  وهي أجمل ما في الصحراء هنا تبدو  الصحراء كأنها بحر أصفر  والكثبان موجه  والنخيل الباسقة صواري خضراء وقد توقفت في مرفئها الماء الزلال والطيبة والبشر والأخذ بالأحضان وفناجين الشاي والدعة .

الصحراء هي اليأس والواحات هي الأمل الصحراء هي الجحيم والواحات هي المطهر .

الصحراء هي الدرس البليغ الذي يتلقاه الإنسان من لدن الحياة من يذهب إلى الصحراء مرة يعاوده الحنين بالرجوع مرة أخرى فالأشياء المقفرة سطحيا هي أشياء غنية في العمق.

ترى لماذا كان الأنبياء أبناء الصحراء ؟ ولماذا يهيم بها الشعراء والكتاب والفنانون والفلاسفة؟

لعلها الفطرة أو لعلها التلقائية لعلها الحميمية  أو لعلها النظرة العميقة بلا رتوش ولا مساحيق  لعله التخلص من أمراض الحضارة وأدران التمدن  يتكفن الذاهب الى الصحراء برمالها ويموت موت رمزيا لإنسان أتخمته الحضارة وسرطنته المدنية ونهش قلبه القلق والوحشة والإحساس بالغربة فصلب على عقارب الساعة بفائض قيمتها ويولد هناك كائنا طبيعيا فطريا ينام على الرمل ولا يرى في ذلك إخلالا بآداب النوم ويضع فمه في ضرع الناقة ولا يرى في ذلك نقيصة لحقت به ويعانق الآخر المختلف ولا يرى فيه دونية .

تبدو الصحراء جميلة في أعيننا تهيأ لنا ساعات خلوة مع النفس وتحرر من الحضارة ومن المنعكسات الشرطية التي صنعتها لنا حياة الرقمنة والحوسبة والصورالثلاثية الأبعاد  وشبكات التواصل الاجتماعي تلك العوالم الافتراضية التي صنعت لنا دنيا من الوهم وعالما

جديدا  من الخرافات التقنية سيضاعف من أعبائنا وسيكون الثمن باهضا.

انتعل خفّك

وادعس رملا

لم تطأه قدم أيّ عبد..

أيقظ روحك..

تذوّق ينابيع

لم تحم حولها أيّة فراشه..

انصب خيمتك في الآفاق الممتدة..

حيث لم يترك فينيقيّ أثرا له..

حيث لم تحلم أية نعامة بإخفاء بيضها ..

إذا أردت أن تغدو حرّا

مثل صقر يحلّق في السماوات ..

الوجود معلّق بأجنحته و..العدم ..

الحياة و..الموت ..

.............................

شاعر الطوارق محمدين خواد