الرسالة السادسة عشرة: لقد صنعتُ أصنامي، فهلا صنعت أصنامك أيضا؟/ فراس حج محمد

الجمعة: 5-10-2018

عمت صباحا ومساء، أما بعد:
ماذا يعني أنك غبت أو حضرت؟ لا شيء إطلاقا. مر على آخر رسالة منك في هذا اليوم ثلاث جُمع كاملة لا أدري عنك شيئا، ولم تصلني أخبارك. السماء لم تسقط على الأرض، ولم ينخسف القمر، ولم تنكسف الشمس، لقد استمرت بالشروق كل صباح وهي تبتسم، والعصافير لم تمتنع عن التغريد حزنا، بل إن كل شيء سار عاديا دون وحشة أو سوء حال. فالأمر طبيعي جدا. وما زلت أستمتع بشرب القهوة والقراءة أحيانا، وأذهب إلى العمل وأقوم بواجباتي على أكمل وجه.
قال أحد المفكرين: "إذا غابت الفكرة حضر الصنم". وإذا غبت تحضر أصنامك كلها. لكن المسألة ليست كذلك بالضبط، دعيني أشرح لك قليلا: ها هي قطعة خشبية تعلو مكتبي. صنم صنعته عند نجار صديق، كان بارعا إلى حد الذهول، أريته صورتك، وأخبرته أن يصنع لي تمثالا على صورتك ومثالك. كان فنانا فعلا، نحاتا أتقن الصنعة، ها أنت الآن أمامي بكامل حضورك. صنما، وثنا، فكرة، أحدثك كلما اشتقت إليك، أبتسم كلما لاحت لي الضرورة كي أبتسم. أتحسسك فأنت هنا وأكثر. تمثالك يُغني، يفعل بي كل شيء، إلا مضاجعتك، لقد تنازلت عنها، لتكون خاصة في الأحلام كل ليلة. أحلامي هي الأخرى ما زالت كما تعلمينها زاهية لم تتغير، ولن تتغير.
ثلاث جمع وأنت صامتة، تسترقين النظر وتطلين على شرفة الكلام المنشور هنا وهناك، ما الذي حرك فيك نشوة الاستمتاع بالعبث، لماذا لم تظلي باهتة الملامح، غارقة في المجهول، أعرف أنه لا فائدة من الكلام ولا من كتابة الرسائل. كل علاقتنا عبث، وكل ما كتبناه عبث، وكل رسائلنا هراء، ما نفعها؟ وهذه الرسالة أيضا نوع إضافي من العبث.
صدقيني لو قلت إنني لم أعد أشتعل وجدا كما كنت سابقا، فقد نجحتِ في تراكم الجليد طبقة من بعد أخرى. عندما قرأت رسالتك الليلة الفائتة لم تكن مفاجئة، إذ كانت شبه خاوية من المعنى، أو بأدق تعبير خاوية تماما من أي رسائل، لم أفكر للحظة أن أهتم بها. إنها لا شيء، لأنها لو كانت تمثل لك شيئا لم تكن لتتأخر ثلاث جُمع متواصلة، كنت غارقة فيها في ذاتك ولأجل ذاتك. مباركة تلك الذات يا عزيزة الذات! فلا تحاولي الالتفات مرة أخرى لأي شيء، فأصنامك التي في ذاكرتي وتمثالك الذي يتوسط مكتبي كافية لتكون البديل.
أريد أن أخبرك من باب الاستطراد العبثي طبعا، أنه لا قصائد، أو كتابات جديدة سوى نص طويل كتبته من وحي حوارات طويلة مع صديقة جديدة، عرفتني ما كنت أجهل، أطعمتني شهوة الحديث حول أشياء كثيرة، والليل لم يعد طويلا أو مملا، مع أنها رفضت إقامة علاقة معي من أي نوع سوى علاقة الصداقة.
علي أن أخبرك أيضا أن صديقاتي رائعات، لا يعرفن العقوق ولا الخذلان، ربما ضحكتِ الآن بملء الفم إلى حد القهقهة من ذلك. أعرف ذلك كأنني أراك تقهقهين بلؤم واضح. أرى تمثالك أمامي ضاحكا أيضا، ها هو ينظر إلي ويمد إحدى ذراعيه يتحسس وجهي، مع أنه من الخشب المصقول إلا أنه ليس باردا إطلاقا، تسري في كفه حرارة من نوع خاص، لستُ أتخيل أو أتمنى، بل إن تلك الكف الوثنية تنبعث منها رائحة شبيه برائحة جسدك.
فكري معي بفكرة الصنم المخترع، فكري بتلك الأقوام التي صنعت أصنامها لتعبدها، تريد أن تتقرب إلى الله زلفى بها، هل سيصبح ما بيننا تمثال ومجموعة أصنام، وننسى أن هناك شخصا ما زال حيا. أتمنى أن تستطيع هذه الفكرة ملء الفراغ.
لا أريد تحطيم تمثالك الوثني ولا أصنامك الزلفى، ولكن أريد أن أسهر معها على طريقتي الخاصة، فلم أعد وحيدا بعد هذا الاختراع العبقري، ولتبادري إلى صنع أصنامك أنت أيضا، فقد حان الوقت لنعود إلى ما قبل فكرة التوحيد العاطفي، يبدو أنها لم تعد مناسبة في الحب على الأقل، ولم يعد يليق بنا الإيمان أيتها المستنفرة المستفزة.
لا أدري متى يُبعث رسولنا الجديد لينقذنا من جاهليتنا الجديدة، فـ "لا شيء يقلب حياة المرء كما يفعل الحب"، إننا نعيش بفترة من الرسل، حتى ذلك الوقت الذي أرجو ألا يطول ظهوره قبل أن نموت، سأنتظر، لعلي أكون أول المصدقين به والمؤمنين بشرائعه. 
حتى يحدث ذلك فهل تنتظرين معي؟
فراس حج محمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق