العاطفة في القصيدة السردية التعبيرية: أشواقٌ صائمةُ .. نموذجاً .. للشاعر : علاء الدليمي/ كريم عبدالله

السرد لا بقصد السرد ، السرد الممانع للسرد ، السرد لا بقصد الحكاية و القصّ ، السرد بقصد الايحاء و الرمز و نقل الاحساس و العاطفة . اللغة التعبيرية هي التحدّث بألم عميق ، عن العاطفة ، عن الواقع المرير ، أنّه الكفّ عن التغنّي بالخارج و وصفه و محاكاته ، أنّها الإبحار الى أعماق الشعور و إعلان الجوهر النقي للشعور و الرؤية الصادقة . نورد هذه المقدمة لكي لا يتوهّم البعض ويفهم انّ ما نقصده بالسرد الحكاية والقص , وكذلك التعبيرية لكي لا يتوهّم ايضا بانها تعني التعبير والانشاء , فالتعبيرية مأخوذة من المدرسة التعبيرية .

العاطفة من العناصر المهمة في الشعر السردي التعبيري  , فالشاعر يجب ان يمتلك عاطفة تتفجر من خلالها صورا شعرية تثير المتلقي وتكشف عن مكنونات القصيدة  حتى يستطيع كشف جميع الاشياء ومدى تأثره بها وتأثيرها على الاخرين . ويجب ان تكون عاطفته صادقة نابعة من اعماق وجدانه حتى تكون اشعاره خالدة وباقية , وان صدقها ( العاطفة ) هو سرّ خلود الشعر وتناقله عبر الازمان , فالشعر الخالد هو الذي يحمل ويحكي عن احاسيس ومشاعر وعواطف صاحبه ويثير عواطف المتلقي ويجعله يتفاعل ايجابيا معه . والشاعر المبدع هو الذي يستطيع اثارة عواطفنا واعجابنا حينما تكون عواطفه داخل النصّ صحيحة وقويّة ومستمرة وخصبة وان تكون خالية من المبالغة وان تصدر من قلب مفعم بالعاطفة الجيّاشة والمرهفة لتدخل الى قلب المتلقي كالينبوع العذب حين يغمر الارض بعد طول جفاف وتصحّر . كلما كانت العاطفة قويّة كلما حرّكت الاحاسيس والمشاعر  , وهي تعتمد على طبيعة الشاعر وقوة مشاعره التي من خلالها نتذوق الشعر ونتفاعل معه , وكلما ضعفت عاطفته جاءنا النصّ باهتا لا يثير عواطفنا . والعواطف تتنوع وتتنوع قوتها فمنها ما يستلهم المشاعر الطبيعية والحقائق وبعضها يكون مصدر قوته الحواس الظاهرية وبعضها قوة الشخصية وغيرها . كثيرا ما نجد في النصوص فكرة رائعة لكنها تفتقد الى العاطفة الحقيقية والقوية , البعض يستطيع ان يكتب ويؤدي افكاره واضحة دقيقة بسبب حسن تفكيره وسلامة لغته , لكنه لا يستطيع تصوير عاطفته القوية داخل النصّ لضعف اللغة لديه وسوء في فن التعبير , فتكون هذه النصوص ناقصة الجمال والروعة والدهشة . يجب ان تكون العاطفة مستمرة داخل النصّ وثابتة اي انها لا تخدع المتلقي , فيحسّ بانها مشتعلة ثم سرعان ما تخمد وتتلاشى ويضيع أثرها وتأثيرها . يجب ان تبقى العاطفة مستمرة في نفس الشاعر مادام يعيش اجواء النصّ كي يبثّ عواطفه الصادقة ومشاعره من خلال المفردات والالفاظ فنجدها مشحونة بالانفعالات , وكلما كانت المشاعر صادقة وعذبة و خصبة ومتنوعة تمكنت من اثارة العواطف والمشاعر لدى المتلقي كانت أقدر على انجاز مهمتها ولامست شغاف الروح وتأخذنا الى فضاءات اخرى , وكلما توالت العواطف والمشاعر في زخم قويّ ومنوّع ستشعل فينا جذوة تستعر لا تنطفىء بسهولة , اما اذا جاءت تتراوح ما بين القوة والضعف فان هذه الجذوة ستنطفىء وتذبل شرارتها وتموت القصيدة . ومن الضروري ان يتميّز الشاعر بقاموس مفرداته الحسيّة والشعورية وان تظل تتدفق حيوية حميمية مشرقة من البداية الى نهاية النصّ .

من خلال العنوان / أشواقٌ صائمةُ / سنجد العاطفة حاضرة متمثلة بمفردتي / الأشواق / الصيام / بالاضافة الى الخيال والانزياح اللغوي , هذا العنوان منح النصّ جوا مشبعا بالمشاعر المتأججة ,  يوحي بغرابة اللغة الخصبة القادمة من اعماق الذات الشاعرة مصحوبة بالايحاء الذي يثير في النفس مزيجا من المشاعر والاحاسيس , ويضفي عاطفة تتأجج , وهذا ما سنلاحظه عند قراءتنا . يبدأ النصّ بتدفق وجريان الأشواق من داخل الروح عن طريق لغة خصبة مشبعة بالايحاء والحنين والمشاعر ../ عندما تفيضُ الأشواقُ تغتسلُ الروحُ بمعانقةِ طيفكِ ../ .. حيث التعبير عن خلجات الروح بمقطع نصّي متماسك وأنيق ومفردات مشحونة تمّ اختيارها بدقّة وعناية , مفردات نتناولها يوميا في حياتنا ومعاملاتنا لكن الشاعر استطاع ان يرتفع بها عاليا ويمنحها سحرا وجمالا غير مالوف على ارض الواقع , ويستمر تدفق العواطف تقرع ابواب القلب كما في هذا المقطع ../  لهيبُ الظمأ المستعرِ داخلَ حجرةَ النبضِ لا يُروى إلا بأوكسجينِ ثغركِ يحررُ قلبهُ بقبلةٍ للإنعاشِ ../ .. حيث نجد الاشتعال الشديد والمستمر في القلب بعدما امتلأ لوعة واشتياقا وهياما , والبحث عن متنفس يقلل هذا الاحتقان العاطفي كي يطفىء هذه الحرائق , لقد كان الشاعر موفقا في رسم هذه الصورة الشعرية العنيفة عن طريق اختياره للمفردة المناسبة حتى تكون متلائمة مع اجواء الصورة الشعرية في هذا المقطع . وهنا يتطرق الشاعر الى مسألة فقهية اختلف فيها الفقهاء ويقحمنا في اجواء الاختلاف , اجواء توحي بالخشوع والصبر والزهد , فكانت اللغة تعبّر عن ذلك أصدق تعبير وكما في هذا المقطع ../ دونَ غبارٍ كثيفٍ يسري في الروحِ كـ سيجارةٍ في نهارِ الصومِ أختلفَ في أمرها الفقهاء ولكنَّ قلبي أفتى بجوازِ رشفِ أنفاسكِ مادامت بقصدِ إنقاذ نفس من الهلاكِ ../ .. لقد ترجم الشاعر عواطفه ترجمة دقيقة مستعينا بطاقات اللغة وسحرها , فالالفاظ هنا لا تنكرها الاذن لانها مشعّة . ويختتم الشاعر نصّه بهذا المقطع ../ لا يهمُ ما قالهُ المتشددونَ عن الأثمِ فخدكِ السمحُ كُفارةٌ والصومُ عن النظرِ لبديعِ خلقِ اللهِ لا شكٌ من أكثر المحرماتِ  .. / .. فنجد هنا حالة من الصراع النفسي تمثّله العبارات / المتسددون / الأثم / كفارة / الصوم / النظر / الله / شكّ / المحرمات .. فكل مفردة لها دلالاتها التي خلقت حالة من التوتر والصراع المحتدم في وجدان الشاعر نتيجة لجموح العاطفة  , وهذا ما جعل النصّ يحمل كل هذا التوهج والغرابة والدهشة عن طريق بناء وحدات نصّية رصينة مهذّبة متماسكة . فالشاعر وجد مادة الهامه من خلال أجواء شهر رمضان المبارك , استطاع عن طريق اللغة والايحاء والعاطفة والخيال ان يصنع لنا الشريط الملوّن من الصور الابداعية .

النصّ :

أشواقٌ صائمةُ .. للشاعر : علاء الدليمي

عندما تفيضُ الأشواقُ تغتسلُ الروحُ بمعانقةِ طيفكِ ، لهيبُ الظمأ المستعرِ داخلَ حجرةَ النبضِ لا يُروى إلا بأوكسجينِ ثغركِ يحررُ قلبهُ بقبلةٍ للإنعاشِ ، دونَ غبارٍ كثيفٍ يسري في الروحِ كـ سيجارةٍ في نهارِ الصومِ أختلفَ في أمرها الفقهاء ولكنَّ قلبي أفتى بجوازِ رشفِ أنفاسكِ مادامت بقصدِ إنقاذ نفس من الهلاكِ ، لا يهمُ ما قالهُ المتشددونَ عن الأثمِ فخدكِ السمحُ كُفارةٌ والصومُ عن النظرِ لبديعِ خلقِ اللهِ لا شكٌ من أكثر المحرماتِ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق