خامساً : البوح التعبيري :
1 : - صولجان القبيلة .. بقلم : لينا قنجراوي
يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .
مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .
فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية , لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .
سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .
البوح التعبيري :
هو وصف العالم وطلب الخلاص بطرح رؤية فدرية عميقة للحياة والعالم وما هو واجب ومفترض , فتكون معاني الأشياء غير معانيها .
لقد مرّ الشعر بمراحل عديدة وبأشكال متنوعة ومختلفة عبر الاجيال , وفي كل مرحلة نجد خلال هذه الفترات ظهور اجيال جديدة تحاول الخلاص من شرنقة الارث المتعارف عليه والسائد , او نجد بعض المحاولات الفردية لدى بعض الشعراء ممن يركب موجة المغامرة والتجديد . ورغم المواجهة العنيفة ما بين انصار القصيدة القديمة وانصار القصيدة الحرّة / الجديدة / , تبقى القصيدة ويبقى الصراع مستمرا مادام هناك الشعر والشعراء . لقد حاول كتّاب قصيدة السرد التعبيري التفرّد بهذا الشكل الادبي الجديد / القصيدة الأفقية التي تكتب على شكل فقرات وبدون تشطير او فراغات او سكتات وتوقفات / والتحليق في فضاءات بعيدة , ولكونهم يعيشون في زمن مضطرب فكريا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا , فجاءت كتاباتهم متميّزة بالرسالية الواضحة , ورغم اللغط والتشكيك بعدم صمود هذه القصيدة على مرّ الزمن , الا اننا في كل يوم نجد اننا امام قصيدة رصينة متميّزة طموحة ترغب بالانطلاق نحو المستقبل والثبات والصمود . لقد اصبحت هذه القصائد تبحث عن مساحة لتتبنى خطابا شعريا يعبّر أصدق تعبير عن محنة الانسان العربيّ في هذا الزمن , وتخلق لها جسورا مع المتلقي بما تمتلكه من لغة عذبة ريّانة تبوح بكل مكنوناتها وتكشف عن طاقاتها الكامنة , وخيال ابداعي ينشّط ذاكرة المتلقي وتثر لديه الكثير من التساؤلات والتأويلات , لغة تملك روح التمرّد على ماهو سائد , تنفذ عميقا خلاّقة موحية بالجمال والرسالية في الذات الانسانية ومنبعثة من الهمّ الانساني المشترك لهذا الانسان في هذه الارض . بالعودة الى قصيدة الشاعرة : لينا قنجراوي / صولجان القبيلة / نتلمس بوضوح ومن وراء مفرادتها رسالة توحي لنا ببوح تعبيري هامس تعبّر عن القلق والخوف والصراع , صراع يظهر مجددا ما بين الانسان والأطر الاجتماعية وقيود القبيلة الصارمة وسلطانها . / أخائفٌ أنتَ ؟ ../ سؤال استفهامي تبتدأ به الشاعرة قصيدتها لتوحي لنا بأن هناك خوفا يعتري هذا الانسان وبالعودة الى العنوان / صولجان القبيلة / تأخذنا الى التقاليد والاعراف التي ترّينا عليها واصبحت طوقا يطوّقنا دائما ويحدد حركتنا الفكرية والثقافية , ثم تعود تطرح سؤالها الثاني ../ ممَّ تخاف و صولجان القبيلة كسرته نفحات رجولتك؟ ../ فمن خلال هذا الوحدات النصّية تبني الشاعرة فضاءها الدلالي وتكشف عن كينونتها وأحاسيسها وجلجاتها , تصرّح وبصوت عال عن افكارها وتبعث رسالة الى / الاخر / مذكّرة اياه بإنسانيته النقيّة وضرورة العودة ما فطره الله فينا , ونبذ كلما يشوّه نفوسنا نتيجة هذه القيود التي تحزّ للان فينا وتكبّلنا ../ وتاج الإنسانية يتلألأ فوق هامتك ../ . بعد ذلك تحاول الشاعرة ان تبثّ روح التمرّد والشجاعة والتحرر من هذه القيود , حيث يبدأ النصّ بالنمو والتمدد على مساحة من التعبيرات والرؤى وفق ما تراه الشاعرة وتؤمن به ../ كُنْ شجاعاً يا عزيزي و حرّر ذاتك من رواسبَ أثقلت كاهل حريتك ../ . ثم ينحرف النصّ متحولا من الزمان الحاضر الى المستقبل ../ غداً... / , ان الواقع المتردي يجعل الانسان امام تحديات كثيرة وصراعات ربما أشدّ انواعها قسوة هو الموت , كونه يعيش في واقع حزين تتمثل فيه العواطف الكاذبة والمشاعر الخادعة والاعراف والتقاليد البالية ../ ستضع رأسك بين أرقام المغادرين و عليه تذكرة بعدد السنين تحت لقب عمرك ../ . ثم تأخذنا الشاعرة الى عالم اخر , عالم الفقد والاختفاء من على مسرح الحياة ../ و أنت تسمعهم يشيدون بخصالك و روحك تقرقر جوعاً للحب و الحرية ../ . وانقطاء الاثر والضياع في عالم من الصمت البعيد وانقطاء الامل ../ و عيناك تفتقدان دمعةً سجينةً في لواء الممنوعات السخية!!!! ../ .
استطاعت الشاعرة ان تجعل الحركة تتدفق في نسيجها اللغوي ضمن فضائين / الحياة .. و .. الموت / وما بين / البراءة والفطرة .. والعادة والتقاليد التي شوّهتها / , واستطاعت عبلا لغة السردية التعبيرية ان تجعلنا نتفاعل ضمن هذه المساحة الزمنكانية ونستمع الى صوتها .
النصّ :
صولجان القبيلة .. بقلم : لينا قنجراوي
أخائفٌ أنتَ ؟ممَّ تخاف و صولجان القبيلة كسرته نفحات رجولتك؟.... كُنْ شجاعاً يا عزيزي و حرّر ذاتك من رواسبَ أثقلت كاهل حريتك .غداً... ستضع رأسك بين أرقام المغادرين و عليه تذكرة بعدد السنين تحت لقب عمرك. و أنت تسمعهم يشيدون بخصالك و روحك تقرقر جوعاً للحب و الحرية ، و عيناك تفتقدان دمعةً سجينةً في لواء الممنوعات السخية!!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق