لم يعد يواجه إسرائيل اليوم كدولة أى تهديدات أو حتى تحديات استراتيجية من الخارج; حتى ما يسمى بالخطر الايرانى المزعوم والذى يضخم إعلاميا من قبل اسرائيل ولوبيات ضغطها لا يعدو فى الواقع إلا ظاهرة صوتية محكومة تماما بموازين القوى الاقليمية والدولية، وليس أدل على ذلك من الأزمة الأخيرة بين الطرفين على حدود الجولان المحتل.
لكن التهديدات والتحديات الاستراتيجية الفعلية التى تواجه اسرائيل اليوم هى من داخل الحدود التى تسيطر عليها اسرائيل والتى جوهرها الوجود الفلسطينى فى فلسطين التاريخية، أو بمعنى أصح الديمغرافيا الفلسطينية التى تزداد بصمت وبهدوء فيما بين النهر والبحر، وثمة اعتقاد خاطئ بأن توازن القوى العسكرى بين الفلسطينيين واليهود لا يزال اليوم عاملا أساسيا فى تعميق أو تسطيح ذلك التهديد الخطير استراتيجيا على اسرائيل. ولكن الحقيقة أن العامل العسكرى أصبح منذ عقود عاملا ثانويا فى المعضلة الديمغرافية التى تواجه اسرائيل، وإلا لاستطاعت اسرائيل التى تمتلك أكثر جيوش المنطقة تفوقا حل هذه المعضلة عسكريا وهو ما لم يحدث، فلا زالت اسرائيل يوم بعد يوم تغرق شئ فشئ فى مياه الديمغرافيا الفلسطينية التى ما انفكت تتزايد مع مرور الزمن.
ولكن اسرائيل تنبهت باكرا لتلك المعضلة ومن الواضح أنها بدأت تنفيذ خطة صامتة مضادة بتجزئة تلك الديمغرافية الفلسطينية فى فلسطين التاريخية إلى أربعة أجزاء قابلة للزيادة .
الجزء الأول منها هم مواطنيها من الفلسطينيين والذين يعرفون فلسطينيا بفلسطينى 48، والثانى هم فلسطينيو القدس الشرقية الذين هم سكان القدس وضواحيها والتى تبلغ مساحتها 70كم مربع من الضفة فهؤلاء وزعت عليهم هوية زرقاء ليست مواطنة اسرائيلية بل هى بمثابة هوية مؤقته تسحب من صاحبها إن تغيب عن المدينة لمدة عام ناهيك عن أساليب التهجير غير المباشرة والتى تتمثل فى تحويل حياة المقدسين إلى جحيم نحو تفريغ المدينة من سكانها الأصليين، والحزء الثالث هم فلسطينيو الضفة الغربية أما الجزء الرابع فهم فلسطينيوا قطاع غزة.
ولقد تمكنت اسرائيل بعد اتفاقية أوسلو عزل الجزء الأول {فلسطينى 48} سياسيا عن باقى الأجزاء الثلاث الأخرى وأخرجوا سياسيا من دائرة الصراع السياسى، وكان هذا هدفا استراتيجيا اسرائيليا نجحت اسرائيل فى تحقيقه، وأتى قانون القومية الأخير ليكمل مشهد العزل العنصرى ضدهم بعد أن تحولوا إلى أقلية فى وطنهم التاريخى ووفر الانقسام الفلسطينى عزل الجزء الثالث فى الضفة عن الرابع فى غزة سياسيا وعمليا بوجود اسرائيل جغرافيا بينهما ولاحقا استكمل الاستيطان وجدار الضم غزل الجزء الثانى( فلسطينى القدس) عن الثالث( فلسطينيوا الضفة) جغرافيا وقد عزلوا سياسيا بضم المدينة وترحيل قضيتها إلى مرحلة الحل النهائي التى لم تأتى وربما لن تاتى خاصة مع الاعتراف الأمريكى بها عاصمة لاسرائيل ونقل سفارتها إلى المدينة، فيما تكفلت حملة الاستيطان المستعرة فى الضفة لأكثر من ربع قرن من تجزئة الديمغرافيا الفلسطينية المقسمة أصلا إلى ثلاث مناطق فى الضفة الغربية .
وترى إسرائيل فى هذه التقسيمة حلا استرتيجيا مقبولا على المدى المتوسط للمعضلة الديمغرافية الفلسطينية ولكن انتقال هذا الحل من مرحلة المدى المتوسط إلى المدى البعيد مرهون بتثبيت هذا الواقع وثوثيقه سياسيا عبر اتفاقات دولية، وهنا برزت التسوية الأمريكية التى تعرف بصفقة القرن والتى بدأت بكسر الديمغرافية الفلسطينية فى القدس وإخراجها من الصراع عبر الاعتراف بواقع ضم المدينة دون حتى اشتراط أمريكى يبدو بديهيا بمنح سكانها الفلسطينيين المواطنة الاسرائيلية، وهو ما يضع مصير بقاء فلسطينيى المدينة فيها مستقبلا فى مهب الريح، ويشى بأن التسوية الأمريكية ما هى إلا طوق نجاة أمريكى لاسرائيل الغارقة فى معضلة الديمغرافيا الفلسطينية.
أما المرحلة الثانية فهى غزة البائسة والتى تمثل الجزء الرابع من التقسيمة الديمغرافية الاسرائيلية والتى تحكمها سياسيا وعسكريا حركة حماس منذ ما يزيد على عقد من الانقسام، وغزة بوضعها الراهن تمثل نموذجا مثاليا جاهزا لاسرائيل فهى منفصلة جغرافيا عن باقى الأجزاء الثلاث أنفة الذكر، وهى عمليا منفصلة سياسيا بحكم سيطرة حماس على السلطة منذ أكثر من عقد وثمة ميزة مثالية لغزة اسرائيليا لا تتوافر فى الأجزاء الثلاث الاخرى وهى أنها تحوى أكبر كثافة ديمغرافية على أقل مساحة.
وتوثيق وشرعنة الواقع الانفصالى لغزة اليوم هو هدف استراتيجى كبير لاسرائيل ستقدم اسرائيل كل التنازلات الممكنة لتحقيقه، وليس مهم لاسرائيل من يحكم غزة بقدر ماهو مهم علاقة غزة مع باقى أجزاء التقسيمة الديمغرافية الاسرائيلية للفلسطينيين، والتى ستحظر أى تسريب من خزان غزة الديمغرافى الفائض نحو الشرق، وهو ما يعنى أن التسوية الامريكية القادمة لن تمنح أى فلسطينى من غزة حرية الإقامة مستقبلا فى الضفة، وهذا يستلزم تحويل غزة لكيان قائم بذاته لا يرتبط مع الضفة إلا بروابط شكلية ولا يستبعد أن يطرح الحل الكنفدرالى وليس حتى الفدرالى لأى روابط مؤقتة بين غزة وأى كيان فلسطينى آخر لما سيتبقى من الضفة ضمن الديمغرافيا الفلسطينية المقسمة اسرائيليا.
إن نجاح مرحلة غزة فى التسوية الأمريكية سيفتح الباب أمام تكرارالنموذج الغزى فى الضفة وقد نرى لاحقا غزة أخرى فى شمال الضفة وأخرى فى جنوبها ضمن كنفدراليات الحكم الذاتى الفلسطينية والتى سيترك للفلسطينيين الخيار لتسميتها دولة أو حتى امبراطورية، فالأسماء ليست مهمة ضمن التسوية الامريكية القائمة بقدر ما هو مهم الواقع العملى على الأرض.
وتعتقد اسرائيل أن هذا الحل هو أفضل الممكن الآن للحفاظ على الأغلبية اليهودية داخل الخط الاخضر مع إبقاء الديمغراقيا الفلسطينية مقسمة سياسيا، ولكنها فى المقابل تتجاهل حقيقة أن التقسيم السياسى والجغرافى للديمغرافيا الفلسطينية لن يكون بمقدوره تقسيم الهوية الفلسطينية وليس أدل على ذلك من مشهد العلم الفلسطينى وهو يرفرف فى ميدان رابين بتل أبيب فى مظاهرة الاحتجاج لفلسطينى 48 على قانون القومية العنصرى .
وهذا الحل بالعرف الحقوقى لن يطول طويلا، فهو كما يدفن الجمر بالتراب ويبقى على الجمر مشتعلا قد يحرق ما حوله فى أى لحظة أتية ، والحل الواقعى لاسرائيل هو أن تتخلى عن صهيونيتها وتتطور نحو الاصلاح وتقترب من التطور الحضارى الانسانى وتتحول من فكرة قومية عقائدية موغلة فى النرجسية إلى فكرة انسانية تؤمن بالمساوة والعدالة والواقعية .
وأمام هذه العنجهية والتعنت الاسرائلى فلا خيار آخر أمام اسرائيل سوى البقاء على حد السيف ولم يعرف التاريخ قط أمة ارتهن وجودها بحد السيف واستمر بقاءها طويلاً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق