سيارة يقودها رجل بملامح عربية وهيئة فلسطينية وتجلس أو يجلس بجواره رجل أو إمرأة منقبة ويتجول فى شوارع قطاع غزة حدث عادى لا يثير الشبهة؛ ولكن على ما يبدو أن تصرف خاطئ من كان بداخل تلك السيارة أدى إلى اشتباه رجال الأمن فى غزة بهم فى ساعة متأخرة من ليل الأحد الماضي لتنكشف حقيقة من بتلك السيارة ويتبين لاحقا أن الرجل هو ضابط كبير فى المؤسسة الأمنية الاستخباراتية الإسرائيلية، وليتحول المشهد خلال ثوانى إلى ساحة حرب بعد تدخل الطائرات والمدفعية الاسرائيلية لتأمين انسحابهم وتدمير السيارة التى من الواضح أن ما كان بها من أسرار كان سيمثل كشفا للكثير عن طبيعة المهمة التى لا زالت قيد الكتمان.
ولقد وضعت هذه العملية علامات استفهام كبيرة حول حجم الاختراق الأمنى الاسرائيلى لقطاع غزة وكيف توظف إسرائيل الهدوء أو التهدئة لتنفيذ مهمات أمنية بتلك الجرأة وبهذا الحجم الذى اضطرها لتدمير سيارة عملائها خوفا من كشف ما فيها من معدات وأجهزة، وبعدها قررت المقاومة الفلسطينية الرد على هذه العملية والتى ارتقى بها سبعة شهداء، حينها إسرائيل أرادت تحقيق أهداف أمنية وسياسية في تلك اللحظات الحرجة وهى كالتالى:
أولا: تثبيت قاعدة أمنية فى أى اتفاق تهدئة قادم وهو حرية ممارسة نشاطاتها الاستخبارية والعسكرية فى ملاحقة أى نشاط تعتبره هى نشاط معادى متى شاءت دون الرجوع فى ذلك لأحد .
ثانيا: قياس ردة فعل حكام غزه السياسيين على العملية وقياس مدى المرونة والصلابة فى مواجهة اسرائيل بعد حزمة التسهيلات التى منحت مؤخرا لحماس فى قطاع غزه لاستثمار ذلك مستقبلا فى المفاوضات القادمة لتحديد مراحل التهدئة وكيفية ادارة سياسة العصا والجزرة مع حكام القطاع.
ثالثا: قياس مدى القدرات العسكرية واللوجستية التى وصلت لها المقاومة عبر مواجهة مفتوحة كالتى دارت خلال 24 ساعة الماضية لتحديد مدى القوة التى ينبغي أن تستخدمها ضمن محددات المستوى السياسى وطبقا لمحددات السياسية الاسرائيلية الاقليمية والدولية فى وقت بالغ الحساسية كالوقت الراهن الذى يشهد تطبيقا عمليا لمشروع التسوية الأمريكية
حيث غزة اليوم ليست غزة فى العام 2014، وهذا ما سيتضح لاحقا عند إعلان مشروع التسوية الأمريكية وهو ما كان واضحا خلال 24 ساعة الماضية، فلم تكن إسرائيل طليقة اليد فى استهدافها للقطاع وظهر ذلك فى حرصها على عدم الحاق الأذى بالأرواح أو بالبنى التحتية؛ وكان التركيز على المنشأت الواضحة المعالم والتى تخص حركة حماس تحديدا دون غيرها؛ وفى المقابل استطاعت حركة حماس وفصائل المقاومة إظهار وجه سياسى وعسكرى يستحق الاعجاب فى قدرتها على إيصال رسائل سياسية وعسكرية لإسرائيل، واستطاعت استثمار اللحظة السياسية الحرجة التى تكبل أيدى آلة البطش الاسرائيلى فى كسر معادلة الردع الاسرائيلية ولو الى حين؛ والتى كانت تحكم العلاقة بين القطاع واسرائيل منذ العام 2014 ، فقد نجحت فى إدارة المواجهة العسكرية بحكمة خلال 24 ساعة الماضية وظهرت بمظهر الند العسكرى الحكيم لأكبر قوة عسكرية فى المنطقة عبر سياسة القصف بالقصف والتصعيد بتوسيع مدى الاستهداف للمدن الإسرائيلية، ولكن من الواضح أن هذا المشهد قد وضع حكام اسرائيل فى حرج كبير أمام الجمهور الاسرائيلى ولولا قدرة نتنياهو على السيطرة على ائتلافه الحكومى لما أقر الكابينيت وقف اطلاق النار.
وفى المقابل احتفظت اسرائيل ضمن هذا الوقف بإطلاق النار فى حقها بمطاردة وربما تصفية من ترى أنه يشكل خطرا على أمنها وهو ما يعنى أن الأوضاع ستبقى على حافة الهاوية وقابلة للتصعيد فى أى لحظة خاصة وأن اسرائيل أصبحت بعد المواجهة الأخيرة فى حاجة إلى صيد أمنى كبير لرد اعتبارها أمام جمهورها الذى يستشعر الهزيمة واضحة فى المواجهة الأخيرة مع القطاع؛ وهو ما يفرض على المقاومة الفلسطينية أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر فى قادم الأيام.
وبعد هذه المواجهة المقننة يجب على حركة حماس إدراك أن إدارة الصراع السياسى قبل العسكرى مع إسرائيل أمر معقد وذو أثمان باهظة ليس بمقدور تنظيم بمفرده تحملها وبالكاد يمكن للكل الفلسطينى مجتمعا خفض أثمانه، وعلينا أن ندرك نحن الفلسطينيون أن استمرار بقاء معادلة الردع الاسرائيلى لنا مكسور بعد زوال اللحظة السياسية الاقليمية الحرجة الراهنة والتى تقيد آلة البطش الاسرائيلى إنما هو مرهون بوحدة الصف الفلسطينى وإنهاء الانقسام، وعلينا استثمار هذه اللحظة المضيئة فى عقد انقسامنا المظلم بإنجاز ذلك الهدف العظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق