الجمعة: 2/11/2018
مساؤك وصباحك قبلة ووردة وقصيدة، أما بعد:
لم أحظَ منك برد على رسائلي السابقة، لكن لا يهم، يكفي أنك تقرئين ما كتبت، ولا يفوتك منه شيء، هذا بحد ذاته دافع للاستمرار في الكتابة. مر عليّ هذا الأسبوع نكدا طويلا، كأنه ظل كثيف الغيم، سرعان ما تبدد في حضورك على مدى يومين باتصالك الهاتفي، كم كنت محتاجا لتنقذيني مما وقعت فيه أخيرا من شرك السفاهة والتفاهة والبلادة. ولتسمحي لي أيتها الحبيبة أن أبلغك شيئا عما جرى.
بالتحديد يوم الثلاثاء الفائت، كان يوما أسود، تافها، قذرا، شعرت فيه أنه يوم هجائي بليد لا طعم له، بل إن له طعم الحنظل المنعقد في ذاكرتي، كلما تذكرته حتى أشعر بالاختناق والضيق والغثيان ووجع في المعدة. كان يوما طويلا مُمّلاً، قضيته برفقة أحد المعارف في المدينة، تحولت دفعة واحدة إلى شيء عديم الفائدة والقيمة، كم أتمنى لو أنسى ذلك اليوم. اليوم أكتب لك عنه لأنني أصبحت قادرا على مسك ذاكرتي بين إصبعين من أصابعي وأفتتها بكل رفق ولذة وربما بلا رحمة دون أن أشعر بالامتعاض. أكتب لك عن يوم كنت فيه أبله، وكان يوما متفوقا في البلاهة على كل حال. دعيني أسمه لك "الثلاثاء الأسود"، والغبي أيضا. لقد ضاع من حياتي سدى، ولم أشعر في أي يوم من أيام حياتي كلها أنني عشت يوما أسوأ من يوم الثلاثاء الماضي.
في ذيل ذلك اليوم، حضرت لقاء أدبيا للكاتب الشاب أحمد جابر لمناقشة مجموعته القصصية "السيد أزرق في السينما"، كان لقاء متواضعا على كل حال بالحضور كمّاً ونوعا، وأغلب الحضور كان رفّاً من "الحمام الإلكتروني" كما قال أحمد نفسه "جمهور من الفيس بوك"، فتيات، قارئات، متابعات للكاتب، جئن وحضرن اللقاء، شكلن نسبة جيدة في الحضور، هنا تبدو نظرة رونان ماكدونالد صائبة تماما في إعطاء القارئ العادي قيمة للعمل الأدبي بعيدا عن النقد الأدبي الرصين. هنا يمكن للمرء أن يفهم تلك العوالم المشوهة في القصص، وسطحية الرؤى في تلك النصوص.
ثمة ملاحظات كثيرة على المجموعة القصصية التي فازت بجائزة القطان، ورأيت أن ما قالته لجنة التحكيم عن المجموعة مبالغ فيه كثيرا، فلم تكن فسيفساء المجموعة معبرة بشكل عميق عن ذلك الرأي "المهول جدا" في وصف المجموعة القصصية، ولكن لا بأس.
ولعلك تسألينني ماذا وجدت في المجموعة من ملاحظات؟ لا شك أنني سأسرد لك في عجالة أبرز ملاحظاتي على تلك المجموعة، وإن أتيحت لك الفرصةُ قراءتها فلنتبادل الآراء حولها في قابل الأيام.
أحسست وأنا أقرأ في نصوص المجموعة أن "القصة القصيرة" في مأزق إبداعيّ، فليس هناك نماذج لقصص قصيرة بارعة كتلك التي سادت في الثمانينيات أو ما قبلها، أصبحت القصة القصيرة قليلة الحضور وباهتة البناء، وكتابها قليلون، يكتبونها ربما للبحث عن فكرة روائية كما حدث مع أحدهم، فبعد نجاح إحدى قصصه القصيرة، قام بوضعها في قالب الرواية، فمطّها وأمَلّها، وخرّب القصة والرواية معا. هذا ذكرني بزملاء عملوا في تأليف مقررات اللغة العربية الحالية، لقد كانت معضلتهم إيجاد نماذج من القصة القصيرة، لقد اتصل عليّ بعضهم، ولكن ذائقتهم وذائقة من يعملون معه ربما لم تكن كما ينبغي أن تكون، فرفضوا كل اقتراحاتي، ليستقر رأيهم أخيرا على نماذج باهتة وركيكة أو مكررة أو اعتماد مقالة بدل القصة، ولهذا الأمر وقفة أخرى غير هذا الموقف.
أغلب القصص في مجموعة "السيد أزرق في السينما" لا تتجاوز قامتها السردية صفحة وبضعة أسطر، وتقوم على ملامح باهتة للشخصيات ببعديها النفسي والخارجي، عدا ما تتمتع به أغلب الشخصيات من أزمة نفسية تقربها إلى عالم اللامعقول، وأحب أن أستخدم مصطلح "اللامعقول" حتى لا تظني أنني لو استخدمت غيرها كالفنتازيا مثلا، أن النصوص من الأدب الفنتازي، هي لا معقولة فقط، بمعنى أنها لا رؤيا لها، تلك الرؤيا التي يستند عليها "الأدب الفنتازي"، لقد بقيت هذه النصوص سردية سابحة في خيال غريب، حتى وإن حاول الكاتب إدخالها في الرمزية ومبدأ الإسقاط الواقعي، فإن شيئا ما لن يساعده في ذلك. فطبيعة السرد المقتطع غير المستند إلى إشارات نصية تجعل النصوص مبتورة سابحة في فضاء أسود لا تستطيع الاستقرار على معنى معين.
ثمة ملاحظات أخرى لا تبدو ذات أهمية، وإنما أحببت أن أوضح وجهة نظري المغايرة لمديح لجنة التحكيم "الكبير" للمجموعة، مع ملاحظة أن المجموعة تغص بعنصر "التغريب" الذي أشعرني بوجع ما، وكنت قد ناقشت ذلك منذ مدة، عندما تناولت بالقراءة إحدى الكتب الفيسبوكية.
لقد اعتمد الكاتب بكليته المعرفية على الأدب المترجم، فبناء جمله، والفضاء المكون للقصص، وأسماء الشخصيات، كلها تسحب قارئها إلى عوالم الكتّاب الأجانب، كما صرح الكاتب نفسه أنه قد تأثر في قصة من قصص المجموعة بإحدى القصص المترجمة، وما يظهر كذلك من استعراض حياة "كافكا" في أول تلك القصص، لتبدو قصة "الشبّاك الخامس" قصة غريبة عن المجموعة، كأنه النص النشاز في غابة تعج بالمناخ الغريب جدا، لتصبح الغرابة غَرابتين وغُربتين. ربما أراد الكاتب أن يستعرض ثقافته على القارئ، فليكن.
لقد لاحظت إحدى القارئات هذا الملمح في القصص، أيضا، فلماذا كان الكاتب منحازا لذلك المناخ السردي اللامعقول المنغمس في الأدب المستورد؟ على كل حال يا عزيزتي، ربما سيكون لك موقفٌ آخر من المجموعة.
أرجو لك الخير دائما، منتظرا رؤيتك، ربما أتاحت لنا الظروف لقاء طويلا نتبادل فيه الأفكار والشعر والأغنيات، ولا تجعلي غربتي غربتين كنصوص السيد أزرق هذه.
المشتاق لراحة يدك الدافئة
فراس حج محمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق