الوقفة الأولى... مع القرار والأخلاقيّات.
السؤال المطلوبة الإجابة عليه هو؛
"أية قيمة قائمة لهذا الفرمان الترامبيّ، أو من الذي يقرّر قيمته من عدمها؟".
حين أطلق أسلاف ترامب الإنجليز عام 1917 وعد بلفور، قيل فيه لاحقا وبتصرّف؛ إنه وعد "يعطي فيه من لا يملك لمن لا يستحق"، ولذا فكان وعدا ساقطا أخلاقيّا، وهذا يصحّ تماما في الفرمان الترامبيّ اليوم.
وحيث إنه لم يتبقّ في السياسة الدوليّة حتّى بقيّة أخلاق، هذا إن وُجدت أصلا، فلا أخلاقيّة الفرمان ولا عدم أخلاقيّته تقرّر قيمته من عدمها. فقيمته من عدمها تتقرّر في ساحات أخرى صاحبة علاقة، وهي شتّى وأهمها أربع سأقف معها لاحقا.
الوقفة الثانية... مع القانون الدوليّ والشرعيّة الدوليّة.
القانون الدولي والشرعيّة الدوليّة هي أدوات توافقيّة اتفاقيّة لا يسري مفعولها إلا إذا نفّها أطراف التوافق، وككلّ توافق نفاذُه من عدمه هو في احترامه على يد الفرقاء. ولعلّ في المقولة المنسوبة لوزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق؛ جيمس بيكر وبما معناه: "أميركا وإن أخطأت فخطؤها يصير الصّح"، الدليل على قيمة هذه المرجعيّات.
القانون الدولي والشرعيّة الدوليّة بهذا السياق لن تقرّر قيمة هذا الفرمان من عدمها، وأي تعويل على ذلك هو محض تلهٍّ لن يشبع من جوع ولن يروي من عطش، ولسنا بحاجة للأمثلة فهي وكقول المصريّين: "على قفا من يشيل".
وكما أسلفت، قيمة الفرمان من عدمها تقرّرها ساحات أخرى أهمها أربع، كما في الوقفات الآتية:
الوقفة الثالثة... مع الساحة الإسرائيليّة.
أعمى البصر والبصيرة فقط من يعتقد أن الفرمان بنصّه وشكل منحه الاستعراضيّ، ليس جزءا من حملة نتانياهو الانتخابيّة وعلى خلفيّة وضعه المهزوز، نتانياهو بحاجة لترامب والآخر بحاجة لنتانياهو في معاركهما الانتخابيّة. ولا يظنّن أحد إن الصهيونيّة تتحكّم بأميركا أو حتّى العالم كما يذهب البعض، فجاء الوقت أن يتخلّص العرب من هذا الوهم، فهي ووليدتها أداة من أدوات الأمن القوميّ الأميركيّ من ناحية، ومن الأخرى جزء من عقيدة دينيّة يتبناها ترامب ومصوتيه الانجيليّين (الفنغاليّون)، ومن هذين البابين يجيء دعمها.
صحيح أن هنالك شبه إجماع مؤسّساتي وشعبي إسرائيلي حول هذا الفرمان الترامبيّ، ولكن بغض النظر عن هذا وذاك، فلا الأمن القوميّ والقضيّة العقائديّة ولا الاجماع المؤسّساتي الإسرائيلي، ما يقرّر وسيقرّر قيمة الفرمان من عدمها.
الوقفة الثالثة... مع الجولانيّين.
الاحتلال وسيادته لا يوطّدها إمساك الأرض فهذا ومهما طال زائل والتاريخ أكبر شاهد، اللهم إذا ساد الاحتلال على ذهنيّة أهل الأرض. نصف قرن ونيّف من الاحتلال العام 1967م وثلاثة عقود ونيّف من فرض السيادة العام 1981م لم يستطع خلالها الاحتلال فرض ادواته السياديّة على أهل الجولان.
لم ينجح الاحتلال بفرض الجنسيّة الإسرائيليّة كأداة من أدوات السيادة رغم قانون الضم من العام 1981م، وللذكرى والتاريخ كان سًنّ شكلا ومضمونا على خلفيّة التصدّع العربيّ بعد اتفاقيّات السلام بين مصر وإسرائيل. لم ينجح الاحتلال بفرض سيادته ورغم القانون على الأراضي المملوكة على يد الجولانيّين، ومؤخرا لم ينجح بفرض أداته السياديّة الأخرى الانتخابيّة للمجالس البلديّة.
الاحتلال وإن استطاع أن يفرض سيادته بمعزل عن الفرمان الترامبيّ على الحجر والشجر في الجولان الفارغ ولكنه فشل فشلا ذريعا في فرضها على البشر، وليس من باب العفّة وإنما قصر شفّة، كما يقول مثلنا. هذا ما يستطيعه اهل الجولان، وليس المطلوب منهم أكثر من ذلك في وجه هذا الفرمان وتحديد قيمته.
الوقفة الرابعة... مع النظام الرسميّ العربيّ.
حدّث ولا حرج!
وإضافة، فهل يعوّل على من عمل على تمزيق أوصال سوريّة ومنح أجزائها لمن هبّ ودبّ أن يؤرّقه اقتطاع قطعة منها حتّى لو لصالح إسرائيل؟!
وإذا كانت الفرامانات الترامبيّة حول القدس لم توقظهم من نومة الكهف، فهل ستوقظهم الجولان؟!
قيمة الفرمان من عدمها يقرّرها موقف، والعاجز عن اتخاذ موقف، أي موقف، لا يعوّل عليه إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه. وحتّى لو تناثرت بيانات الشجب والاستنكار وغطّت سماء قمّتهم المقبلة، فكلّها لا في العير ولا في النفير وإلى أجل يجعل الله أمرا كان مفعولا!
الوقفة الخامسة... مع سوريّة.
الفرمان الترامبيّ هو طلقة أولى في الحرب القادمة وإن بعد حين. حتّى تكتمل الصورة حول قيمة هذا الفرمان لا بدّ من أن نعيد إلى الذاكرة وقائع تاريخيّة ذات صلة. بعد الحرب العدوانيّة على لبنان تموز 2006م ونتائجها، أطلقت إسرائيل برنامج إعادة تأهيل الجيش الإسرائيلي من خلال تمرينات سنويّة واسعة النطاق تحت مسمّى؛ نقاط تحوّل.
المؤسّسة الإسرائيليّة بكلّ أذرعها كانت قرّرت إن الخطر الاستراتيجي على إسرائيل هو في الهلال المتشكّل شمالها بدءا من إيران وانتهاء بلبنان وفي القلب والقلب سوريّة. ولذا يجب تأهيل عسكرها للتصدّي لهذا الخطر، بمبادرة حربيّة إن تهيّأت الظروف أم بردّ إن جاءت المبادرة من هذا الهلال.
لهذا وانطلاقا واعتمادا على هذا وحين اندلعت الأزمة السوريّة عام 2011م، أجمعت المؤسّسة الإسرائيليّة بكل أذرعها أن هذه ضربة في الصميم. ويكفي أن نعود ونستذكر الدراسة التي طلبها ونشرها "المعهد البحثي الصهيوني الأورشليمي" بقلم البروفيسو أيال زيس أحد أهم المتخصّصين في العالم العربيّ وسوريّة خاصّة، وكان خلُص فيها إلى أنّ؛ أي نظام يحلّ محلّ النظام القائم في سوريّة هو مصلحة استراتيجيّة إسرائيليّة.
انطلاقا من هذه الخلفيّة فمن سيحسم، ومطلوب منه أن يحسم، في قيمة هذا الفرمان الترامبيّ هو الدولة السوريّة وحلفاؤها. في أيدي الدولة السوريّة وحلفائها القول الفصل إن كان هذا الفرمان "ابن معيشة" أو لن يكون، ولا بدّ ممّا ليس منه بدّ عاجلا كان ذلك أم آجلا، وما دام عتاة الساسة الإسرائيليّين وظهيرهم عُتاة الساسة الدوليّين مصرّين على التمادي على حقوق الشعوب. ولعلّ في ذلك تصحيح خطا تاريخيّ وأنا أومن أن هنالك في هذا الهلال من يؤمن وسيعمل على تصحيح هذا الخطأ.
الوقفة الأخيرة... مع الفرمان وصفقة القرن.
دعونا بدءا أن نقرّر أن مجرّد استعمال المصطلح التجاريّ "صفقة" فيها إهانة للعقل البشريّ، فمتى كانت الأوطان ومصيرها موضوع صفقات!؟
يروح البعض إلى الاعتقاد أن هذا الفرمان الترامبيّ جزء من صفقة القرن، بغضّ النظر إن كان هذا الاعتقاد صحيحا أو لم يكن، فالصفقة بحاجة لطرفيّ صفقة، ونستطيع أن نجزم أن ترامب وصحبه وأيّا كانوا لن يجدوا فلسطينيّا واحدا يقبل أن يكون طرفا في صفقات حول الوطن. وإن كان هنالك بين صحب ترامب العرب من يجهزّ نفسه ليكون طرفا في هكذا صفقة فيصحّ فيه ما قيل عن أصحاب وعد بلفور وفرمان ترامب في باب أخلاقيّة الوعد والفرمان، ليس فقط لأنهم لا يملكون وإنما أيضا لأنهم لا يفقهون!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق