خامساً : البوح التعبيري :
2 : - ندم .. بقلم : حنان وليد .
يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .
مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .
فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية , لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .
سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .
البوح التعبيري :
هو وصف العالم وطلب الخلاص بطرح رؤية فردية عميقة للحياة والعالم وما هو واجب ومفترض , فتكون معاني الأشياء غير معانيها .
تبقى القصيدة السردية التعبيرية والمنبثقة عن قصيدة النثر متجددة لا تشبه اي قصيدة أخرى تبحث عن متلقي منتج يستطيع قراءتها بطريقة ابداعية ويشارك الشاعر في قصيدته , فمتى ما تحرّرت من القوالب الجاهزة استطاعت ان تتسيّد بتواضع وتمنحنا الكثير من الشعرية والجمالية والرسالية , ومتى ما تخلّصت من الرتابة والمباشرة والمألوف وسخّرت الخيال وكانت مهذّبة رشيقة بلا زوائد أو نفايات وتنفتح على الزمن الشاسع وتتجاوز المكان واستلهام التراث وتسخير الاسطورة لفكرتها , كانت حيّة يتجدد شبابها دائما وتنفتح على آفاق رحبة من القراءات المتعددة والتأويل وتحقيق حالة التلاقي ما بين الجمهور والشاعر وكانت مدعاة الى قراءتها بطريقة ابداعية واستكشاف مواضع الجمال والابداع فيها .
ان التعبيرية في اللغة تعتمد على التوظيفات في ثلاث مستويات كما يقول الدكتور : انور غني الموسوي وهي / مستوى النصّ كقول وتركيب لفظي معنوي / ومستوى التجربة كعالم من المعاني والحقول الفكرية المعنوية / والمستوى الوسيط ما بينهما الناتجة عن القراءة عند المتلقي . وكما تقول د. نادية هناوي في كتابها / أميرة الرهان / انّ النقد فنّ قبل ان يكون علما وهو مكمل ابداعي لا وجود للابداع دونه , وهو يتمم عمل الشاعر حين يقرّبه من أذهان المتلقين , مشاركا معه ابداعه لا واقفا حجر عثرة بين الشاعر ومتلقيه . فلابدّ من الوقوف أمام الكتابة الأبداعية والأشادة بها وبعوالمها المعتمدة على / النصّ والكتابة / الفكرة واللغة / الخيال والأبداع / والشعور والمتعة . وبالعودة الى نصّ الشاعرة / ندم / يحلينا هذا النصّ الى حالة من الندم والألم والخيبة , فنحن اذا امام زخم شعوري عنيف وحالة من النكوص والخيبة , فعبر هذا العنوان سنعيش ونتعرف على الجو النفسي وخلجات الروح للمرأة الشاعرة ومساحة عالمها الموحش ومعرفة هوية الذات الشاعرة . فمثلا نقرأ للشاعرة ../ على طريق الخطيئةِ تحتضرُ بقايا النفسِ العالقةِ بوجهِ عاصفةِ الألوانِ تُغطي ما عُريٓ من شفاهِ جسدٍ غوى التكوين الاول .. / , لغة الغواية والمراوغة بعيدا عن المدلول اللغوي الواقعي ومقدار الانزياح اللغوي الجميل لديها .. / تنفضُ ما تبقى من ذرات شكٍّ يساورالخلجاتِ ، يهبطا مرتجفين بختمِ الأله كأوراقِ الخريفِ عند مخاصمةِ أعضانِ الشجرِ../ .. نجد هنا اختفاء صوت الشاعرة وتجلّي في تفجير طاقات اللغة وتناسقها الرشيق والعذوبة الشديدة وعالم مفعم بالجمال من الإيحاء والنغمّة بالرمزية المحببة ../ .. أرضٌ بالقرب من كهفِ الصنوبرِ ينبتُ من ثمرةِ البكارةِ عروقاً ودماً ،شبّٓ التخاصمُ محاطاً بعينِ العقلِ التائهةِ بين بكري الخليقةامام مقام الأعالي كبراً وتمردا ،مستقبلاً رفض قربانٍ بتصدع روحه التى كساها القبحُ ،حاقداً ،يمضى قدماً في غيّهِ مسخراً يدي البأس قابضةً لفناء البار ../ .. هكذا تستدرجنا الشاعرة الى عالمها الشعري باستخدامها النثروشعرية العالية البوح لتهيئنا الى تقبّل فكرتها وتكشف عن مقدرتها في صياغة اللغة عبر هذا الخيال الابداعي .. / أيها الغرابُ البعيدُ متى موعدُ الحفرِ؟ .../ .. هنا تقحمنا بهدوء في تناص قرآنيّ مستلهمة من قصة الأثم والجريمة هذه الأشارة لتفجر فينا صورة الشرّ وصراعه المستمر مع الخير ../ أخي بالعراء تجمّدت أطرافُ بنانه، كيف أحفر؟؟؟.. / .. اننا نرى ونسمع ونتلمس هذا العالم القبيح والمزيّف من خلال هذا البوح المدافع عن الأنسان والحق ../ .. لأخفي سوءتي ،أدفنُ مجدٓ من سارٓ الى حتفهِ بأقتدار في بطن الأَرْضِ الثكلى تقبّل دمٓ هابيلٓ ../ .. انها الخطيئة المتمثّلة بقصة / قابيل وهابيل / تلك الجريمة التي استمر تأثيرها ووجودها عبر كل الازمنة وفي كل الامكنة ../ .. أتعلمُ أنا أولُ قاتٍلٍ سكنٓ اللعنُ روحي وطوّق عنقٓهُ ../ انه الشعور بالندم الفضيع ومرارة الهزيمة واللعنة المصاحبة لهذه الذات المنغمسة بالحقد والأنانية ومرفقتها الدائمة مما جعل هذا الذات تعيش حالة من اليأس والأنكسار ../ .. في اي قاربٍ نحن الان أعرنا بوصلةٓ أحجارِ القمرِ علناً نلقي دربٓ مدخراتِ القمحِ بأجنحةِ الفراشِ بضوءِ قنديلها الخافتِ تحت ظلِّ عرشِ المرجانِ السابع ../ .. واخيرا تضعنا الشاعرة امام هذا السؤال المرعب بعدما فقدنا بوصلة المكان والزمان / في أي قارب نحن الان / نجد الان انفسنا في قارب تتقاذفه الامواج لكثرة الفتن وانتشار الظلم والطغيان على هذه الارض .
استطاعت الشاعر : حنان وليد ان تلوّن نسيجها الشعري بهذا الصوت العالي والبوح التعبيري مستلهمة من التاريخ هذه الواقعة لتعيدها الى ارض الواقع وخلق حركية مستمرة داخل النصّ لتثير المتلقي , وربط الماضي بالحاضر وخلق هذا العالم وكشف زيّفه وقسوته , وبثّ حالة المتعة والدهشة لدى المتلقي المنتج الباحث عن قراءة واعية والمتفاعل ايجابيا مع الشاعر . لقد كان عالم الشاعرة شاسعا ويفتح أبوابا كثيرة للتأويل وتعدد القراءات نتيجة هذا التوتر وتوالد الانفعالات والتحايل على المتلقي , كل هذا جاء عن طريق هذه الكتلة اللغوية المتماسكة البناء , لقد كانت اللغة مطاوعة للشاعرة في رسم هذا الوهج اللغوي وسعت الى تحقيق ملامح السردية التعبيرية بوضوح , كل هذا كان عبر مخيال الشاعرة اليقظ والمتأمل للواقع ومشكلاته , كانت الشاعرة تعي ما تريد قوله فكانت قريبة منّا وحققت حالة من التآلف , وعبّرت أصدق تعبير عن الحياة والواقع وصنعت هذه الوتيرة المتسارعة في النصّ وهذا ما يُحسب لها .
النصّ :
ندم .. بقلم : حنان وليد .
على طريق الخطيئةِ تحتضرُ بقايا النفسِ العالقةِ بوجهِ عاصفةِ الألوانِ تُغطي ما عُريٓ من شفاهِ جسدٍ غوى التكوين الاول
تنفضُ ما تبقى من ذرات شكٍّ يساورالخلجاتِ ، يهبطا مرتجفين بختمِ الأله كأوراقِ الخريفِ عند مخاصمةِ أعضانِ الشجرِ.
أرضٌ بالقرب من كهفِ الصنوبرِ ينبتُ من ثمرةِ البكارةِ عروقاً ودماً ،شبّٓ التخاصمُ محاطاً بعينِ العقلِ التائهةِ بين بكري الخليقةامام مقام الأعالي كبراً وتمردا ،مستقبلاً رفض قربانٍ بتصدع روحه التى كساها القبحُ ،حاقداً ،يمضى قدماً في غيّهِ مسخراً يدي البأس قابضةً لفناء البار ،يصرخُ من فمهِ الخدرُ بدّدهُ الأفقُ البعيدُ ،طافت صلواته بلسانٍ نادمٍ عبر الغيمِ المتثاءب لأذن النفق المكتظ بالركاب المقيدين بمعاصي حبالِ الدموعِ دون سماعٍ .أيها الغرابُ البعيدُ متى موعدُ الحفرِ؟ قد ظماءه الانتظارٓ!! مابالك؟ أخي بالعراء تجمّدت أطرافُ بنانه، كيف أحفر؟؟؟ لأخفي سوءتي ،أدفنُ مجدٓ من سارٓ الى حتفهِ بأقتدار في بطن الأَرْضِ الثكلى تقبّل دمٓ هابيلٓ ،أتعلمُ أنا أولُ قاتٍلٍ سكنٓ اللعنُ روحي وطوّق عنقٓهُ،في اي قاربٍ نحن الان أعرنا بوصلةٓ أحجارِ القمرِ علناً نلقي دربٓ مدخراتِ القمحِ بأجنحةِ الفراشِ بضوءِ قنديلها الخافتِ تحت ظلِّ عرشِ المرجانِ السابع .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق