جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها الكاهن عاطف بن الكاهن الأكبر ناجي الحفتاوي (١٩١٩-٢٠٠١، ليڤي بن أبيشع، كاهن أكبر بين السنتين ١٩٩٨-٢٠٠١، شاعر وخبير في قراءة التوراة) بالعربية على بنياميم صدقة (١٩٤٤-)، الذي نقلها إلى العبرية، أعدّها، نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، في العددين ١٢٤٠-١٢٤١، ٥ حزيران ٢٠١٧، ص. ٩٨-١٠٠.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري يسكنون في مائة وستّين بيتًا بالتقريب، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى أقطار العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويِفِت (حُسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتصون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”تسألُني، ما فعلتُ للخالق؟ في جُعبتي إجاباتٌ كثيرة على هذا السؤال، وكلّها نابعة من القلب والجسم والروح. إنّي أُحبّ الله بكل قلبي وروحي وقوّتي. أودّ أن أعبُده ولا أنقطع عن التضرّع له ليوفقّني. هذا ما فعلته للخالق هذا الأسبوعَ، وهذا ما فعلته حتّى الآن، وهذا ما سأفعلُه حتّى مماتي. آه، أتنوي الكتابة عن شؤون مقدّسة؟ إذن، إنّي أقوم بهذا من وقتٍ لآخرَ، أكتُب لنفسي.
تعالَ لأحكي لك قصّة عن شخصية أُقدّرها على الدوام، عمّي الكاهن الأكبر توفيق بن خضر (متسليح بن فنحاس) المكنَّى بأبي واصف. كان كاهنًا أكبرَ بين السنتين ١٩٣٣-١٩٤٣. وقد كُتب الكثير عن شخصيته ونهجه في الحياة. بوُسعي أن أقول لك إنّ أحد الأمور التي أدهشتني هو كيف تمكّن أبو واصف أن يحتلّ منزلة مرموقة في طائفته، وفي أوساط سكّان نابلس؟
كلّ من عاصره وعرفه عن كثَب سيهزأ من هذا السؤال الذي قطعًا لن تسأله أنت، تفضّل واسمع! تعود بي هذه القصّة إلى مرحلتي صِباي وبلوغي. من أصدقائي القريبين آنذاك وكثير منهم اليوم أيضًا: الكاهن عاهد بن غزال (بريت بن طابيه) رحمه الله، وأطال الله في أعمار كلّ من الكاهن خضر (فنحاس) بن إبراهيم ابن عمّي، راضي بن الأمين (رتسون بن بنياميم) صدقة وخليل بن شاكر مفرج (إبراهيم بن يششكر مرحيب).
بالنسبة لنا، نحن الفتية والشباب، لم يكن أبو واصف عبارة عن إنسان أو مسنّ من الواجب احترامه كما ورد في التوراة ”من حضرة/قبل ذي شيبة/الشيبة تقوم/تقف“ (سفر اللاويين ١٩: ٣٢، أُنظر حسيب شحادة، الترجمة العربية لتوراة السامريين، المجلّد الثاني، سفر اللاويين، سفر العدد وسفر تثنية الاشتراع. القدس: الأكاديمية الوطنية الإسرائيلية للعلوم والآداب، ٢٠٠١، ص. ٩٦-٩٧)، كما اعتدنا معاملة كلّ إنسان آخر. كان أبو واصف بالنسبة لنا كلَّ شيء على الإطلاق، إنّه المحيي والمميت تقريبا. هو المقرِّر، الساقي والمطعِم وهو الذي أوجد من أجلنا عالمَنا الديني السامريّ الحقيقي. إيمانه بقدرته لتنفيذ كلّ ما يطرأ بباله كان راسخًا جدّا، إيمان أعمى محض. لم نفكّر قطّ ولم نتصوّر أنّ هناك شيئًا في الوجود يتعذّر عليه إنجازه. من استطاع أن يقف أصلًا أمام أبي واصف؟ لا أحد، لم تطرأ بذهننا مثل هذه الإمكانية. كنّا نولي الأدبار حينما يمرّ في الشارع لأُبّهته وجلاله. بكل بساطة خِفنا منها خوفًا قاتلا. خفنا، لعلّه عزم على انتزاع روح كل واحد منّا، إن لم نسلك الطريق القويم، كما ينبغي.
الجدير ذكرُه في خلفية هذه القصّة، أنّ الطائفة شهِدت نزاعًا شديدًا أدّى أحيانًا إلى تقسيمها وكان أبو واصف الوحيدَ الذي عمِل على تهدئة الأوضاع. مع كل ذلك، حدث من وقت لآخرَ أن الأمور تأزّمت من جرّاء العلاقات بين العائلات السامرية، نتيجة الوضع الاقتصادي العصيب، وبسبب التنافس بين عُزْب الطائفة آنذاك، لإقامة أُسرة وتعذّر لبعضهم ذلك بسبب نقص في الجنس اللطيف. في بعض الأحيان كانت القطيعة حادّة، فلم يأبه هذا الطرف باحترام المتوفي من الطرف الآخر.
وفي القصّة التي أسرُدها، نشِب سِجال حول مكان دفن الميّت، هنا أم هناك، في المقبرة الصغيرة في حيّ رأس العين في نابلس، في الجانب الغربي الشمالي من جبل جريزيم. كان هناك معارضون لدفن الميّت بجوار قبور أقربائهم لأنّه ليس من”جماعتهم“. قرّر أبو واصف بدفن المتوفي في مكان ما وأمر حالًا بحفر القبر. بينما كنّا منشغلين في الحفر، وإذا بوصول بعض أفراد من الطائفة وحاولوا ثنينا عن العمل، مدّعين أنّه يجب دفن الميّت في مكان آخر. استُدعيت فورًا فقلت لهم: ”الكاهن الأكبر توفيق أبو واصف أمرَنا بحفر القبر هنا، وإذا أمر بذلك فلا حول لنا في تغيير المكان. سيغضب علينا جدّا، أمرُه لا يُعلى عليه، إنّه المقرّر ولسنا نحن“. صرخ المشاغبون نحوي: ”من هو أبو واصف ليقرّر أين مكان الدفن، إنّه لا يقرّر بالنسبة لنا“. إلى هذا الدَرَك وصل الخلاف في الطائفة، المسّ بشرف الكاهن الأكبر.
الموتى يخُصّون الجميع
لم ينتبه أيّ واحد من الصائحين بوجود أبي واصف بالقرب من المكان. إنّي متأكّد أنّه لو شعروا بوجوده لما تفوّهوا بتلك العبارات النابية. من المعروف أنّه حتّى معارضو أبي واصف الألِدّاء، لم يجرؤوا على قول أيّ شيء بحضوره، إنّه ملأ قلوبهم خوفًا وهلعا.
على كلّ حال، اغتاظ أبو واصف جدّا من كلامهم. أمرني أنا وابن عمي خضر بملاحقة أولائك الأشخاص الذين أسرعوا بالفرار من هناك بعد أن رأوه. أمرَنا بإلقاء القبض عليهم وتعذيبهم على تصرّفهم. اثنانا انطلقنا وكأن ثعبانًا لدغَنا وأخذنا بمطاردتهم. ركض نحونا في طريقنا الكاهن عاهد بن غزال واستغرب عن سبب هذه الهرولة. شرحنا له السبب وسُرعان ما استجمع قواه وانضمّ إلينا في المطاردة، لا بديل لذلك، صدر الأمر من أبي واصف.
أمسكنا بالفارّين وأشبعناهم ضربًا مبرّحاً ليرى الشعب ويرتدع. لا بدّ من التنويه أنّنا كنّا ثلاثتنا آنذاك في عنفوان شبابنا وقوّتنا. بضع ضربات كانت كافيةً ليعبّر الماسّون بشرف الكاهن الأكبر عن أسفهم العميق وندمهم عمّا صدر منهم.
في ساعات مساء ذلك اليوم، تدخّل بعض الوجهاء فنظّموا لقاء للمصالحة بين المتطاولين السفهاء وأبي واصف. استغلّ الكاهن الأكبر جيّدًا ذلك اللقاء ليشرح بجلاء كيف على أبناء الطائفة أن يتصرّفوا إزاء احترام موتاهم. جملتان ممّا قال محفورتان عميقًا في ذاكرتي.
قال لهم عمُّنا أبو واصف: ”إنّ وفاةَ كلّ إنسان من طائفتنا السامرية هي خسارة لكافّة الطائفة بغضّ النظر عن العائلة التي ينتمي إليها. شرف الميّت هو شرف كلّ طائفتنا. المسّ بشرف هذا هو مسّ، في المقام الأوّل، بشرفنا نحن، بني إسرائيل المحافظين على الحقّ“.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق