في شهر رمضان المبارك يفترض ان يكون شهر خير ومحبة وتسامح وتعاضد،شهر استغفار وتقرب الى الله بالعبادات والصدقات وعمل الخير والإصلاح بين الناس،ولكن يبدو بان هذه المعادلة صحيحة في الجانب النظري فقط،ولكن الواقع له رأي آخر،حيث نشهد وشهدنا في الشهر الفضيل ارتفاع في عمليات الإحتراب العشائري والقبلي الناتج عن " طوش" ومشاكل ذات طابع فردي،سرعان ما يجري التجييش و" التفزيع" لها على أساس قبلي وعشائري،لتتحول الى " طوش" عامة،تذكر بحروب "داحس والغبراء" و"البسوس"، يشارك فيها الكبير قبل الصغير،وتستخدم فيها كل انواع السلاح من السلاح الأبيض والعصي والجنازير والمواسير وحتى الأسلحة الرشاشة كما حدث في الخليل مؤخراً،وفي أكثر من " طوشة" لم يسقط جرحى وعاهات مستديمة فقط،بل كان هناك قتلى آخرهم وليس الأخير في مخيم الفارعة بنابلس،حيث قتل شخص واصيب آخرين في شجار.
في هذه " الطوش" ومعارك الإحتراب العشائري والقبلي، ينكشف واقعنا الإجتماعي على حقيقته بدون رتوش او مواربة،نريد أن نخفيها فيما يطفو على السطح من حديث عن الأخوة والمحبة والتسامح والتعاضد والشعب الواحد والوطن الواحد والمصير الواحد والدين الواحد والكرم العربي الأصيل..وقائمة ليس لها اول ولا أخر من الدجل والنفاق الإجتماعي،والذي يعبر عن عمق أزماتنا الإجتماعية،وبان مجتمعنا غير محصن لا مجتمعياً ولا وطنياً،بل يتعرض الى حالة من " الطحن" المجتمعي والتفكيك والتفتت،وكثير من قضايا الإحتراب العشائري والقبلي وعمليات القتل،ولدت المزيد من "الندوب" والجروح المجتمعية التي يصعب دفنها بين العائلات،ورغم ما ينتج عن تلك الخلافات والنزاعات والصراعات التي غالباً ما تنشأ عن أسباب ذات بعد شخصي ليس ذو قيمة او معنى او مضمون،يستحق كل هذه الخسائر والتداعيات الاجتماعية والنفسية الخطيرة،فالسبب ربما يكون خلاف بين طفلين او على حدود قطع أرض او تقسيم ميراث او على مكان وقوف سيارة،او حق اولية في السير،او اطلاق زامور سيارة،او سير سيارة بعكس السير وعدم احترام الدور في الشارع،او " جحرة" او معاكسة فتاة او التحرش بها ...الخ.
المأساة تقع الواقعة ويسقط قتلى وجرحى،ويتبارى اهل الحل والعقد من سلطة وقوى وطنية وعشائرية ورجال إصلاح يعملون على للملمة الطابق ووأد الفتنة،وفي مرحلة الحل،نستحضر خالقنا الله وسيرة الأنبياء والشهداء والأسرى من اجل ان يتم حل الخلاف وتلافي أكبر قدر من التداعيات الإجتماعية والنفسية والإقتصادية المترتبة على" الحرب" العشائرية التي اندلعت،ونشهد حديثاً منمقاً مزخرفاً تستخدم فيه كثير من كلمات وعبارات الإطراء والمديح لهذا المجتمع والدعوات الى الصفح والتعاضد والتكاتف والوحدة والتلاحم ...الخ،واغلب الحلول لا تحمل حلولاً ومعالجات جدية أو حقيقية،بل هي أغلبها تكون ترقيعية،او مبقية للنار تحت الرماد،ولا ننسى بان الجاهات والوساطات، تسعى لكي يكون صاحب الحل السحري "فنجان القهوة" هو سيد الموقف في الحل،وهو سبب الدمار والخراب وتوسع دائرة الخلافات والصراعات المجتمعية..
ومأساتنا بأننا من بعد " الطوش" والحروب القبلية والعشائرية، " تذهب السكرة وتأتي الفكرة"،حيث ندرك حجم الدمار الهائل الذي نتج عن تلك الإحترابات العشائرية والقبلية،ليس فقط ما نتج عنها من آثار مباشرة قتل وجرح وتدمير وحرق ممتلكات،بل أصبحت بنود الصلح تضمن ترحيل جزء من عائلة القتيل ،وكأننا أصبحنا نمارس عمليات تطهير عرقي بحق بعضنا البعض،فعائلة القتيل والمقتول تدفع اثماناً كبيرة،ولكن ما ينتج من تصدعات وتفكك في النسيج المجتمعي ،يسمح بعمليات اختراق واسعة من قبل إحتلال يتربص بنا،لكي يغذي مشاكلنا الإجتماعية،ويتدخل في شؤوننا العائلية والأسرية،حتى في أضيق إطاراتها ودوائرها.
المصيبة والمأساة باننا نستمر في ترديد نفس الإسطوانة المشروخة ونفس الكلمات والعبارات عن الوحدة والأخوة والتعاضد والتسامح والتكافل،ولا نعمل لتجسيدها حقيقة على أرض الواقع بالفعل، بدايتها أن نقر بان مجتمعنا مريض وبحاجة الى علاج،نبقى مثل النعام ندفن رؤوسنا في الرمال وكل اعضاء جسمنا مكشوفة... لا علاج وقائي يمنع الجريمة قبل وقوعها،ولا وعي ولا ثقافة ولا تربية...
نحن نعاني من خلل شمولي في التربية والوعي والثقافة،أسر ومؤسسات تربوية وتعليمية ومؤسسات دينية لا تقوم بدورها،هناك انهيار شمولي في منظومة القيم والأخلاق ،وهناك تدين ظاهر لا يعكس تدين حقيقي،اناس تؤدي طقوس وعبادات وفروض دون ان ينعكس ذلك في سلوكها وقيمها واخلاقها وحياتها العامة،معادلات لا تستقيم صلاة او صوم وبالمقابل سرقة او زنا او غش وفساد،او كلها مجتمعة،فتاوي تحرض على المذهبية والطائفية،وبالمقابل نقول إنما المؤمنين أخوة ..؟؟،غياب للثقافة والتربية الوطنية التي تعلي الإنتماء للوطن فوق أي انتماءات قبلية أو عشائرية،تطاول على حقوق الناس وكراماتهم وممتلكاتهم دون ي رادع،يشعر الناس بالظلم والغبن،مما يدفعهم لخانات وخيارات،احياناً تكون غير وطنية،ربما اللجوء للمحتل للتدخل .
لا يمكن أن تستمر المعالجات والحلول بنفس النمط والأليات،في ظل وضع تستفحل فيه الجرائم وتتفشى مظاهر العنف بشكل غير مسبوق في مجتمعنا،فلا المعلم ولا المدير آمن في مدرسته،ولا البيوت تحفظ حرماتها،ولا النساء والأطفال يسلمون من الإعتداء عليهم،حتى في الجاهلية كان للبيوت حرماتها،والنساء والأطفال لا يتم التعدي عليهم.
جزء كبير مما يحدث في مجتمعنا من عنف وجرائم قتل،هو من فعل أيدنا نحن،ويجب أن لا نهرب من ذلك الى القول بان الإحتلال هو السبب في ذلك.فالإحتلال له دور ومصلحة في إنتشار العنف والجريمة والآفات الإجتماعية في مجتمعاتنا،ولكن ليس هو بالشماعة التي نعلق عليها كل اخطاءنا وخطايانا،لكي نهرب الى الأمام من واقعنا،فنحن بحاجة الى قيادات جريئة تعلق الجرس وتتصدى لمثل هذه المظاهر والظواهر التي باتت تشكل تهديد جدي لنسيجيّنا الوطني والمجتمعي،فسياسة دس الرؤوس بين الرمال والمعالجات والحلول الترقيعية،لن تخرج مجتمعنا من أزماته العميقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق