( المفردة تحت قلم الشاعر القدير ذات شخصيّة خاصة تستمدّ قوّتها من قوّة شخصيّته , وتؤثّر بحيويّة شخصيّته وفعّالية سيطرته )* .
المفردة هي النواة الأولى في تكوين نسيج القصيدة , تمتدّ أواصرها نحو مع ما يجاورها من مفردات أخرى , لتشكّل لنا نسيجاً محكماً , تنبعث من خلاله الأفكار والأحاسيس والمشاعر ويتدفق الخيال خصباً منتجاً يتراقص على أنغام موسيقاها , تولد زاهية ذات ألوان متعددة , تبعث في النفس المرهقة مزيداً من المتعة والجمال والنقاء , تثير حيرة القارىء بإخفاء مقاصدها حيناً ما بين الفقرات والسطور , وتنمّي الذائقة ولذّة القراءة المنتجة والشغف بها وثراء الأستمتاع , لها القدرة على التجلّي في روح الشاعر فيبعثها كرسائل حيّة متجددة حيّة مثمرة , مثقلة بالهموم والأفكار والمسرّات , صوتها عال يحتلّ مساحة من ذائقة المتلقي , تجعله يفكّر ويؤوّل ويبحث عن ضالته في المتعة , عميقة صعبة تكتظّ بالمعاناة الكثيرة وسط سيل جارف من الكلمات المنمّقة الرشيقة , تغري بالقراءة وتستحثّ القارىء الجاد أن ينهل من منابعها الصافية , وتشجعه على الولوج الى عوالمها البعيدة , تعبّر عن معنى من خلال معني آخر , تتوارى جماليتها وراء جماليات أخرى .
القصيدة مجموعة من المفردات والفقرات تعبّر عن الأفكار والمعتقدات والسلوك للفرد او المجتمع او البيئة , والتي تعبّر عن شخصية الشاعر وما يعتريها من عواطف وانفعالات ومشاعر وآراء ومواقف يتّسم بها , وان فقدان احدى خصائص القصيدة يؤدي الى حدوث اضطراب وخلل في بنائها مما يجعلها غرضا يُرمى وتتعرض للانتقادات وتؤثر على رصيد الشاعر .
في هذا الديوان نجد المفردة والتي تتشكّل وتتعاضد مع باقي المفردات استخدمها الشاعر د. سعد ياسين يوسف كأقصى ما يمكن من أجل تفجير طاقات اللغة , فأستطاع أن :
1- يتخلّي عن النزعة الشخصية : اي ان تكون هناك عملية فصل ما بين الشاعر والشعر اي الفصل بين الكلمة والقلب , عن طريق العواطف الغير شخصية المتأججة , والانصراف الى المخيّلة الناصعة , وان تكون قادرة على التعبير عن كل الأحوال الوجدانيّة التي يمكن أن يحسّ بها الأنسان , والتجرّد من الذاتيّة الى النزعة البشريّة . لنقرأ هذه المقاطع لبعض قصائده ... في قصيدة / عشبة السماء / .. قبل أن يختفي / تحت سماء البرق / أومأ الى الجسور التي / أحنى ظهرها انتظار عتيق / وهي تتفقد كلّ يوم / سلال زهورها البيضاء / المحدّقة في شجرة السماء / على امتداد خيط الدخان / وكلّما آلت الى الذبول / نفخت فيها من وردها / وأوحت الى أنوارها / إذ استبدّ بها هاجس / الأفول ... وكذلك نرى هذا كما في هذا المقطع من قصيدته / تهجّد النسغ / ... الزهرة .... / تلك التي أنبتها / صلوات الملائكة / الذين تنزّلوا / ليودعوها بين الرفيف / والرفيف .../ أطلقت موسيقاها / وارتفعت الى عنان السماء / مرسلة جذورها عميقا .. عميقاً / في الشرايين وغطّت / بالوانها , النهارات , الأغاني , الأمسيات , / منيرة بزيت روحها ../ طلمة ممرات المعبد .
2- التركيز والوعي بالشكل : ليس مهما خصوبة المواضيع التي يتناولها الشاعر بقدر المدى الذي يتناولها , فموضوعة الاشجار ظلّ الشاعر يدور في فلكها يهذّبها وينقّحها ويبعث فيها الروح , ويجيد استخدامها بطريقة ابداعية حتى قيل عنه ب شاعر الأشجار . ونجد ذلك متجلّيا كما في هذا المقطع من قصيدة / ارتقاء / ... منذ أن تجذّرت في الأرض / هذه الشجرة / وامتدّ للسماء طرف خضرتها / أومأت ليمامات حزنها / أن اكتسي بلونك الأبيض / تاركة لمن استظلّوا بها / ثمر المسرّة ... وكذلك في هذا المقطع من قصيدة / أشجار لاهثة في العَراء / .... وبلا ثياب , تنسلّ روحي / الغصون وتسّاقط / غصناً فوق غصن / فوق غصن / فوق غصّة .../ حتى تقطّعت أزرار السماء / وتدلّى ثديها / وتدافعت بحثاً عن نفسٍ من خضرة / لما تبقّى من شجرة الأنبياء ...
3- بعث الروح والسحر في اللغة : كل بيت في القصيدة يتحوّل الى طاقة وقوّة نغمية تزيد من تأثير المضمون , وكانت الأشكال الصوتية المؤلفة من إيقاعات متجانسة أو توافقات بين الحروف الساكنة والمتحركة تسحر الأذن برنينها الأخّاذ . ونلاحظ هذا كما في هذا المقطع من قصيدة / المتصوّف / ... ذلك الذي يتضرّع / الى النّصل أن يوغل أكثر , فأكثر / ليس غواية في الألم / ولا في خرقا لمألوف دهشته / وهو يحدّق بالنور منبهرا / بالف جناح / لملكوت الأفق الأعلى / غير أنّ جُلّ مبتغاه / أن يخترق النّصل الحُجُبَ / ليحلّ ../ بفضاءات الفردوس المفقود . وكذلك كما في هذا المقطع من قصيدة / أفقٌ أعمى / تشتهيكِ قصائدي / إيقاعاً سرّياً ../ وثيمة لا يدركها الرواة / ولا الزّجّالون / ولا عازفو النايات / عند المغيب / حينما تمنحهم / الشمس آخر إسرارها .
4- استخدام ذكي في تأجيج الخيال الخلاّق : هي محاولة الافلات من الواقع والخروج من أسره , وتخليص الواقع من واقعيته بالحلم او اللغة القادمة مما وراء الحلم . ونجد ذلك كما في هذا المقطع من قصيدة / عيون الصّبّار / .. من أنين مفجوع / لا هثاً يصل العرش / جذوره أحلام ناعمة .../ قلوب , غادرها النبض / تتلو آياتك .../ تحت ركام النزوات / تستمطرك الرحمة / والرحمة شجرة / ما عادت تورق في الأرض / لتظلّل ... / هذا الطوفان . وكذلك كما في هذا المقطع من قصيدة / ليس مجرّد خيال / ... مَنْ قال : / إنّ ما مرّ / مِنْ زمن تآكلت أقدامه / على جمر أحزاننا / كان حقيقة ؟ .../ أغمضي عينيك فقط / وتأمّليها .../ تلك السنين التي تسرّبت / كالماء ..... / من بين يديك اين مسرّاتها / وكم من الحزن اختزنت / وأودعت فينا / لتتلاشى تاركة / جراحاتها , ندوبها / عميقا عميقا .
5- لقد كان حريصا على التفكيك والتشكيل : انّ المخيلة الابداعية تفكك العالم وتعيد بناءه وتنظيمه وخلقه على شكل عالم جديد وبقوانين تنبعث من أعماق الذات الأنسانية , اي بناء عالم غير واقعي بسبب الحاجة للهروب من الواقع الضيّق عكس ما موجود من نسخ للواقع كما هو وبما يشبه التصوير الفوتغرافي . ونجد ذلك كما في هذا المقطع من قصيدة / تذاكر / .. الليلة / التي أوشكتْ / أن تفتح لنا خزانة مفاتنها / اضاعت مفاتيح الغناء / ورمتنا بإنتهاكات الظنون / مِن بعدما ألفت السنابل / انحناءة عودها على يد المناجل التي / قرأت جيدا تواريخ لهفتنا فأوغلت في الرقاب / أيّ حدٍّ تبلغ الساعة مئذنة الترقب / كي ينطق الصخر / بماء صورتك التي / أتعبتها الرمال .... وايضا كما في هذا المقطع من قصيدة / تساقط / ... أجنحتك / التي طالما / حلّقت بها عاليا / في فضاءات روحي / تساقط ريشها / وغادرتك ../ تاركة اياك / على متن غيمة من حجر / لأنها أدركت / سرّ الذي ... / أنت فيه الآن !!! .
6- التحليق عاليا في عوالم اللاواقعية الحسّية : حيث كانت كل مفردة او عبارة تتحدث عن الواقع المشوّه تمتلك كيفية حسّية , وهذه الأخيرة تتحدّ وتتآلف فيما بينها , وتنتج لنا تكوينات لا واقعيّة . ونجدها كما في هذا المقطع من قصيدة / اللا هوَ ../ ... سنواته .../ تجاوزت الكهوف / وجدران الأسى والحكايات / والتواريخ المسحوبة بالسُرفات / وما يزال .../ يشرب الدم الأول / يلوّن به وجه السماء التي / أثكلها بالشمس / وثقّبها بالطعنات . وكذلك في هذا المقطع من قصيدة / أنت اصطفيت وقوفك هكذا / .. يا أيّها المصلوب / يا أيّها المحلّق / بلا وجوهٍ ..../ هم اصفوك ليقتلوك ؟؟/ لا ... / أنت اصطفيت وقوفك هكذا / فلكمْ أنشدتً حزناً , حسرةً / يا ليتنا .... / فنفوز والله ../ ها أنت فزتَ بكل مهابة كربلاء / ممزّقاً صمت الفراغ / ما بين ماءٍ وسماء .
انّ المفردة تشبه العجينة يستطيع الشاعر الحقيقي تغيّرها وتشكيلها دائما , فهي تمتلك إيقاعا خاصا تتناغم حرفا وصوتا وايقاعا من اجل ايصال المعنى الى المتلقي والتأثير فيه , فلابدّ ان تكون حبلى بالدلالات والرموز والايحاء والغرابة وتثير الدهشة , ويعتمد ذلك على مقدرته في الخلق والابداع وضبط الأيقاع الداخلي في القصيدة .
لقد استطاع الشاعر د. سعد ياسين يوسف ان يخرج من هذا الواقع وتخليصه من واقعيته وخلق لنا واقعا مغايرا أخر يشبه الحلم العميق , نتيجة المعالجة الموضوعية لهذا الواقع ولما يحمله من رؤيا واضحة نتيجة خزينه المعرفي واجادة سرّ اللغة وتشكيلها كيفما يشاء لينتج لنا كلّ هذا الجمال . لقد كانت المفردة في هذا الديوان تعبّر عن شخصية الشاعر بما تمتلكه من ثقة بالنفس كونه شاعر متمرّس يجيد كتابة القصيدة النثرية بطريقة خلاّقة , وكذلك عبّرت عن شخصيته المرنة حيث وجدنا لغته الرهيفة تذر علينا حلاوتها وطراوتها , ولقد كانت شخصيته طموحة نتيجة المفردات العميقة التي تمتلك جمالا فنيّا , واستطاعت مفرداته ان تصوّر لنا مرحلة مهمة من مراحل العراق وهذا يدلّ على شخصيته المقدّرة للمسؤلية اتجاه شعبه ووطنه , وكانت شخصيته فعّالة ومؤثّرة وهذا ما لمسناه من خلال قراءة الديوان الذي هزّ أعماقنا وجعلنا نتفاعل ايجابيا مع القصائد .
المصادر
1- أصول علم النفس الفرويدي – كلفن هال .
2- الجامع في تاريخ الأدب العربي – حنّا فاخوري .
3- ديكارت والفلسفة العقلية – د. راوية عبد المنعم .
4- كريم عبدالله والسرد التعبيري – د. انور غني الموسوي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق