العيسوية تعيد اتجاه البوصلة/ راسم عبيدات

العيسوية دائماً كانت تكون في قلب الحدث،وهي بكل مكوناتها ومركباتها الوطنية السياسية والمجتمعية والشعبية، لم تنزل عن جبل احد،ولسان حالها يقول هذا زمن المغارم لا زمن المغانم،ولذلك كانت دوماً عرضة لكل أشكال العقوبات من قبل أجهزة الإحتلال الأمنية والمدنية،جيش وشرطة ومخابرات ينكلون بالمواطنين ويتفننون في قمعهم وإذلالهم،عقوبات جماعية،إلاغلاقات متكررة لمدخل البلدة بالمكعبات الإسمنتية،عمليات دهم وتفتيش وإعتقالات،وإطلاق للرصاص الحي والمطاطي والقنابل المسيلة للدموع والقنابل الصوتية،ومنع اي نشاط او فعالية مهما كبرت او صغرت،حتى لو كانت مخيم صيفي،او افتتاح ملعب وليس استقبال أسير محرر من سجون الإحتلال،وبلدية الإحتلال حاضرة دائماً وبشكل شبه يومي في  تحرير مخالفات البناء تحت حجج وذرائع البناء غير المرخص واوامر الهدم والقيام بعمليات الهدم لبيوت ومنشأت أهالي العيسوية وتجريف أرضهم،ومصادرة حتى حيواناتهم،ودائرة معارف اسرائيلية وبلدية لا توفران الغرف الصفية لطلبة العيسوية،وتسعيان الى أسرلة المنهاج الفلسطيني في مدارسها،والهدف واضح " تطويع" و"صهر" وعي طلبتها،وتفريغهم من محتواهم الوطني والنضالي.

العيسوية كباقى القرى المقدسية،الاحتلال وبلديته وداخليته،رفضوا إقرار مخطط هيكلي للبلدة يتلائم وإحتياجات السكان،ويصرون على محاصرتها بالمستوطنات،ويصادرون أراضيها من اجل ما يسمى بالحدائق الوطنية " التلمودية" لمنع تمددها الجغرافي،ولذلك الضائقة السكنية وعدم وجود أراضي للبناء تدفع بسكان العيسوية للبناء غير المرخص، من اجل إسكان أبنائهم كنتيجة للزيادة الطبيعية للسكان،وتلك الأبنية تكون بلدية الاحتلال ووزارة الداخلية،حاضرة لها بالمرصاد،إما بالهدم في المراحل الأولى من البناء،او فرض غرامات باهظة على البناء غير المرخص بعد بنائه،ومن ثم دورة من الذل والمهانة لصاحب البيت في المحاكم الإسرائيلية  تمتد لعدة سنوات أقلها خمس سنوات،وتصل أحياناً الى خمسة عشر عاماً،وما يتكبده من خسائر كبيرة مصاريف للمحامين والمهندسين والمساحين،ومن بعد ذلك غرامات باهظة على البناء،وفي أغلب الأحيان، لا يستطيع الإنسان المقدسي ترخيص ما بناه،وبالتالي يكون مصير ما بناه،إما قيام جرافات وبلدوزرات الاحتلال بعملية هدم البيت،وتحميل صاحب البيت تكاليف عملية الهدم  (60 – 80 ) ألف شيكل،او إجبار الإنسان المقدسي على هدم بيته بيديه،وهنا قمة الإذلال وإمتهان الكرامة.

العيسوية وجبل المكبر ومخيم شعفاط والبلدة القديمة وسلوان من أكثر الأحياء المقدسية التي تعرضت لعقوبات جماعية،والإحتلال سعى الى كسر إرادة سكانها وتحطيم معنوياتهم عبر أشكال عقابية متنوعة ومتعددة،وبسبب هذا الصداع الدائم من تلك البلدات والأحياء،طرح قادة امنيون وعسكريون حاليون ومتقاعدون ووزراء واعضاء كنيست،فكرة الإنفصال عن أحياء كالعيسوية وجبل المكبر ومخيم شعفاط وصورباهر،ووضعهم في " جيتوهات مغلقة،يتحكم الإحتلال في مداخلها ومخارجها.،بحيث لا يكونوا ضمن مسؤولية السلطة أو جزء من المناطق التابعة لبلدية الاحتلال،بلدية " القدس".

سكان بلدة العيسوية في ظل حالة القمع والتنكيل المتواصلة بحقهم من قبل أجهزة الاحتلال المدنية والأمنية " طفح بهم الكيل"،ولذلك لم يكن أمامهم أي خيار سوى الصمود والمقاومة،ولذلك هم إنتفضوا في وجه الاحتلال،وكانت إنتفاضتهم  متزامنة مع عقد ورشة البحرين الاقتصادية، المستهدفة تصفية القضية الفلسطينية،ومرتكزات مشروعها الوطني،وفي المقدمة منه القدس،ولذلك جاءت هبة وإنتفاضة اهل العيسوية،لكي تعبر عن الرفض المقدسي،لما يجري في البحرين من تطاول على حقوق شعبنا وقضيتنا الفلسطينية،حيث تجري عملية تصفية القضية بمشاركة عربية واموال عربية،ولعله من الهام جداً القول،انه لأول مرة في التاريخ يتم دفع أموال الى من قام بسرقة الأرض،لكي يحتفظ بهذه الأرض.

العيسوية قالت لا لورشة البحرين الاقتصادية كاداة لصفقة القرن التصفوية،وهي لم تكتف بمعارضة تلك الصفقة قولاً،بل أتبعت ذلك بالفعل عبر مواجهة  مع الاحتلال مستمرة ومتواصلة،دفعت فيها الشهيد الأسير المحرر محمد سمير عبيد،وعشرات الجرحى والعديد من الأسرى،وهي ترسل رسائلها للمحتل،بانه مهما قمعتم ونكلتم،ومارستم عقوباتكم الجماعية،فالعيسوية لن تركع ولن ترفع الراية البيضاء،وكذلك هي ترسل رسائل الى القزم الصحفي السعودي فهد الشمري وامثاله من المرتزقة والمأجورين والمنهارين،ومن تسيطر على عقولهم ثقافة إستدخال الهزائم و"الإستنعاج"  من قادة النظام الرسمي العربي المتعفن،بأن القدس لن تتلقح بغير العربية،والأقصى لن يكون معبداً يهويداً وشعبنا لديه من العزة والكرامة،ما يكفي لكي يوزعها على كل دول العالم،وهو لم يكن متسولاً او " شحاداً" في يوم من الأيام،فشعبنا له الفضل الكثير،رغم كل ما حل به من نكبات،في تطور ونهضة دول الخليج وتعليم أبنائها،ونحن لا نمن على احد،ونعرف بان الشمري وامثاله من المرتزقة،ليسوا القدوة والأنموذج والمثال على شعبنا العربي في الخليج،ففي الوقت الذي إرتضت فيه بعض المشيخات الخليجية ان تصطف خلف" إمامة" ترامب،وأن يواصل" إستحلابها" المالي تحت حجج وذرائع حمايتها من عدو افتراضي" البعبع" الإيراني،وجدنا بأن هناك دولاً خليجية،وقفت مواقف مشرفة،مواقف عزة وكرامة،وقالت لن نطبع علاقتنا مع دولة الاحتلال على حساب حقوق الشعب الفلسطيني والأمة العربية،نعم نحن نعتز ونفخر بدولة الكويت قيادة وبرلماناً وشعباً عل مواقفهم المشرفة بعدم حضور ورشة البحرين الاقتصادية لتصفية قضيتنا الفلسطينية،قضية العرب والمسلمين الأولى.

الاحتلال يمارس كل اشكال البلطجة والزعرنة بحق شعبنا الفلسطيني عامة،وشعبنا واهلنا في مدينة القدس خاصة،مسكوناً بنظرية العرق الآري "التفوق العرقي"،معتقداً بان عطايا المتصهين ترامب بنقل سفارة بلاده من تل ابيب الى القدس والإعتراف بها عاصمة لدولة الاحتلال،توفر له الفرصة المؤاتية لإستثمار ذلك سياسياً،بطرد وترحيل شعبنا قسراً من مدينة القدس،ولذلك نحن نشهد " مجزرة" بحق الحجر الفلسطيني على طول وعرض مدينة القدس،في واد الحمص وواد ياصول واحياء البستان ووادي الربابة وبطن الهوى في سلوان وكبانية ام هارون وكرم الجاعوني في الشيخ جراح..الخ.

نتنياهو وجوقة المتطرفين معه مع كل مكونات ومركبات الطيف السياسي الصهيوني من اليمين الديني والعلماني،يعتقدون واهمين بأن المقدسي الذي لا يخضع بالقوة،يخضع بالمزيد منها،وفي قاموسهم لا يوجد هناك شعب فلسطيني،بل تجمعات سكانية،هكذا وصفنا مهندس ورشة البحرين الاقتصادية المتصهين كوشنر،الناس في غزة،الناس في الضفة الغربية،وكأننا لسنا شعب،بل مجرد أرقام بدون أسماء او أرقام هوية.

على نتنياهو وجوقة الرداحين معه من قوى اليمين الصهيوني المتطرف، أن يدركوابأننا لن نكون هنوداً حمر ولن نتبخر او نختفي،وصغارنا لن ينسون،مهما كانت المرحلة رديئة و"حراشية"،وها هي العيسوية بصمودها ونضالاتها تعيد اتجاه البوصلة لكل العرب والمسلمين،بأنها القدس ولا شيء آخر غير القدس.

ملاحظات حول الحالة الثقافية المحلية الراهنة/ شاكر فريد حسن

الناظر في الحياة الثقافية والمشهد الإبداعي الادبي في البلاد ، يلاحظ التحول والتغير الذي طرأ على حالنا الثقافي مقارنة مع الماضي ، ويتمثل ذلك في بروز الكثير من الأقلام والأصوات النسائية التي أخذت دورها الايجابي الهام وتسهم في مجالات الأبداع المختلفة ، وتبادر وتشارك في مختلف الأنشطة والفعاليات الثقافية والأمسيات الشعرية والأدبية ، وهذه ظاهرة مباركة ومشجعة تستحق الثناء عليها والاشادة بها ، رغم التباين والفرق في المستوى الأدبي ، في حين كنا نفتقر للقلم النسائي في سنوات ماضية ، وعرفنا أسماء نسائية قليلة مع ما نلاحظه في الوقت الراهن ، فضلًا عن ازدهار وانتشار الكتابة للطفل ، التي تتراوح بين الكتابة الرائعة الناجحة ، وبين الكتابة السطحية التجارية التي لا تخدم الهدف التربوي المرجو .

وفي المقابل نرى احتجاب وغياب المجلات الأدبية والثقافية ، التي شكلت حاضنة للأقلام الأدبية والإبداعات والفنون الجميلة المختلفة والمتنوعة ، حيث توقفت عن الصدور مجلات " الجديد والغد الشبابية والشرق والموكب ومواقف ومشارف والأفق والأسوار وغيرها ، ولم يبق في الوادي سوى مجلة " الإصلاح " الثقافية المستقلة الصادرة عن دار " الاماني " في عرعرة ، ويشرف عليها ويحرر صفحاتها الأستاذ الكاتب ابن الخطاف مفيد صيداوي ، والتي تصدر بانتظام كل شهر ، رغم الامكانيات المحدودة ، وشح الدعم المالي وانعدام الميزانيات . وكذلك غياب الملاحق الأدبية والصفحات الثقافية في الصحف الأسبوعية المحلية ، وغياب المحرر الأدبي الضليع والمشرف الثقافي المتمكن كما عهدنا ذلك في سنوات غابرة ، وإن وجدت بعض النصوص والمقالات الأدبية فإن أول ما يطالها مقص الشطب أو التأجيل والحجب حين وصول الاعلان التجاري قبل ارسال الصحيفة للطبع .

هذا بالإضافة إلى انحسار بل انعدام الدعم من قبل المؤسسات العربية بكل تشكيلاتها وتنوعها ، عدا مشكلة نشر وتوزيع الكتاب المحلي ، فصاحب الكتاب هو الكاتب والممول والمدقق اللغوي والمصحح والمشرف على الطباعة والمراجعه والقائم على التوزيع ، الذي بات للأسف مجانًا واهداءات للمعارف والأصدقاء ، وكثيرًا لا يقرأ الكتاب من قبلهم ويوضع على الرفوف كأدوات الزينة إلى أن يتطاير الغبار منه .

عدا المنافسات السلبية والقيل والقال والنميمة والنفاق والدجل الثقافي السائد بين أهل الكتابة .

هذه هي الصورة الحقيقية للوضع الثقافي الحالي المتهالك الذي يترنح ، ويقود إلى الشعور إلى الإحباط وخيبة الأمل الذاتية ،  الأمر الذي يحتاج للرعاية والاهتمام أكثر من قبل الناس والمؤسسات الثقافية والمجالس المحلية واتحادات الكتاب والأدباء ، التي لم تقم بدورها المرتجى في دعم واصدار الكتب والمؤلفات والنصوص الادبية ، ونتيجة انعدام الدعم هنالك العديد من الاعمال الأدبية المميزة ذات الجودة والمستوى الرفيع تبقى في الأدراج بفعل الحالة الاقتصادية للمبدعين ، وهم بغالبيتهم من الفقراء ويعانون شظف العيش حتى درجة " الإفلاس " ولا يجدون احيانا ثمن علبة السجائر والاوراق وقلم الباركر أو السائل الذي اعتادوا الكتابة بهما .

الرصافي بتمامه إلمامًا: نشأته، حياته، شعره، شموخه؛ فقنوطه/ كريم مرزة الأسدي

ثلاث حلقات ـ

في ( موشح المرزباني ) : حدّث أحمد بن خلاد عن أبيه قال : قلت لبشار : أنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت . قال : وما ذاك ؟ قلت : بينما تقول شعراً تثير به النقع ،  وتخلع به القلب. مثل قولك : 
إذا ما غضبنا غضبةً مضريةً ً **هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دمـا 
إذا ما أعرنا سيداً من قبيــــلةٍ  **ذرى منبر ٍ، صلّى  علينا  وسلّمـــا
تقول :  
ربــــــــــابة ربّة الــــــبيتِ ***تـصـــــب الخلَ في الزيــــــــتِ
لــــــــها عشر دجـــاجــاتٍ ** وديـــــكٌ حـــسـن الصـــــــــوتِ

فقال : لكل وجه موضع  ، فالقول الأول جد ، وهذا قلته في ربابة جاريتي ، وأنا لا أكل البيض من السوق،  وربابة هذه لها عشر دجاجات وديك ،فهي تجمع لي البيض وتحفظه عندها، فهذا عندها من قولي،  أحسن من ( قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ) عندك .
هذا هو بشار في أوجّه  ، وهذا هو بشار في حضيضهِ ،  ووفر لنا قناعة ترضيه .. وهذه الرواية تجرنا للحديث عن الرصافي ضيفنا الكبير لهذه الحلقات .. فالرصافي الذي يهزّنا بشموخه العالي إعجاباً وإكباراً اذ يقول :

هي المنى كثغور الغيدِ تبتسمُ *** إذا تطرّبها الصمصامة الخذمُ
وإن شأو المعالي ليس يدركه*** عزمٌ تسرّب في أثنائه الســأمُ 
وكلّ من يدّعي بالمجد سابقة ً ** وعاش غير مجيدٍ فهو متـــهمُ
لا أخالك تصدق أن هذا الشاعر الشامخ يقف إبان قنوطه مشجعاً ومصفقاً لكل من يدخن سجائر ( غازي ) ،  بل يطلب أن يجازى على عمله بهذين البيتين الهزيلين :

دخن سـيجارة ( غازي ) ***في وقفـةٍ واجتــيازِ
وجازِ نصـحـي بـخير ٍ*** إن كنت مـمـن يجازي

أوجد بشار كما قلنا لنفسه العذر، إذ قال شعره لجارية واحدة يفهمها وتفهمه ،  ولكن ما عذر شاعرنا الكبير ،  وهو يلقي بهذا الشعر لعموم الناس .. للشعب .. لشبابه .. لرجاله .. لشيوخه .. إن لم نقل لنسائه ! ثم ياترى مسؤولية من أن يلجأ شاعر مثل الرصافي الكبير ،  وفي أواخر ايامه لمثل هذا ( الغازي ) ،  وهذا الـ ( يُجازي ) !
  
أما شاعرنا فأوجد لنفسه عذراً ،  ولطم التاريخ بأنامله العشر مع كفتيه قائلاً : 
قد انقلب الزّمان بنا فأمست***بغاث الطير تختصر النسورا
وساء تقلّب  الأيـام حتـى *** حمدنا من زعازعها الدبـــورا

هذا هو حكم الزمان .. وهذه هي اعتبارات المجتمع .. وهذا هو قدر الشاعر .. والعجيب أن شاعرنا لم يكتف بإيجاد العذر لنفسه ،  بل دفعه شرف نبلهِ، وسعة إدراكه، وصدق مشاعره  أن يجد مبرراً حتى لقومه  ،  وأبناء عصره على ما لحقه في حياته من إجحافهم له، وازدرائهم إياه،   وتحملهم عليه ،  وذلك قبل وفاته،  رحمه الله :

لو يملك الأمر قومي في مواطنهم *** ما كان حقي لديهم قطٌ مهضـوما
لكنّما أمرهم مـلك  لأجـنـبـــــــهم **  فليس من عجب إن عشت مظلوما

فمن هو شاعرنا الكبير الذي أراد له أستاذه وشيخه ( محمود شكري الألوسي )  ،  أن يكون نظيراً للمتصوف البغدادي الشهير . في ذلك الصوب – ( معروف الكرخي )  فنعته بـ ( معروف الرصافي ! ) ، فتلاقفته الأيام وسارت به مع دهرها.
 ولد شاعرنا في بيت صغير بمحلة ( القراغول ) من محلات رصافة بغداد سنة 1291 هـ حسب ما ذكره عبد المسيح وزير  ،  ونقله راوية الرصافي الأستاذ مصطفى علي في كتابه ( أدب معروف الرصافي ) ،  وهذه السنة توافق 1874 م  ،  ونحن ننفرد بهذا التاريخ خلافاً لما ذهب إليه كل من أرّخ للرصافي ،  وكتب عنه بأنها كانت 1875 أو 1877  ،  ونحن نرجح تاريخنا ، وذلك في دار جدّه لأمه  ، لأن والديه كانا يسكنان تلك الدار مع أخواله وخالاته،  وهو ثاني أخوين ولدتهما أمّه  ،  لم يعش منهما إلا الشاعر ،  فأخوه البكر توفي وهو في مهد الطفولة،   وشاعرنا معروف هو ابن عبد الغني محمود ينسب إلى عشيرة ( الجبّارة ) التي تعتبر من القبائل الكردية  ،  غير إن هذه العشيرة معروفة عند أكثر الاكراد بأنها علوية النسب،  لذلك يشير كل من كتب عن الرصافي إلى هذه الناحية  ،  والرصافي لقلة ارتباطه بعشيرة أبيه القاطنة في منطقة تقع بين محافظتي كركوك والسليمانية، ولعدم احتكاكه بها ،  لم يتحدث عنها،  ولا عن أسرته إلا قليلاً ، بل كان يتهرب من الإجابة عن أصل أبيه وينتسب إلى ( آدم ) :

أجـــل أن القبـائـل مـن معــــدّ ****علوا فـتسـنـموا المـجـد التليـدا 
وإنّ لهاشم ٍ في الدهر مـــــجداً  *** بناه لها الـــذي هـشـم الـثريـدا
ومذ  قام ( ابن عبد الله ) فيهم  ** **أقـــام لـكـــلّ مـكرمــةٍ عــمودا
فهم فتحوا البلاد ودوّخــــوها ****** وقادوا في معاركها الجـــنودا

الرصافي لم يتمتع بوجه أبيه كثيراً  ،  إذ كان هذا الأب عريفاً في جيش العثمانيين  ،  واشترك بحربهم مع الروس  ،  ولما  رجع انخرط في سلك الدرك ( صنف الخيالة)  ،  وأصبح عريفاً في قسم ( البغالة )  ،  فقضى معظم العمر في الأسفار والتجوال  ،  وقلما وجد في بغداد  ،  لذلك كان اجتماع صاحب الترجمة بوالده قليلاً  ،  ومن الجدير ذكره أن المؤرخين قد ذكروا عنه أنه كان متديناً ،  كثير الصلاة وكثير قراءة القرآن الكريم ,حاد المزاج  ،  إذا غصب أخاف  ،  وإذا ضرب أوجع  ،  وكان يحسن التكلم باللغات العربية والتركية والكردية  ،  ويقرأ العربية ويكتبها  ، قراءة وكتابة بسيطتين ، وهذا يعني أنه كان يمتلك قدرات عقليه عالية  ،  لم تسنح له الظروف بالبروز والظهور  ،  ولكن ورّثها لابنه الـ ( معروف )  ،  كما ورّث شاعرنا  ذكاء أمه  ،  واكتسب قوة شخصيته من قوة شخصيتها  ،  فهذه المرأه حلت محل أبيه في تولي امر تربيته  ،  وكان تأثيرها على ابنها حاسماً بعيد المدى  ،  يقول الرصافي ( كانت مرجعي في كل شيء حتى بعد مجاوزتي العقد الأول من حياتي  ،  لأني كنت لا أرى أبي إلا قليلاً  ،  فهي التي كانت ترسلني إلى الكتاب وأنا صغير ، وهي التي كانت تجهز لي ما يلزم لذلك ) فبالرغم من فقرها  ،  وأصلها المتواضع ، كانت حريصة على الأرتفاع بابنها فوق طبقتة الدنيا ،  فدفعته إلى الدرس  ،  وغرست فيه حب العلم وتحصيله ، وعلى ما يبدو  ، كانت لهذه الأم منزلة اجتماعية كبيرة  ،  وعلاقات حميمة  ،وشخصية محببة  ،  فلها ( في قلوب أهل محلتها محبة عميقة ،  واحترام عظيم  ،  وكانوا يتخذونها حكماً في أمورهم  ,ويعرضون عليها مشاكلهم ) , ولا ريب قد أثرت هذه العلاقات الاجتماعية الطيبة  ،  والشعور الإنساني النبيل في نفسية شاعرنا منذ الطفولة  ،  فأنعكست على شعره  ،  حتى شغل الجانب الاجتماعي نصف الجزء الأول من ديوانه ،  وهي من  أروع قصائد ه إطلاقاً  ، فلا يريد للمرأة ( الطلاق)  ،  لأنه لا يريد لأمّه أن تطلق  ،  ويتقطر قلبه أسى علــى ( ام اليتيم )  ، لانه لايريد لأمه أن تترمل ،  ولما وجدها في ( الأرملة المرضعة )  ،  سكب كل أحزانه وأشجانه ،  وكل ما يعرف القلب من آلآم صادقة،  وكل ما يفيض الشاعر من أحاسيس جياشة :

لقيتها ليتني ما كنت ألقاهـــــا*** تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها 
أثوابها رثةُ ٌ، والرجل حافيــــةٌ **والدمع تذرفه في الخدّ عينــــاها 
تقول ياربّ ! لا تتـــرك بلا لبن ٍ** هذه الرضيعة وارحمني وأيـــاها 
كانت مصيبتها بالفقر واحدة ً *** ومــــوت والـدهـا بـالـيتـم ثـنـّاها

القصيدة لوحة فنية رائعة رسمت بريشة فنان قدير  ،  ليرجع إليها من يشاء في ديوانه ،  ولك أن تتذكر كم من ( أرملة مرضعة ) في عراقنا الحبيب هذا اليوم ،  وكم من ( مطلقة )، و ( ام يتيم ) ،  و ( يتيم في العيد )  ،  و ( دار الأيتام )  ،  و ( فقر وسقام )   ،  و( يتيم مخدوع )،  واخيراً كم ( سجن في بغداد )  ،  و نكرر هذا اليوم هذه  العناوين لبعض قصائد شاعرنا الاجتماعية التي نظم عقودها بمهارة فنية عالية  ،  والحقيقة هنا تكمن قوة الرصافي وعبقريته الفذة  ،  وقد تشربها من نفس أمه وروحها ،  وفي الدرجة الثانية فيما أحسب يأتي شعره السياسي ،  وليس له شعر آخر يستحق به الخلود عدا هذين المجالين ، فقد بلغ بهما القمة . 
على كل حال ماتت ام شاعرنا الكبير في بغداد  ،  وهو غائب عنها في اسطنبول أثناء الحرب العالمية الأولى  ،  ولم يخبر بوفاتها حتى رجوعه العراق سنة 1921 م  ،  مما جعله يطفح بالندامة ويشعر بعقدة الذنب  ، بالرغم من أنه كان يرسل إليها الدراهم لذلك يقول ( أما اليوم فكلما ذكرتها جاشت نفسي بالأحزان  ،  لأني أشعر أنني لم يساعدني الحظ على القيام بالواجب الذي لها علي ... ولذا أصبح اليوم وأمسي وأنا في ذكرى محزنة ومؤلمة جداً  .)   
إنها الام الصالحة الخيرة الطيبة  ،  يقتضي الوفاء منه أن يحزن لفراقها  ،  ومنا أن نتذكرها بالخير حيث دفعت ابنها لإن يجود بأروع القصائد الإنسانية في مجالي الأمومة والطفولة  ، ونرجع إلى طفولة الرصافي حيث بدأ حياته الدراسية عند أحد الكتاب حتى ختم القرآن الكريم ،  وتعلم مبادىء الكتابة  ،  وانتقل بعدها إلى المدرسة الابتدائية ، وكانت تتألف من ثلاثة صفوف ،  وبعد تخرجه منها التحق بالمدرسة الرشيدية العسكرية ،  وكانت بمستوى المدارس المتوسطة ، وفي الصف الرابع من مدرسته الأخيرة رسب في الامتحان لعدم إجادته اللغة التركية  ، ولعدم التزامه بالانضباط العسكري ، لنزعته الحرّه  ،  لذلك اضطر أن يترك المدارس الرسمية   ،  ويتجه إلى طلب العلوم الدينية  ، فألتحق بالشيخ ( محمود شكري الألوسي ) سنة 1924م  ،  ولازمه اثنى عشر عاماً  ،  والعلامة الألوسي هو مؤلف ( نهاية الأرب في أحوال العرب ) الذي طارت شهرته بالآفاق  ،  ونال عليه جائزة اللغات الشرقية في ستوكهولم  ،  بالإضافة إلى  أن شاعرنا تتلمذ على يدي الشيخ عباس القصاب ، والشيخ قاسم القيسي  ، وغيرها في تلك المرحلة من حياته  ،  واستطاع لهمته العالية  ،  وجهوده المثمرة ،  وتطلعاته الخيرة أن يكون ( الرصافي ) :

همم الرجال مقيسةٌ بزمانــها ***وسعادة الأوطان في عمرانـها 
وأساس عمران البلاد تعاونٌ  ***متواصل الأسباب من سكانـها
وتعاون الأقوام ليس بحاصلٍ  ***إلاّ بنشر العلم في أوطانــــــها 
والعلـم ليــــــس بنافع ٍ إلاّ إذا  *** جرت به الأعمال خيل رهانها 
إن التجارب للشيوخ وإنّمـــا ****أمل البلاد يكون في شبّـانــــها

- 2 - 
قال ابن الرومي : 
رقــادك لا تسهر لي اللــــــيل ضلّة ً ***ولا تتجشم فيّ حوكَ القصائدِ 
أبــي وأبــوك الشيــــــخ آدم تـلتقي ****مناسبنا في ملتقىً منه واحد ِ
فلا تهجني حسبي من الخزي أننّي   ***  وأيـّــــاك ضمّتني ولادة  والدِ

تعجبني هذه الأبيات الرائعة للشاعر العبقري ابن الرومي ،  والشيء بالشيء يذكر، حول المشاحنات الأدبية والحزازات الشخصية  ،  والنزاعات الأنانية ،  والصراعات السياسية التي يقع بين حبائلها عمالقة الفكر والأدب  ،  ناهيك عن عامة الناس وعوامهم ،  متناسين في لحظات الصراع غير المشروع ، ما الإنسان إلا نطفة من قبل ، وجيفة من بعد – وأنا استعير هذا المعنى من الامام علي ( عليه السلام ) - فلا يبقى بينهما إلا العمل الصالح ، والخلف النافع ، والذكر الطيب  ،  وشاعرنا اشار إلى نسبه الأولي متجاوزاً كل آبائه وأجداده كما أسلفنا ، ولكن الرصافي وقع بين هذه الأحابيل ، وأشد من هذا  ، شأنه شأن العظام ، من حيث يدري أو لا يدري ،والعباقرة عادة لا يصنعون الأحابيل ، بل يقعون فيها جبراً أو اختياراً ،  لك أن تقول ما تشاء ، ونحن نسجل ، كان  الرجل  جريئاً ، ولعله من أكثر شعراء العراق المعاصرين جرأة وصراحة ،لايخشى لومة لائم  ، ولا صولة صائل  ، ينتفض ثائراً ، وينطق هادراً ، ويقذف بحممه وجهاً لو جه حتى تصل القمة:
   
لهم ملك تأبى عصابـــــة رأسه**** لها غيرسيف التيمسيين عاصــــــبا 
لقد عاش في عزّ بحــيـث أذلّهم *** وقـد  ساءهم  من  حيث  سرّ  الأجانبا
وليس له  من أمــرهم غير أنّهُ  *** * يعــدّد  أيـاماً  ويـقـــبــض  راتــبـــا

تسألني هل نحن مع هذا الشعر ام ضده ؟ وهل عراقنا اليوم أولى بهذه الابيات أم عراق أيامه ؟! وهل كان الشاعر صادقاً في قوله أم منفعلاً في طرحه ؟! فالرجل ذهب إلى رحمة الله ، وصار في ذمة التاريخ ، ويقال أن الملك فيصل اجتمع بالرصافي بعد ذلك  فقال له : ( أأنا أعدّد أياماً واقبض راتباً يا معروف ؟ فأجابه : أرجو أن لاتكون منهم يامولاي ) ، وأنا الآن لست محللاً سياسياً  ، بل ناقداً أدبياً  ، وأفسر الأمر من حيث هو ، لا من حيث أنا وأنت ، والذي أريد أن أقوله في هذه النقطة  كان الرجل جريئاً وفي منتهى الجرأة  ، ومن هنا جاء العنوان ( من ثورة شموخه ) ، واذا تريد أكثر ، فلنرجع الى إلخلف سنلاحظ  ، إن الرصافي الشاعر الوحيد الذي طالب بخلع السلطان المستبد عبد الحميد عقب إعلان الدستور ( 10 تموز 1908م) اقرأ معي :

في شهر تموز صادفنا لما وعدت*** بيض الصوارم بالدستور تنجيزا 
أمست لنا قســــمة بالـملك عادلة ** حكماً وكانت على علاّتها ضيزى
قمــــنا على الملك الجبار نقرعهُ ***بالسيف منصلتاً, والرمح مهروزا
فالشاه في شهر تموز ٍ هوى وكذا ***عبد الحميد هوى في شهر تموزا

بل ذهب أيضاً إلى أكثر من هذا .. إلى مقارعة الدولة العثمانية بأسرها يقول في قصيدته ( تنبيه النيام ) :
  
عجبت لقوم يخضــعون لدولةٍ ***يسوسهم بالموبقات عميدهـــا 
وأعجب من ذا أنّهم يرهبونها ***وأموالها منهم, ومنهم جنودها

ونحن نعذر ، ولا نعجب من الرصافي ، إذ كان من مؤيدي هذه الدولة المستبدة في طور من أطوار حياته ، وبعد ( تنبيه النيام ) ! حتى أنه وقف ضد الإصلاحيين العرب في بلاد الشام ، فبعد أن مدحهم في قصيدته ( في معرض السيف )  ، نجد أنه قد هجاهم بمرارة في قصيدتهِ ( ما هكذأ ) و ( في ليلة نابغة )  ، لذلك كتب عنه الشيخ محمد رضا الشبيبي بقساوة لا تتحمل  ، منها ( وكان موقف الرصافي من هذه الحركة موقف الخصم الشديد ، وهو لا يقل عن موقف أي تركي معتز بنعرته القومية...)   ،  ويقصد الشيخ ( حركة الاصلاح ) ،  ولا نريد الاطالة في هذا الموضوع لانه خارج بحثنا ،  ولكن لكي لا يقال عن كاتب هذه السطور تناسى  ، ولكن مرة أخرى تجدر الإشارة إلى أن ليس كل الحق مع الشيخ الشبيبي  ، فالرصافي عاش عصره ، زمن الهيمنة الفرنسية والإنكليزية على الوطن العربي  ، وكان الرصافي يرى من المنظور التاريخي والإسلامي أن العثمانيين أقرب إلى العرب ، ولاسيما عندما عقد الإصلاحيون مؤتمرهم في باريس في 17حزيران /1912 م   ، فوجد في ذلك تعاوناً مع الأجنبي ،  ورؤية الرصافي استمرت لدى بعض العراقيين حتى أن ثورة النجف التي قادها نجم البقال سنة 1917  تصب في هذا الإتجاه ، على كل حال ، يقول  شاعرنا  في ( ما هكذا ) :
   
لو كان في غير ( باريز ٍ ) تآلـبهم ***ماكنت أحسبهم قوماً مناكيـــــــــبا 
لكن ( باريز ) مازالت  مطامعــها ***  ترنوا إلى الشام تصعيداً وتصويبا
هل يأمن القوم أن يحتل ســاحتهم *** جيشٌ يدكّ من الشام الأهاضيـــــبا

وصدقت نبؤته من بعد ،  إذ دكّ الفرنسيون هضاب الشام ،  وقدمت الشام الآف الشهداء في سبيل نيل حريتها واستقلالها  ،  وهذا لا يعني الاتراك كانوا أرحم على العرب من الفرنسيين ، ولكن أيضاً يجب أن نتذكر ظروف الرصافي وعصره  ، إذ كان يعيش في عاصمة الدولة العثمانية  ، ويأخذ المعلومات والحقائق عن طريق الحكام  من  الاتحاديين , وهم وصحافتهم وبياناتهم كانت مصدر الأنباء بالنسبة له ولغيره ، وكان يسمع فقط وجهة نظر الحكام مدعمة بالوثائق والأسانيد ،  ولا تصله أنباء ما يجري في الولايات العربية إلاّ عن هذا الطريق ، وإلا فالرجل شعلة خالصة من الوطنية والإخلاص والحب لقومه لا تشوبها أيّة شائبة :
  
يابني يــــــعرب ما هذا المنام ***أو ما أسفر صبح النوّمِ ِ ؟
أين من كان بكم يرعى الذمام  ***ويلبّي دعوة الـمهتضمِ
أفـــــــــلا يلذعكم مني الملام**** فلقد ألفظ جـمراً من فمِ

نرجع إلى سيرة حياة شاعرنا، لنتابع معه رحلة العمر ، إذ تركناه قد تخرج أيدي شيوخه  ، فنحن الآن إذن في بدايات القرن العشرين ، حيث يمارس شاعرنا مهنة التعليم في المدرسة الرشيدية ببغداد  ، ثم ينتقل إلى مدرسة ( مندلي ) لمدة سنة دراسية  ، ويعود بعدها إلى بغداد ليحاضر في إحدى المدارس الثانوية في الأدب العربي ، وينظم أثناء ذلك أروع القصائد في الاجتماع والثورة على الظلم ، ويبعثها للنشر في الصحف المصرية  ،  وخاصة جريدة ( المؤيد )  ، ومجلة (المقتطف ) وغيرهما  ، وكان يرتدي حينذاك العمامة والجبة  ، ولم يكن الرجل في بحبوبة من العيش الرغيد ،  والعمر السعيد ، بل كان فقيرا  ، لا تسعفه ذات يد ،  وكم مرة صارع هوى نفسه ، فتغلب عليه  ،  واخضع رغبته وشهوته  ،  لشهوة حالته المادية :

وأقنع بالقوت الزهيـــــــــد لطيبه ***حذار وقوعي في خبيث المطاعم ِ
وأترك ما قد تشتهي النفس ميله *** لما تشتهيــــــــه قلّة في دراهمي
   
بقى شاعرنا في وظيفته التعليمية حتى ( تموز 1908م )  ،  إذ أعلن الدستور العثماني  ، فترجم للعربية النشيد الوطني العثماني الذي وضعه الشاعر التركي المشهور ( توفيق فكرت ) ، مما أدى إلى زيادة شهرته  ، وتغلغل نفوذه في عاصمة الدولة العثمانية ،  وشيوع ذكره أكثر فأكثر في جميع أنحاء الوطن العربي  ،  فأختير رئيساً لتحرير القسم العربي في صحيفة ( بغداد ) وهي اول صحيفة أهلية غير رسمية تصدر في بغداد  ، وقد أصدرها فرع جمعية الاتحاد والترقي  ، ( صدر العدد الأول منها في ( 6 اب 1908 م ) باللغتين العربية والتركية  ،  ووردت إليه دعوة من ( أحمد جودت ) صاحب صحيفة ( إقدام ) التركية ليعمل محرراً في صحيفته ،  فشدّ الرحال إلى الأستانة في أوائل ( 1909 م ) على ما أرجح  ،  ولما وصل إليها خذله صاحب الدعوة , فرجع خائباً مروراً بسالونيك وأثناء وجوده فيها سمع  بإنتصار المستبدة , وإلغاء الدستور  ، وحل مجلس ( المبعوثان )  ،  وذلك في 31 آذار 1909 م   ، فذهب شاعرنا إلى بيروت  ،  وأعوزه المال هناك   ، فبادر السيد محمد جمال الدين صاحب ( المكتبة الأهلية ) في بيروت إلى شراء  مجموعة شعره التي صدرت باسم ( ديوان الرصافي ) عام 1910 م وهو أول ديوان يطبع له  ، وعاد إلى بغداد وعلى الأرجح الى العمل في رئاسة تحرير القسم العربي بصحيفة ( بغداد ) إلى أواخر أيامها  ، ثم سافر إلى أسطنبول ( الآستانة ) مرة ثانية , وتولى رئاسة تحرير صحيفة ( سبيل الرشاد ) العربية إثر برقية جاءته من ( جمعية الأصدقاء العرب ) ،  وكُلف هناك بإلقاء محاظرات في ألأدب العربي في مدرسة الواعظين التابعة لوزارة الأوقاف ، وكان الرصافي يتمتع بمنزلة اجتماعية رفيعة  ، وقام بتدريس طلعت باشا وزير الداخلية  ، وكان هذا العمل على مايبدو هو سبب في اختياره نائباً في مجلس المبعوثان ( النواب ) العثماني عام 1912م وذلك عن لواء المنتفك ، ونستنتج من شعره أنّه كان عضواً فعّالاً متكلماً يبدي رأيه بجرأة ،  حتى أنه يستهزأ من نواب بغداد الصامتين في المجلس ( هو محسوب على نواب المنتفك ) , فعندما يهجو رجلاً مغروراً جاهلاً يشبهه بنواب بغداد قائلاً :
   
وشـــــامخ الأنف ما ينفكّ مكتسباً *** ثوب التكبّر في بحبوبة النادي 
قد لازم الصمت عبئأً في مجالسه  *** كأنما هو من نــواب بـــــــغدادِ

وفي ذلك الحين تزوج شاعرنا الكبير ثيباً من بنات أزمير اسمها بلقيس  ، شقيقة طبيب تركي مشهور يدعى الدكتور( أكرم أمين بك ) ،  وهي زوجته كما يزعم بعض المؤرخين ، فالشاعر يروي لنا ساعة توديع زوجته حين اضطر الى مغادرة الاستانة بعد خرابها , حيث أصبحت شبح عاصمة لمملكة كانت كبرى ،  وأصبح هو بين أحضان شعب يعاني من مرارة الهزيمة  ،  وذلك بعد الحرب العالمية الأولى قائلاً :

تقول ابنة الأقــــوام وهي تلومني***وأدمعها رقراقة في المـحاجرٍ 
إلى كم تجدّ البين عنّي مسافـــــراً *** أما تستلذ  العيش غير مسافرِ
ولا غرو أن أبكي أسى من بكائها***  فأعظم ما يشجي بكاء الحرائرِ
وقلت لها : إنّيِ امرؤ لي   لبــانة ٌ*** منوط ٌ مداها بالنجوم   الزواهرِ
تعوّذت إلا أستنيم إلـــــــى المنى*** وآلا  أرى إلاّ بهيـئة   ثائـــــــــرِ
 ِ 
لا طلاق ولا هم يحزنون  ،  هذا بكاء من الطرفين  ،  وهذا اللوم والعتاب وانكسار الخاطر ، والشاعر يطمح للنجوم الزواهر  ،  وأن يرى بهيئة ثائر  ،  وتحت قدميه ركام الاستكانة ، وأمامه شحوب الآستانة ، وراحل إلى المجهول  ، لا أهل ولا سكن ! تركها في الآستانة ، وعند مكوث الشاعر في بغداد، رغب بالعودة إليها ’ وطلب سلفة على رواتبه لتذليل عقبات السفر ولكنه لم يوّفق لما أراد :
   
قد عاقني الإملاق عن سفري إلى ****من طال معتلجاً إليه حنيني 
وأنا المشوق ، ولست ممن شاقهم****بقر العذيب ولا مها   يبرين 
لكن قلبي لايــــــــــــزال   يشوقــــه**  ظبيّ ٌ أقـــــام بدار قسطنطين

المهم شاعرنا قرر الرجوع إلى وطنه ، ولكن العراق أيضاً تحتله القوات الإنگليزية إحتلالاً عسكرياً  ، فما العمل ؟ ! يمم وجهه شطر دمشق  ، ومنها إلى القدس حيث جاءته دعوة للعمل كمدرس بمدرسة المعلمين في القدس الشريف ، فأشتغل هنالك بالتدريس من سنة ( 1918 – 1921 م ) ، وكان موضع تقدير في مجتمع مدينته المقدسة  ، فدعي إلى المآدب والاحتفالات ،وطلب إليه إنشاد الشعر  ، ولكن لم تهز ّه أحداث العراق ، فلم يشارك في الثورة العراقية الكبرى عام 1920 ، فلم نعثر على أي قصيدة له فيها.
  
ورجال الثورة وافقوا على تنصيب ( فيصل ) ملكاً على عرش العراق    ،  وهو قد هجا من قبل والده الشريف حسين بأبيات قاسية , لذلك عند عودته للعراق سنة ( 1921 م ) لم يسعفه الحظ إلاّ بوظيفة دون طموحه الكبير  ،  وأقل مما يستحقه بكثير، وهي وظيفة ( نائب رئيس لجنة الترجمة والتعريب في وزارة المعارف ) ، فقضي فيها نحو سنة ونصف  ، وأثناء وجوده ببغداد  ، أقام المعهد العلمي حفلة تكريمية لأمين الريحاني ( أيلول سنة 1923 ) ألقى الشاعر فيها قصيدة تعد من غرر قصائده فما أحوجنا إليها في هذه الأيام الحالكة :

لو ما تـــــرى قطر العراق بحسنه**** قد فاق مقفره على مأهولــــهِ
فلقد عفا المجد القديــــــم بأرضه ****  وعليه جرّ الدهر ذيل خمولـهِ
وإذا نظرت إلى قلوب رجـــــــالهِ ****  فأنظر حديد الطرف غير كليلهِ
تجد الرجال قلوبها شتى الهــــوى ****  مدّ الشقاق بها حبالة غولـــهِ 
متناكرين لدى الخطوب تناكــــــراً **** يعيا لســـان الشعر عن تمثيلــهِ
فالجارُ ليس بمأمن من جــــــــــارهِ  *** والخلّ  ليس بواثقٍ  بخليلــــــهِ 
وإذا تكلم عالمٌ في أمرهـــــــــــــــم **** حفروا ذمـــام العلم في تجهيلـهِ 
حالٌ لو افتكر الحكيــــــــــمِ بكنهه ****  طــــول الزمان لعُيّ عن  تعليلــهِ
من أين يرجى للــــــــــعراق تقدمٌ *** *** وسبيل  ممتلكيه  غير سبيلـــهِ
لا خير في وطن ٍ يكون الســـــــيف *****عند جبانه  , والمال عند بخيلــهِ
والرأي عند طريده   والعلــــــــــــم  *** *عند غريبه  والحكم عند   دخيلهِ
وقد استبد قليله بكثيـــــــــــــــــرهِ   ***  ظلماً   وذل     كثيره  لقلــــــــيلهِ
إني إذا جدّ المقـــــــــــــال بموقفٍ **** فضلتُ مجمله علـــــــــى تفضيلــهِ

- 3 -  
بادىء ذي بدء ،  يقتضي العدل والإنصاف - وأنا أمرُّ بشيخوختي  ، وأقف على مسافة واحدة بين الملك فيصل الأول (1) و الرصافي ، رحمهما الله -عندما أضع نفسي محامياً عن جرأة الشاعر وشموخه ، أن لا أبخس ملك العراق الأول - لمن لا يعرف تاريخ العراق الحديث -عبقريته وحلمه ودماثة خلقه وحنكته ونزاهته ، وهو لا ريب من أروع الحكام الذين تسلموا زمام القيادة منذ زوال  الاستبداد العثماني  ، وهذا ما أتفق عليه المؤرخون المنصفون .  
على كل حال ،  نرجع بكم القهقرى لعهد الكلمة والقول الجريء ، والعقل  المتلقي الرشيد ، إلى عقد العشرينات من ذاك القرن المسمى  بالعشرين ،  والرصافي الكبير قد تجاوز من العمر خمسة وأربعين عاماً ، والإنسان عادة في هذا السن يكون في قمة نضوجه العقلي ، والفكري والجسدي , فلا هو بالشيخ العاجز ، ولا هو بالشاب الطائش ، يعرف ما يريد من الحياة ، وماذا تريد منه ، وهكذا كان  شاعرنا الرصافي قد عركته الدنيا وعاركها ، وقلبته وقلبها  ، وزاد على نضوجه شموخه النفسي ، وثورته العارمة حتى بلغ قمة القمم  ،  وذروة الجرأة في قصيدته التي تلاقفتها الأجيال ،  ورددتها الألسن من يومه إلى يومنا  ،  ونعتها  بـ  (حكومة الاغتراب ) :

أنا بالحكومة والسياسة أعرف *** أألام  في   تفنيدها   وأعنف
سأقول فيها ما أقول ولم  أخف **من أن يقولوا  : شاعرٌ متطرف 
ثم يمسك الرصافي بقلمه المعول ، ليضرب هيكل الدولة المصطنع من قمة رأسه إلى درك أساسه  ، ليجعله عصفا مأكولا ، وهباءً منثورا ، كأن لم يكن شيئاً مذكورا:
علم  ٌودستورٌ  ومجلس  أمــةٍ  ****كل عن المعنى الصحيح محرفّ
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها  *** أمّا معانيها فليس  تــــــــــــعرف
من  يقرأ الدستور  يعلم   أنه ****  وفقا  لصـــك   الأنتداب  مصنّف  
من ينظر العلم المرفرف يلقـه  ***في عزّ غير بني  البلاد   يــرفرف\

ولا تخفى استعارته ( للعلم ) ويعني به الملك  ،  ليصب جحيمه عليه ،  والملك يغض الطرف عنه ،  ولا يبالي منه حكمة وحنكة  ، بدليل الأبيات التي اعقبت البيت الاخير، اذ انه يواصل بلا  هوادة تمزيق الصورة المزيفة بنظره  للديمقراطية :

من  بات  مجلسنا  يصدق  أنه **** لمراد  غير  الناخبين  مؤلف 
من بات  مطرد الوزارة  يلقها **** بقيود أهل الاستشارة  ترسف 
ولا نستطيع ان نواصل معك اتمام القصيدة ، اذ يدعو فيها للثورة ،  ويهدد بزحف الجيوش ، ويوعد بطول الحساب  ، ونتف  اللحى ، إن كانت هنالك ثمّة لحى يحسب لها حساب ، ونختمها بما ختمه :

إن لم نماحك بالسيوف خصومنا ****فالمجد باكٍ ، والعلى يتأفف

والحقيقة أن الرصافي قد مهد لهذه القصيدة بعدّة قصائد سبقتها ،منها ( كيف نحن في العراق ) ،يسخر فيها من الدولة والإنكليز , ويشبه معاهدة ( 10 / 10 / 1922 م ) بالقيد الذي يوضع في يد  الأسير، وما الأسير إلا شعب العراق !

أيكفينا من الدولات أنّــــــــا  *** تعلق في الديار لنا البنـــود 
و إنّا بعد ذلك في أفتقـــــــارٍ ٍ *** إلى مــا الأجنبيّ به يجـــود 
وكم  عند الحكومة من رجال ٍ  *** تراهم سادة ، وهم العبـــيد
أما  والله لو كنـــــــــا  قروداً   **** لمـا رضيت قرابتنا القرودُ !
ثم لماذا ؟ 
هل تريد أن ازيدك من تصنيفات شاعرنا الجريء ، أم أتوقف عن سرد قصة ( غادة الانتداب ) ؟ 
أعتقد أنك معي قراءة ، ومع  الرصافي شاعرية وتخيلاً  ، فمن تخيلاته العجيبة الغريبة ، تشبيهه للحكومة بفتاة كخضراء الدمن ، ظاهرها جميل ، وباطنها خبيث ، والعياذ بالله ، ويواصل الرصافي الشامخ قذائفه بكل عنفوان وجرأة ، بلسان ولا أسلط ، وقساوة ولا أعنف ،  و بسخرية ولا أهزأ ،وبأسلوب ولا أسهل  ، يحفظه القاصي والداني  ، و  يفهمة العام والخاص ، ويجعل  لعنة الله  على الظالمين ، فلا داعي للتخيل  والتبسيط فكل ما فيها صعب بسيط , سهل ممتنع ،فهذه ( الوزارة المذنبة)  :

أهل بغداد أفيقوا من كرى هذي الغرارة 
إن ديك الدهر قد باض بـبـغــداد  وزاره !
هي للجاهل عزّ،  ولذي العلم حـقـــــاره
حبّبت للوطنــــي الـحـرّ أن يــهجـر داره
كم وزير ٍ هو كالوزر على ظهر  الوزارة
ووزير ملحق كالذيل في عجز   الحمــارة
أمع الذلة كبر ا، أم مع الجبن   جســـــاره
كيف لا تخشون للأحرار في البطش مهارة 

على ما يبدو لنا أن الملك أخذ الشاعر بحلم الداهية , وحقد البعير،فالسياسة فن الممكن، والشعر فن اللاممكن ، الشاعر يطلب المثالية ، والسياسي يتشبث بالواقعية ، ولا نطيل ، المهم ، شاعرنا لم يسلم من كيد الكائدين ، وحقد الحاقدين على جرأته الغير معهودة ، سواء في قصائده السياسية ،  أو في ثورته الفكرية ( فصارع خصوما ًأشّداء تألبوا عليه  ، وأثاروا الرأي العام مرات عديدة ، وهم في كل مرة يثيرونه فيها  ،  يضربون على وتر الدين  ، وهو وتر حساس جداً  , يثور الناس إذا سمعوه ) , حتى أن البعض أفتى بكفره ، وخروجه عن الدين  ،  ووقف معه في شدته الشيخ عبد الوهاب النائب  ،  والشيخ مهدي الخالصي ، لذلك عند وفاة الأخير في مشهد ودفنه هناك ( 12 رمضان 1343 هـ / 6 نيسان 1925 م )  ،  رثاه بقصيدة رائعة فضح فيها الآلاعيب التي أدّت إلى أبعاد العلماء الأعلام عام ( 1923 ) ، وهم الشيخ الخالصي ، والسيد أبو الحسن الموسوي ، والشيخ محمد حسين النائني ، المهم ألقاها في الحفل التأبيني الذي أقامه نادي الإصلاح في بغداد :

أدهق  الدهر  بالمنية   كأسه **** من  قديم ٍ، وطــاف يسقى  أناســــــه 
أنا أبكي عليه من جهة  العلـ  **** م ، وأغضي عن خوضه في السياسه 
لا لأنّي  أراه  فيها   ملومــــــاً ****بل  لأني  أعيب  فعــــــــــــل الساسه
ليس في هذه الهنات السياسيا  ****ت إلا ّ ما  ينجلي  عن  خساســــــــــه 
قد  أبت  هذه  السياســـة   إلا ّ**** أن   تكون  الغشاشـــــــــة الدّساســـه

من هنا بدأ يدرك شاعرنا بوضوح أن اللعبة لم تكن سهلة قط ، ولابد من دفع الثمن ، والثمن باهض وباهض على حساب شرف سمعته ، وحط ّ كبريائه ، ولقمة خبزه ، واذا زاد فهو كافر مرتد  وهناك من يصفق ، وهناك من يردد عن جهل عابر ، أو علم مقصود ، لذلك أخذ شاعرنا يتأرجح صعوداً وهبوطاً ، يأخذه الجزر مرة ، ويعيده المدّ أخرى ، فوجدت بذور القنوط في نفسه الكبيرة مكمناً ...
لنرجع إلى سيرة حياته مرة ثانية  ، ونرى ما حلّ بشاعرنا ، إذ تركناه في ( أيلول 1923 ) موظفاً هامشياً في وزارة المعارف ، وفي السنة نفسها سافر إلى الأستانة على ألا يعود إلى العراق يائساً مكسور الجناح ، وبقى هناك سبعة أشهر ولم يقاوم ، فعاد مضطراً إلى العراق عن طريق بيروت 1923 :

آب المسافر   للديارٍ ***على اضطرار في إيابه
لو كان يجنح للإياب ** لما  تعجل  في  ذهابه !!

وفي هذه السنة أصدر جريدته ( الأمل ) التي صدر العدد الأول منها في 1/ 10 /1923 ولم يصدر منها سوى ثمانية وستين عدداً ، وتوقفت عن الصدور ، وبقى مدة بغير عمل حكومي ، وعندما ألف ياسين الهاشمي وزارنه سنة 1934  ، وكان الشيخ الشبيبي وزير معارفها ، أعيد الرصافي إلى الوظيفة , وأصبح مفتشاً للغة العربية حتى عام 1927 ،  ثم نقل إلى تدريس اللغة العربية وآدابها بدار المعلمين ، وفي سنة 1928 استقال ولم يعد إلى التوظيف ، ولكن لما تولى عبد المحسن السعدون رئاسته الثانية في ( 14 / 1 / 1928 م )  ، أستطاع أن يقنع الملك  بترشيح الرصافي لمجلس النواب ، وفي ( 19 / 5 / 1928 ) صار لأول مرة عضواً فيه ،  وبعد أن مرت عليه أيام عسيرة جداً  ، لا يجد فيها ما يلبسه إلا العتيق البالي ،فخاطب السعدون يشكي حاله قائلاً :

وليس العري من ثوب معيباً   ***لكاسي النفس من حلل الإباء 
ومــــــا ضرّ المهند فقد جفن ٍ** * إذا ما كان محمود المـــضاء 
فأن لم تــــدرك الأيام  عريي  *** * بثوب منك ياغمر الـــــرداء 
لبست قرار بيتي في نهاري  *** * ولم اخلعه إلا في المســـــاء ! 

ومهما يكن من أمر ، تعدّ الايام النيابية الاولى من أسعد أيامه ، جددت لديه الطموح للمضي قدماً نحو كرسي الوزارة , ولكن يصح على طموحه المثل الشعبي المعروف ( عرب وين , طنبوره وين ) ، كان شعر الرصافي لا يمكن له أن يسعى بصاحبه إلى أعتاب الوزارة ، فمن الحال المحال الجمع بين الماء والنار , والشيء ونقيضه  ,فلا يوجد أي انسجام بين رغبته وسلوكه ( أقصد الشعري ) ، فما أن جاء المستر ( كراين )  ,وأقيمت حفلة كبرى لتكريمه ، ودعي الرصافي إليها ، وهو نائب حتى نسى كل آماله  ، فوقف في الحفل ، وألقى قصيدة رائعة تفضح الحكم القائم وتعريته :
جئت يامستر كراين*** فانظر الشرق وعاين 
فـهــو للغــرب أسيرٌ ** أسر مديون ٍ لدائـــــن 
غاصباً منه المواني*** شاحناً فيه السفائــــن 
حافراً فيه  المــعادن ***نابشاً فيه الدفائــــــن ! 

وما أن نشرت معاهدة ( 19 / 7 / 1930 م ) حتى انقض عليها كالمارد الجبار دون  أي حساب للعواقب ،  ساحقاً بقدميه العاريتين كل طموحاته الوظيفية وآماله المستقبلية :
كتبوا لنا تلك العهود وإنما **  وضعوا بها قفلاً على الأغلال
شلّت أكف موقعيها أيـّهـم *** حلّت عليهم لعنة الأجيـــــــال

فتحت له أبواب الانتخابات النيابية لمجالس أربعة أخرى ، في ( 1/11/1930 عن لواء العمارة ) ،  و ( 8/3/1932 عن لواء بغداد )  ، و ( 8/8/1935 عن لواء الدليم )  ، وكذلك في ( 22/12/1937) , وللإنصاف والحق مرة ثانية ,إن الشاعر بلغ أعلى الرتب السياسية والاجتماعية في عهدي الملكين فيصل الأول ، وابنه غازي (2) ,لذلك عندما توفي الملك فيصل الأول ( 8/ أيلول /1933 ) ، رثاه في قصيدة ,كأنها وثيقة اعتراف بحنكة الفيصل وشجاعته وسداد رأيه ، إقرأمعي بعض  ما  قال فيها :

قضى بدر المكــــارم والمعالــــي **وحيدرة المعارك  والمـغازي 
بنى مجــــداًعراقيـــــــــاًجديـــــداً**فأسسه على المجد الحجازي
وسار من السياسة في طريـــــق *** بحسن الرأي معلمة الـطراز
فما ترك الجهود بلا نجـــــــــــاح *** ولا فرصا تمر بلا انتــــــهاز
إذا اعتزم الأمور مضى وأمضى ***وإن سل المهند قال : مـــاز ! 

  ومهما يكن ، وكانت في أوائل عام 1933 ضاقت به الأمور المالية ، وضجر من صخب بغداد ، وآلاعيب ساستها ، فهاجر إلى الفلوجة بدعوة من ( آل العريم ) ، وعاش مكرماً معززاً بينهم ، وبقى في الفلوجة حتى ( أيار 1941 )  ، عندما دخل الجيش الانكليزي إلى المدينة الآمنة ، و بعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني حيث تركها إلى بغداد عائداً ، وكانت حينذاك تحت سيطرة الوصي عبد الإله ومن خلفه نوري السعيد  ، فنزل ضيفاً في بيت صديقه السيد ( خيري الهنداوي ) ، ومعه خادمه  ( عبد) حتى عثر على دار بجوار بيت صديقه ، ثم انتقل بعد ذلك إلى دار في محلة ( السفينة ) بالأعظمية ، وهي الدار التي توفي فيها ، وكان الرجل في عامه السابع والستين ،عندما نزل بغداد ( 1941 )  ، ولكن لم تهده السنوات العجاف ، ولا صراعات الأيام ودسائسها ، بل ظلّ شامخاً بقامته العملاقة ، ولم تجرأ سنواته السبعون على النيل من هيبته ووقاره ورزانته  ، وفي خلال هذه الفترة الزمنية هجا نوري السعيد هجاءً مقذعاً ، وخصوصاً بعد اخفاق ثورة الكيلاني :

نوحي على المجد التليد *** يانفس والحكم الرشيد 
نوحي على  أبطالـــــــه *** وكماته الغرّ الاســـــود 
عصفت بهم ريح الطغاة  *** وهدّهم  حكـــــم السعيد 

وفتح الرصافي دكاناً صغيراً قرب بيته لبيع السجائر فكسدت سوقها ،  وظل الرصافي يعيش مرارة العوز  ، و عذاب الفاقة  ، حتى باع الفرش والسجاد  ،  ومقتيات بيته المتواضع  ليستعين بثمنها على العيش ،  حتى رق ّ عليه أحد المعجبين بشعره ويدعى ( مظهر الشاوي ) فأجرى عليه راتباً ،  وسبب مأساته ، إن صح التعبير – خلاصتها  :

عاهدت نفسي والأيام شاهدةٌ  **أن لا أقرّ على جور السلاطينِ
ولا أصادقُ  كذّاباً ولو  ملكاً ****ولا أخالطُ  ُ أخوانَ الشياطين 

فما كان الرجل قادراَ على كتم صوته ، أو يهادن الآخرين  ،  وللقول ثمن ،  وللجرأة ضريبة  ،وللخصومة أعداء ،  وأرى أنّ الدهر وضعه في ظروف أرحم بكثير مما سيأتى بها له ولغيره  لو عاصروا سلاطين  مَنْ جاء مِنْ بعد  وبعد - يا بئس ما رأينا - ! ! 
و إليه نعود  ،  والعود أحمد  ،  ففي سنة 1944 وهو في عامه السبعين ،  يصارع الشيخوخة والأمراض والعلل ،  أثيرت حوله ضجّة كبيرة تتهمه بالكفر والإلحاد , إثر صدور كتابه ( رسالة التعليقات ) ،  وتدخلت مديرية الاوقاف العامة لحسم الامر ،  فطلبت من العلامة ( فهمي المدرس ) إبداء الرأي في  كتابه , وبعد دراسته قال  :( وبالاجمال لم يظهر لنا كتاب تعليقات الرصافي ما يمس حرمة الدين ،  بل ظهر أنه قوي الايمان بالله ورسوله ،  راسخ الاعتقاد بما جاء القرآن، ومن كفرّ مسلماً فقد كفر ) وبالمناسبة للرصافي سبعة عشر مؤلفاً تركها للأجيال ،  ثم لبى نداء ربه صباح الجمعة ( 16/3/1945 ) واحسبه كان يردد:

ويل ٌ لبغداد مما سوف   تـــذكره  **عنّي وعنــها الليــالي في  الدواوين
لقد سقيت بفيض الدمع أربعــها *** على  جوانــب  وادٍ ليــــس يسقيني
ماكنت أحسب إنّي مذ بكيت بها ****قومي , بكيت على من سوف يبكيني
رحم الله الرصافي، ورحم تلك الأيام ، بكينا عليه ، فمن الذي سيبكي علينا يا ترى ؟!!! 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الملك فيصل الأول ولد في الطائف في 20 أيار 1883م،  وتوفي في برن عاصمة سويسرة مستشفيا في 8 أيلول 1933،  وهو نجل الملك حسين (1854-1931 ) شريف مكة ، وقائد الثورة العربية (1916) ،  وأمه الشريفة عابدية بنت شريف مكة عبد الله كامل باشا , حكمت الأسرة الحجاز أكثر من سبعة قرون منذ 1201م حيث جدهم المؤسس قتادة بن أدريس الحسني،  أما الملك فيصل الأول فحكم العرااق مابين  ( 23 ب 1921- 8 أيلول 1933) ، وحكمت الأسرة في العراق الى (14 تموز 1958 ) كما هو معلوم،  وللملك فيصل تاريخ حافل في السياسة على المستوى العربي والوطني ،  كان الرجل نابغة من نوابغ دهره، غاية اللطف في معاشرته  ،  داهية في حكمه ، عفيفا لم يطمع بمال،  ولم يؤثل ثرؤة، تزوج في اسطنبول سنة 1905 من ابنة عمه الشريفة حزيمة بنت الشريف ناصر بن علي توفيت في بغداد سنة 1935, انجبت له الملك غازي،  والحقيقة أنّ بؤس الرصافي وقنوطه لم يُحدثا في عهد الملك  فيصل الأول ولا حتى في عهد نجله الغازي. 
  (2 ) الملك غازي ولد في مكة المكرمة بتاريخ 21 أذار 1912 من أبويه السالفي الذكر، عاش في كنف جده الشريف حسين وجيء به إلى بغداد في 5 تشرين الاول 1924 ، ونودي به وليا للعهد ’ كمل دراسته في كلية هارو بلندن،  ودخل الكلية العسكرية ببغداد وتخرج منها حزيران سنة 1932،  واقترن بابنة عمه الأميرة عالية بنت الملك علي في كانون الثاني 1934،  ووضعت له ابنه الملك فيصل الثاني في 3 أيار 1935 ، كان الملك غازي شاباًمتحمسا نزقا، ً طيب القلب والعاطفة، غير متمرس في السياسة،  لم يطل عهده، إذ قضى أجله في حادث اصطدام سيارته بأحد شوارع بغداد في 4 نيسان 1939م،  وقيل في مصرعه الأقاويل،    مدحه الجواهري ونعاه،  ورثاه أيضا عبد الحسين الأزري وغيرهما من الشعراء والكتاب.

شعريّة الابيض المتوسط: بحر أمورو الكنعاني العظيم/ عز الدين المناصرة

ولدتُ بين بحرين: أحدهما (ميت)، والآخر (أبيض متوسط). ولم يظهر اسم (الأبيض المتوسّط)، إلا بعد أن استخدمه (سولينوس) في النصف  الثاني من القرن الثالث الميلادي، وهكذا كنتُ من جبل في بلدة (حلحول) الخليلية، الواقعة في مدخل مدينة الخليل، أشاهد البحر الأبيض المتوسط، الذي يبعد حسب خطّ هوائي عن البحر، حوالي ستين كيلومتراً. هذا الجبل في حلحول، هو أعلى نقطة في فلسطين كلها، إذْ يرتفع عن سطح البحر، حوالي (997 متراً)، لكنني لم أكن أستطيع أن ألمس ماء البحرين، بل كان وما زال ممنوعاً علينا فعل ذلك، لأنّ      (الدولة–الخازوق)، تقف عائقاً دون ذلك، أي لم يكن يحقّ لي سوى النظر من بعيد. وهكذا بدأتْ علاقتي بالبحر الأبيض المتوسط، بعد أن غادرتُ فلسطين عام 1964، إلى المنافي الإجبارية، بعد أن أصبحتُ ممنوعاً من دخول فلسطين منذ كارثة عام 1967، التي سمّاها محمد حسنين هيكل: (نكسة)، من باب التخفيف على الرأي العام، رغم أنها كانت (نكبة ثانية)، بامتياز، حيث استكملت (الدولة – الخازوق)، احتلال ما تبقى من فلسطين: (الضفة الغربية)، التي كانت تحت الحكم الأردني، و (قطاع غزّة)، الذي كان تحت الحكم المصري، بعد أن تمَّ تهجير مليون فلسطيني عام 1948 من منطقة (48). وهكذا أصبحتُ (لاجئاً فعلياً) في المنافي، دون أن يعترف أحدٌ بأنني (لاجئ)!!، بل لم أعترف في داخلي أنني لاجئ، لأنني كنتُ دائماً على قائمة الانتظار الطويل الطويل الطويل: كلُّ شيء مؤقت. 
الإسكندرية أوّلاً: 
سبحتُ في مياه المتوسط لأوّل مرّة عام 1966 في (الإسكندرية). عشقتُ البحر، أنا القادم من أعالي جبال الخليل: أصحو لأجلس قليلاً في شرفة المنزل، أراقبُ الصيّادين، وهم ينتظرون أن تلتقط صنانيرهم، بعض الأسماك التي دفعها الموج إلى الشاطئ. أنتظر (أماندا) الإغريقية، ذات الثمانية عشر ربيعاً، كي نقيم قصوراً في رمل الشاطئ. أتعرَّف في الماء إلى مُمثّل ناشئ آنذاك، اسمه (نور الشريف)، الذي التقيته لاحقاً في مهرجان طشقند السينمائي، عام 1976: أذهبُ إلى مطعم شعبي لتناول وجبة سمك طازجة، قرب مسجد (المرسي أبو العبّاس). أعود إلى المنزل، لأجلس ثانية في الشرفة، أتأمل الأبيض المتوسط. في المساء، أتصل هاتفياً بـ (أماندا)، لنكسدر على الكورنيش، ثمّ نجلس في مقهى بحري مختلط. أودّع أماندا، وأكمل الليل: عرف شعراء وأدباء الإسكندرية بوجودي، فالتقينا في مقهى في قلب البحر، نصل إليه عبر جسر. أوغلُ في الليل، لأستمع إلى أغاني (سيّد درويش) في إحدى حانات الأبيض المتوسط. لم أكن أتصوّر أنني سألتقي لاحقاً بحفيد سيد درويش، (المطرب إيمان البحر درويش)، (ليس في الإسكندرية)، بل في عمّان، حيث تشاركتُ معه في حلقة تلفزيونية، لصالح قناة (الرسالة)!!. وفي صيف 1968، ذهبت إلى الإسكندرية، التي تعني لي : البحر. صُدمتُ حين عرفت أنَّ (أماندا)، قد هاجرت مع أسرتها إلى أستراليا. كان البحر الأبيض المتوسط، شاهداً على خفقات القلوب المحترقة. ومنذ نهاية الستينات، لم أزر بحر الإسكندرية حتى عام 2003: فجأةً، تلقيتُ دعوةً للمشاركة في (المهرجان الدولي الشعري الأوّل لشعراء البحر الأبيض المتوسط). هكذا أصبحتُ شاعراً متوسطياً. كانت تلك الرحلة من أجمل رحلاتي الشعرية. استقبلني أدباء مصر والإسكندرية بترحاب شديد، واستعدنا بعض الذكريات. صارت الإسكندرية أجمل، رغم الزحام. زرتُ منزل أحد شعرائي المفضّلين: (كفافيس)، اليوناني المصري الإسكندراني، الذي تحوّل إلى متحف. ألقيتُ أشعاري في قاعات مكتبة الإسكندرية. سبحتُ في منطقتي البحرية المفضّلة (المنتزه). سهرتُ مع بعض شعراء اللهجة المصرية في مقهى شعبي، وكان بعض شعراء الحداثة، يتناقشون حول مصطلح (المعادل الموضوعي) لإليوت، حين دخل أحد شعراء اللهجة البسطاء، فاستمع إلى الحوار، وتساءل ببساطة: (تطْلعْ مين دي.. أُمُّ عادل الموضوعي!!). وضحك الجميع. 
بيروتُ يا بيروت: شمس المتوسط: 
أقوى علاقة لي مع الابيض المتوسط، كانت في بيروت، حيث كان البحر صديقي الدائم، من شواطئ بيروت، مروراً بشاطئ (الصرفند)، وحتى شاطئ صور، حيث تفوح منه رائحة التاريخ. ورغم أنني عشت سنوات قليلة في بيروت، إلاّ أنَّ صلتي بها، كانت وما تزال قويّة: ولدت زوجتي في بيروت على مقربة من البحر. ولد ابني عام 1979 في بيروت. وكانت علاقتي بشاطئ (الدامور)، و (السعديات)، بين بيروت وصيدا، قوية، حين كنت مديراً لمدرسة أبناء وبنات مخيم (تلّ الزعتر) في الدامور بعد تهجيرهم في صيف 1976. أما شاطئ مدينة (صيدا)، فقد سبحت فيه قرب (الجزيرة السوداء). هناك علَّمني فتىً فلسطينيٌ من مخيم (عين الحلوة)، كيف أسبح على ظهري لأول مرّة، إذْ كنتُ قبل ذلك أخاف من السباحة على الظهر. قال لي: أتركْ جسدك في قلب الماء، واخفض رأسك، ولا تخف، ولا تتوتر، ستجد جسدك يطفو من تلقاء نفسه. وهناك كنت أشاهد صديقي الفدائي الفلسطيني (أبو النور)، وهو يُفكّكُ ساقه الصناعي، بعد عملية فدائية جُرح فيها، لينساب بليونة ومهارة في الماء لمسافات طويلة. وفي (استراحة صور) البحرية، كنت أرقب الموج الأبيض يتدافع أمامنا، قادماً (ربَّما!!) من (عكّا) الفلسطينية، مدينة زوجتي. ولم أكن كنتُ قد ركبتُ في حياتي سفينة ضخمة، إذْ قد ركبتُ قبل ذلك، قوارب في نهر النيل في القاهرة، تلك التي كانت تأخذنا نحو (القناطر الخيرية)، لكنّ الصدفة تجبرني هذه المرّة على الرحيل من بيروت مكرهاً، لأركب سفينة يونانية، اسمها (شمس المتوسط) من ميناء بيروت إلى ميناء (طرطوس) السوري، بتاريخ (1/9/1982) في نهاية حصار بيروت، الذي عشته كاملاً، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. استدعاني الشهيد (العميد سعد صايل)، قائد القوات الفلسطينية – اللبنانية المشتركة في معركة حصار بيروت، بصفتي مندوباً عن مركز الأبحاث الفلسطيني، وسألني عن الجهات التي يرغب زملائي الذهاب إليها. أجبته: الجزائر، واليمن، باستثنائي شخصياً، إذْ لا أعرف أين أذهب، وحين لاحظ حيرتي، قال: أنصحك بسفينة طرطوس، وحين تصل دمشق، تتدبّر أمرك. ولاقت الفكرة هوىً في نفسي. هكذا حملتْ السفينة اليونانية (شمس المتوسط)- (682 فدائياً وطفلاً وامرأة)، كنتُ أحدهم. كانت الطائرات الفرنسية تطير فوقنا، تراقب السفينة من ميناء بيروت حتى ميناء طرطوس. انطلقت السفينة في الساعة الثانية عشرة ظهراً، ووصلت في التاسعة مساءً، حيث كانت (شبابيك الحلوة) في طرطوس، مضاءةً بالكهرباء، ولكنّ (الحرس في الميناء)، منعنا من أن نبوسَ الشبابيك، أو حتى أن ندخل المدينة. كانوا قد جهّزوا سبعة باصات ضخمة لنقلنا إلى معسكر للجيش السوري، يقع على بعد حوالي ثلاثين كيلومتراً من دمشق. كان معي على ظهر السفينة الشاعر العراقي سعدي يوسف، والفنانة المصرية نادية لطفي، وعددٌ من القيادات السياسية: صلاح خلف (أبو إياد)، وأبو موسى (حركة فتح)، وأبو ماهر اليماني (الجبهة الشعبية) وغيرهم. 
لقاء المتوسّط بالأطلسي: 
تعبثُ بك الصدفة: فلم أكن أفكّر في يوم من الايام، أنني سأعيش في تونس والجزائر في الفترة (1982-1991)، ولكن ذلك حدث بالفعل. كان (فندق سلوى) التونسي، هو مقرّ القيادة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات. أقمت مع زوجتي وطفلي في الغرفة الملاصقة لمكتب عرفات في هذا الفندق. لم يكن يُسمح لنا بالخروج من الفندق الذي يقع في الضواحي إلى تونس العاصمة، إلا بإذن مكتوب، مُوقَّعٍ من (العقيد داود أبو الحكم)، ولساعات محدّدة، ولكن سُمح لنا بعد شهرين، استئجار منزل في تونس العاصمة. هكذا سكنتُ في منزل على شاطئ (صلامبو) في شارع الكاهنة، وأصبح البحر المتوسط جاري، إذْ لا يبعد عن المنزل، سوى بضعة أمتار. وحين حدث الانشقاق في حركة فتح بين (جماعة تونس)، و (جماعة الشام)، عام 1983، قررتُ الرحيل إلى الجزائر، حيث عشتُ في مدينتي (قسنطينة)، و (تلمسان)، المسافة بينهما هي (1100 كم). كان البحر الأبيض المتوسط في هذه المرحلة صديقي: بحر عنّابة، بحر جيجل، بحر سكيكدا في الشرق الجزائري، وبحر بني صاف قرب تلمسان، وبحر وهران في الغرب الجزائري، قرب الحدود المغربية، حيث يختلط البحر بأصوات الموشّحات الأندلسية، وباللغات الفرنسية والإسبانية، والأمازيغية والعربية. وفي هذه المرحلة، كنّا نسبح في بحر (السعيدية)، المغربية القريبة من مدينة (وجدة)، الشهيرة بالغناء الغرناطي. سافرتُ بالقطار نحو مدينة (طنجة)، وهي مدينة مغربية عالمية، حيث ترى (جبل طارق) بالعين المجرّدة. كنتُ في شاطئ طنجة مع صديقي المغربي عبد اللطيف بن يونس (المذيع في إذاعة طنجة)، نفتّشُ عن صديقنا الروائي (محمد شكري)، في حانات الشاطئ، وحين وصلنا إلى حافة اليأس من العثور عليه، قالت لنا إحداهُنَّ: (سي شكري، معه دراهم كثيرة هذه الأيام، ولم يعد يأتي هنا إلاّ قليلاً. ستجدونه في فندق في الجبل). وفعلاً، وجدناه هناك قُرْبَ زجاجته: سهرنا مع شكري، ثلاث ساعات متواصلة، واستأذناه. طلب رقم هاتف الفندق الذي أقيم فيه، فكتبتُه على وُريقة، ووضعته في جيب قميصه. عصر اليوم التالي، اتصل بي هاتفياً، مُعاتباً: (تأتي إلى طنجة، ولا تسأل عني!!). ضحكت وقلت له: تعال وسوف نتحدث. كان صديقي المغربي، قد أخذني إلى آخر نقطة في شاطئ  المتوسط، وقال لي: أدخلْ في الماء. لماذا. قال: أدخلْ فقط. دخلتُ بقدمين حافيتين في الماء. قال لي: ماذا تشعر. قلت: (ماءٌ دافئ، وماء بارد!!). قال: هنا يلتقي البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الأطلسي. سبحنا في (بحر طنجة)، وبحر (مدينة أصيلة)، وعدنا إلى شاطئ مدينة المحمدية بالقطار، قرب الدار البيضاء. استأجر لنا الصديق محمد بنّيس، منزلاًَ، وكنّا نذهب كلّ يوم للسباحة في (بحر المحمديّة)، لكنه هنا في المحمدية، ليس البحر الأبيض المتوسط، وإنما هو المحيط الأطلسي، حيث بُني في ماء المحيط بالدار البيضاء (مسجد الماء)، وهو تحفة فنيّة عظيمة لا مثيل لها. هكذا أكون قد سبحتُ في الإسكندرية، وبيروت، وتونس، والجزائر، ووصلت إلى آخر نقطة في البحر المتوسط عند لقائه بالمحيط الأطلسي قرب طنجة. وحده، بحر فلسطين: بحر عكّا وحيفا ويافا وعسقلان وغزّة، بقيتُ ممنوعاً من الوصول إليه، طيلة حياتي. 
مُدُنُ المتوسط: 
مستطيل غير متناسق، هو المتوسط. قاعدته الجنوبية، عربيةٌ مئة بالمئة من بور سعيد المصرية، حتى طنجة المغربية. أما قاعدته الشرقية، فهي عربية مئة بالمئة أيضاً من غزّة حتى الإسكندرونة، باستثناء مشكلتين: الأولى هي مشكلة (أنطاكية والإسكندرونة)، وهما سوريّتان، حيث تبدأ حدود تركيا الفعلية من  (أضنة) التركية، وهذه المشكلة اختلقها الاستعمار. أما المشكلة الثانية، فهي احتلال إسبانيا لمدينتي (سبتة، ومليلة) المغربيتين، وهما من الناحية الطبيعية جزء لا يتجزأ من المغرب، لأنهما تقعان على الشاطئ الشرقي للمتوسط. وتقع المدن المتوسطية العربية على الشاطئ الجنوبي والشرقي للمتوسط في البلدان التالية: (فلسطين، سوريا، لبنان، مصر، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب). ومن أشهر هذه المدن العربية المتوسطية: غزّة ، يافا، حيفا، عكّا، صور، صيدا، بيروت، طرابلس، طرطوس، بانياس، جبلة، اللاذقية في الجهة الشرقية للمتوسط. وبور سعيد، دمياط، الإسكندرية، طبرق، درنة، البيضاء، بنغازي، طرابلس، قابس، سوسة، تونس، بنزرت، عنّابة، سكيكدا، بجاية، الجزائر، مستغانم، وهران، سبتة، مليلة، تطوان، طنجة... وغيرها، وكلّها في القاعدة الجنوبية للمتوسط. وتتفرع من البحر الأبيض المتوسط، بحور فرعية، منها: بحر إيجة بين اليونان وتركيا، والبحر الأدرياتيكي يبن اليونان وإيطاليا، والبحر التيراني، القريب من (الحذاء النِسْوي الإيطالي). وهناك أيضاً عدد من الجزر المشهورة في المتوسط، مثل: (قبرص، كريت، سردينيا، كورسيكا، جزر البليار، رودوس، مالطة). أمّا شمال المتوسط فتقع دول أوروبا: (إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، يوغسلافيا، ألبانيا، اليونان)، إضافة إلى تركيا.. الخ، بمدنها المتوسطية الشهيرة. وهكذا، فإنّ الشراكة بين العرب وأوروبا، حول المتوسط، هي شراكة طبيعية، تحكمها دكتاتورية الجغرافية، وثقافة المتوسط المتشابهة إلى حدّ كبير، وكان يحكمها الصراع أيضاً. 
الصراع على المتوسّط: (... إلاّ بإذنٍ من قرطاجة الكنعانية):
يقول المؤرخون القدامى: (كانت الإمبراطورية الرومانية، لا تجرؤ على الاغتسال بماء المتوسط، إلاّ بإذن من قرطاجة الكنعانية). وقد أطلق الكنعانيون على البحر الأبيض المتوسط، لقب: (بحر أمورو الكنعاني العظيم)، و (البحيرة الكنعانية). أما الرومان (الذين اشتهروا بأنهم قومٌ لا خبرة لهم ولا معرفة بتقاليد البحر)، حسب (جوفري ريكمان)، فإنّ البحر المتوسّط هو الذي أتاح المجال الرئيسي لتوسيع الإمبراطورية، حيث أطلقوا عليه لقب: (بحرنا – mare nostrum)، وأصبح البحر خالياً تماماً من القراصنة في الفترة من العام (36ق.م)، وحتى القرن الثالث الميلادي، مما زاد في حجم التجارة مع الشاطئ الجنوبي والشرقي من المتوسط، حيث حملت السفن البضائع، (القمح والنبيذ وزيت الزيتون، والخشب والمعادن) من مصر وأرض كنعان إلى روما. وتبلغ مساحة سطح البحر المتوسط، حسب ريكمان أيضا: (2.96 مليون كيلومتر مربع)، ويبلغ حجمه : (2.24 مليون كيلومتر مكعّب)، وهو أكبر بحر داخل اليابسة، وأحواضه الرئيسة، تصل أعماقها إلى أعماق المحيطات، والحوض الغربي له قاع مسطّح عند عمق نحو (2700متر)، كذلك الحوض الشرقي- ثمّ وصلتْ الحياة التجارية لروما، إلى حالة الانحطاط الشديد، بشكل مطَّرد حتى القرن السادس الميلادي، قرن انحطاط روما. وهكذا قال هنري تشادويك في كتابه: وداعاً للعصر القديم، 1986: (لم يعد البحر المتوسّط بحيرةً رومانية)!. -أنظر كتاب (البحر والتاريخ: جوفري ريكمان: ص 12 + 16+ 30). 
-سيطر (الكنعانيون)، ونحن نعني سوريا وفلسطين ولبنان والأردن على البحر المتوسط، وكانوا في صراع دائم مع اليونان وروما، للسيطرة على طرق التجارة البحرية، وكان الأردن في العهد الروماني، يُسمّى (فلسطين الثالثة)، حسب التقسيم الإداري، ولم تتم السيطرة اليونانية على الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط، إلاّ بعد حصار صور (332-331ق.م) في عهد الإسكندر المكدوني. أمّا (فينيقيا الكنعانية)، فلم تكن تعني (لبنان) وحده، بل كانت تعني أجزاء من سوريا وفلسطين. أمّا مصطلح (الفينيقيين)، فهو مصطلح يوناني أطلق على قبائل (بني كنعان)، بل إنّ الكلمة نفسها، تعني في اللغة اليونانية القديمة (بني كنعان). وأعتقد أن المستشرقين الفرنسيين بالتحديد، هم من أعاد ترسيخ مصطلح (الفينيقيين)، خصوصاً إرنست رينان، بهدف سلخ لبنان عن سوريا، لأهداف فرنسية استعمارية. فالفينيقيون هم كنعانيون. يقول عبد الله الحلو: (هناك أدلّة كثيرة على أنَّ الفينيقيين أنفسهم، سكان المدن الساحلية، كانوا في كل أدوار تاريخهم يعتبرون أنفسهم كنعانيين. وحتى بعد زوال قرطاجة كان من بقي في إفريقيا الشمالية من سكانها، يدعون أنفسهم كنعانيين – (أنظر: مقدمة كتاب جان مازيل: الحضارة الكنعانية الفينيقية: ص 14). وهكذا، فإنَّ حركة الاستشراق الفرنسية هي التي عمَّمت مصطلح (الفينيقيين) على لبنان، وشمال إفريقيا، ومحت اسم (الكنعانيين) تدريجياً، مع أن القدّيس أوغسطين الجزائري يقول حرفياً: (إذا سألت سكّان نوميديا (الجزائر الشرقية)، قالوا: نحن كنعانيون)، تماماً كما حاولوا محو اسم (فلسطين)، ودورها الحضاري في قلب الحضارة الكنعانية. يقول المؤرخ اللبناني فيليب حتي: (يمكن الاعتقاد بأن الفلسطيين، أعطوا جيرانهم وورثتهم الفينيقيين، ميلاً إلى الأسفار البحرية البعيدة، كان من نتائجه استكشاف البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، والمحيط الأطلسي الشرقي: (تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين: ص 200). أما – هيرودوت في كتابه (التاريخ)، المكتوب عام 450 ق.م، فهو يصف التجهيز لإحدى المعارك البحرية الكبرى بالقول: (وكان الأسطول يتألف من ألف ومائتين وسبع من السفن الضخمة الطويلة، عدا القوارب والسفن العادية: قدّم الفينيقيون، والسوريون سكّان فلسطين- (300 سفينة)، وكان إسهام المصريين، هو (200 سفينة) – (هيرودوت: التاريخ: ص 5229)، ورغم أن هيرودوت فصل بين الاسمين (الفينيقيون، والسوريون سكّان فلسطين)، إلاّ أننا نلاحظ أنه جمع بينهما في (عدد السفن)، وهذا يدلّ على الشراكة بينهما. ومعنى ذلك، أنهما شعب واحد (كنعاني)، لكنّ ترجمة كلمة (فينيقيين)، هي (بني كنعان- بينيكيان) في اللغة اليونانية القديمة، ولا بُدَّ أنّ الخطأ هنا في نقل اللفظة صوتياً. 
قيسارية، وعتليت: مدنٌ غرقى تحت الماء: 
يقول (ن.س. فليمنغ: البحر والتاريخ: ص 65+ 79)، بأنّ المدن البحرية الأثرية، تعرضت للغرق تحت الماء، بنسب متفاوتة، فقد غرقت مدينة (قيسارية) الفلسطينية، ثمانية أمتار تحت الماء. أنشئت قيسارية بأمر من هيرودوس (حَرَد الأدومي العربي)، عام (25ق.م)، ثمّ دمّرتها الزلازل والانخسافات الأرضية في القرن الأول بعد الميلاد، وقد كشفت الأبحاث على أنّ المباني على خطّ الشاطئ على بعد مسافة بضع عشرات الأمتار من الشاطئ الحالي، كانت تقع على المستوى العمودي الصحيح نسبة إلى مستوى البحر الحالي. أما بعيداً عن الشاطئ، فقد كانت مصدّات المياه الحجرية الهائلة، مترافقة مع أرصفة الموانئ والمباني العامة، والمنارات مغمورة بما يقرب من 5 إلى 8 أمتار. وكشفت الحفريات تحت الماء في قيسارية الفلسطينية، والحفريات في الميناء الداخلي على اليابسة، عن أحد أهم الإنجازات التكنولوجية في العالم القديم، وأكثرها إثارة للدهشة، وهو عبارة عن مبانٍ اسمنتية هائلة تمنع تسرب المياه أثناء العمل تحتها، وهي تحتوي على أبواب خشبية محكمة، وقد وجدت جميعها غارقة في البحر مكونة قلب المصبّ المائي. ويضيف (فليمنغ)، بأنه توجد قرية قرب (عتليت الفلسطينية)، تنتمي إلى العصر الحجري، جنوب عتليت مباشرة، وهي تقع على عمق (10.5 مترا تحت الماء). وتؤدي التحركات الموسمية للرواسب إلى عملية متبادلة من التغطية، ثمّ الكشف لعدد كبير من البقايا البشرية، والأدوات الحجرية والمواد العضوية والمدافئ والمدافن. وثمّة عمود بئر مُبطَّن بالحجارة يمتد إلى عمق خمسة أمتار تحت الطبقة الصخرية الرقيقة للبحر، ليصل إلى عمق كلّي مقداره 15.5 متراً تحت المستوى الحالي للبحر. ويصل (فليمنغ) إلى الخلاصة التالية: (ثمّة شروط عديدة تحدّد استجابة الإنسان للارتفاع والانخفاض في مستوى البحر، منها: رغبته في أن يقيم قريباً من الموارد القابلة للاستغلال، ومنها الرخاء الاقتصادي، ومنها التغيرات التي يمكن أن تحدث في طوبوغرافية الساحل نتيجة للتغيرات في مستوى البحر، ومنها القدرة التكنولوجية، ومنها الخوف من القرصنة. ففي ظل أوضاع معينة، يمكن للجماعة الساحلية أن تقاوم الدمار الذي قد يُحدثه ارتفاع مستوى البحر، وفي أوضاع أخرى، يمكن أن تُهجر الموانئ والمدن الكبرى، ويتشتت السكان: (فليمنغ: 83). 
فلسطين المتوسطيّة: تالمين الخليلي، (هوميروس فلسطين): 
كانت ثقافة مصر القديمة، نهرية (النيل)، وكانت ثقافة العراق القديم، نهرية أيضاً، (دجلة والفرات)، أما ثقافة فلسطين القديمة، فقد كانت تعدديّة: (بحرية، جبلية غابيّة، سهلية زراعية، رعوية في الهضاب، وأطراف الصحراء)، كذلك الأمر بالنسبة لسوريا ولبنان، بينما كانت ثقافة الأردن القديم، ثقافة تميل إلى (الرعوية) في مناطق مؤاب والجنوب، وزراعية غابية في الشمال. وبما أن الأردن، هو الامتداد الطبيعي، والعمق الاستراتيجي لفلسطين، فإنه بشكل عام، يمكن أن يوصف بأنه (متوسطي)، حتى حدود الصحراء، لأن (المتوسطية)، لا تعني المدن الساحلية الواقعة مباشرة على شاطئ البحر فقط، بل عمقها الجغرافي والثقافي والحضاري، فإذا وقفتَ عند أطلال (أم قيس) الأثرية، ونظرت غرباً، حيث سهول بيسان الفلسطينية، والجولان السوري، أدركتَ أن هذا المثلث، متوسطيٌّ بالكامل، تدعمه زراعة البحر المتوسط في سهول إربد، والصفة (الغابية) في جبال عجلون، وثقافة جدارا (أم قيس)، الأردنية حالياً. إذن، لم تكن فلسطين القديمة، صحراوية، بل كانت ذات ثقافة تعددية (بحرية، جبلية، سهلية). ويكفي فلسطين أن يكون (تالمين الخلّ- إيلي) الخليلي، هو هوميروس فلسطين، الذي سجّل في قصائده مأساة الشعب الكنعاني في صراعه ومقاومته للأعداء في العصر القديم، والشاعر (أيّوب السبعاويّ الأدومي) النبيّ، وصاحب المزامير الحزينة، و (مليغر الجداري) من أم قيس، وهو شاعر كتب بالآرامية الكنعانية في العصر الهلليني، وغيرهم. أمّا في العصور الإسلامية، فقد ازدهرت الثقافة المتوسطية في فلسطين، يقول خليل عثامنة (فلسطين في خمسة قرون: ص 301)، ما يلي: لمّا قرر (معاوية بن أبي سفيان)، مهاجمة جزيرة قبرص، أمر بترميم ميناءي عكّا، وصور، وأمر أهل الساحل بإصلاح المراكب وتجميعها في (عكا). ثمّ أمر بعد ذلك، بنقل دار الصناعة (حوض بناء السفن) من مصر إلى عكّا، لتصبح قاعدة الصناعة البحرية في بلاد الشام. وعندما استولى الفاطميون على بلاد الشام، أصبحت مدن الساحل الفلسطيني، المتوسطي، وخصوصاً، عسقلان، ويافا، وأرسوف، وقيسارية، وعكا من أهم القواعد البحرية. ومن الطبيعي أن تصبح الملاحة البحرية وصناعة السفن، تقليداً متوارثاً لدى أبناء الشعب الفلسطيني في المدن الساحلية. ولم يقتصر بناء السفن على أهل المدن الساحلية، بل شمل أيضاً أهالي المدن الداخلية، فقد أشار الجغرافيون العرب إلى السفن والقوارب، التي يستخدمها (فلاّحو فلسطين وتجّارها)، لنقل غلالهم وبضائعهم بين الأسواق الواقعة في محيط البحر الميت، وعلى شواطئ بحيرية طبرية). 
هزيمة (وعد نابليون الإسرائيلي)، أمام أسوار عكا: 
في (9/1/ 1799م)، أصبح (والي عكّا: أحمد باشا الجزّار)، حاكماً لطرابلس الشام، ومقاطعة يافا وغزّة. وهكذا أصبح أقوى شخصية في المنطقة. وفي شباط 1799، تقدمت الحملة الفرنسية باتجاه غزّة وأسدود والرملة، وحاصر الجيش الفرنسي يافا، واحتلها في آذار 1799، بعد مقاومة شعبية عنيفة، وارتكب الفرنسيون مذبحة كبرى في يافا، حيث ذبحوا ألفي أسير، وقيل: أربعة آلاف أسير. وقد أشار نابليون في مذكراته بأن ما فعله في يافا، (كان وصمة عار في تاريخه العسكري). وتقدّم الجيش الفرنسي، نحو عكّا، بتاريخ (18/3/1799)، وحاصرها حتى تاريخ (22/5/1799)، أي حوالي (64 يوماً). وكانت عكا محاطة بسور منيع وأبراج وخندق غميق عريض، وتنقل المياه إليها من قناة محكمة البناء. أما المدافعون عن المدينة، فكان عددهم (ستة آلاف مقاتل فلسطيني)، يمتلكون ثلاثين مدفعاً. وشنّ الجيش الفرنسي، هجمات متكررة على أسوار المدينة وبواباتها، لكن المناضلين صدوّها جميعا، بل قاموا بهجومات معاكسة. ثم أحضر نابليون مدافع جديدة من مصر، وجدّد محاولاته احتلال عكا، ولكن دون جدوى. وقدّر ضابط فرنسي، خسائر الجيش الفرنسي ب (300 قتيل وجريح)، وكانوا قد خسروا (1500 جندي) في معركة يافا، فانسحب الجيش الفرنسي مهزوماً أمام أسوار عكا، وقدّرت خسائره، بأكثر من ألف جندي، وقد دمّر الجيش الفرنسي القرى والمدن في طريق انسحابه إلى مصر، حيث وصل نابليون القاهرة، بتاريخ (14/6/1799) – (أنظر: عادل منّاع: تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني: ص 94-99). 
-يبدو لي، أنّ هزيمة نابليون أمام أسوار عكا، قد أخّرتْ تنفيذ (وعد نابليون الإسرائيلي)، الذي وزّعه في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، بل وزّعه في فلسطين، وهو (الوعد) الأكثر وقاحة في التاريخ الحديث، وقد حدث تأخير تنفيذ الوعد، بفضل المقاومة الفلسطينية في عكّا، ويافا وغيرها، إذْ عاد نابليون محبطاً، بل إنّ (الوعد الفرنسي الإسرائيلي)، تمّ قبره نهائياً، لتتسلّم بريطانيا لاحقاً راية الوعود – أنظر: النصّ الكامل لوعد نابليون الإسرائيلي في كتاب: (محمد حسنين هيكل: المفاوضات السريّة، الجزء الأول: ص 31-32). 
-وهكذا، كان الصراع على المتوسط، عسكريا،ً منذ اليونان والرومان والحروب الصليبيبة، وحتى هجوم الجيش الفرنسي على فلسطين بقيادة نابليون. ففي العصور القديمة، كان الصراع بين الكنعانيين الشاميين (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن)، وبين اليونان، عسكرياً وتجارياً وثقافياً، ففي الجانب الثقافي، تبنّى اليونانيون، الأبجدية الكنعانية، التي كانت قد مرّت بثلاث مراحل: مرحلة جنوب فلسطين (التأسيس)، ومرحلة أوغاريت في شمال سوريا (التطوير)، ومرحلة جُبيل في لبنان (الذروة والنضج)، وهذه اللغة الكنعانية، هي أول أبجدية في العالم القديم، وبها تكلّم (الفلسطيُّون القدامى). ووصل الكنعانيون القدامى إلى شمال إفريقيا، فأقاموا فيها (حضارة قرطاجة الكنعانية)، التي كانت في صراع دائم مع الإمبراطورية الرومانية على البحر الأبيض المتوسط، ووصل الكنعانيون إلى قبرص ورودوس وكريت وأثينا، وإسبانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وإفريقيا الوسطى، وبريطانيا، وتركوا أثراً حضارياً، لا يُنسى. وكانت قرطاجة الكنعانية، حسب جان مازيل، هي (نيويورك العالم القديم). 
إشكالية المتوسطيّة: الدولة الخازوق!!
كانت فلسطين قبل عام 1948 متوسطيّة حتى العظم، وبالتالي، فإنّ المتوسطيَّة، عنصر أساسي في (الهويّة الفلسطينية)، مثلها مثل العناصر الأخرى في الهوية: (الكنعنة والفلسطنة) و(العروبة الديمقراطية)، و (الإسلام العقلاني)، و (المسيحية التلحمية)، و (العالمية: القدس جذر العالم)، وغيرها من العناصر، وما تزال فلسطين، متوسطية، بحكم دكتاتورية الجغرافية الطبيعية. العامل الوحيد الطارئ على هذه المتوسطية النقية الطبيعية، هو نشوء (الدولة- الخازوق)، الاحتلالية النووية غير الشرعية على أرض فلسطين التاريخية من العام 1948، أي (دولة إسرائيل)، بمساندة أوروبية – روسية – أمريكية، وهي آخر استعمار في عصر العولمة في العالم كله. والحلُّ العادل، هو: (خذوا يهودكم، ونحن كفيلون بحماية الطائفة اليهودية الفلسطينية، وهي تشكل 7% من مجموع الشعب الفلسطيني، خذوا يهودكم، فأوروبا شاسعة وخصبة، وروسيا تتسع لهم، وأمريكا، تستطيع جمعهم في دولة). أمّا اليهود العرب، فلهم الحق في العودة إلى أوطانهم الأصلية العربية. خذوا يهودكم، لأنَّ (أوروبا)، هي الفاعل الأصلي للمحرقة، وليس الشعب الفلسطيني. لذا، فإنّ الإشكالية الأصعب في (الاتحاد المتوسطي)، هي محو ثقافة الشعب الفلسطيني المتوسطية، وإحلال (ثقافة الاحتلال الإسرائيلي) محلّها، رغم أنّ والممثل الشرعي الوحيد للمتوسطية، هي فلسطين، وليس الاحتلال. إنّ (فرنسا الحُرّة)، تريد تنفيذ وعد نابليون الإسرائيلي، بمنح (الشرعية) لدولة الاحتلال في الذكرى الستين لاغتصابها لفلسطين، بعد أن صوتت فرنسا عام 1948 لصالح الدولة – الخازوق، وبعد أن منحتها المفاعلات النووية. وبعد هزيمة فرنسا في الجزائر عام 1962، انسحبت جيوشها، لتعود إلى تونس والجزائر والمغرب، بلباس مدني يُدعى (الفرانكوفونية)، عبر اللغة والثقافة الفرنسيتين، لترسيخ (فكرة الفينيقية) في لبنان من أجل عزل لبنان عن سوريا، وعزل الأقطار المغاربية عن شقيقاتها المشرقيات، بدلاًَ من الاعتراف بوضوح بـ (الثقافة الكنعانية). وصاغت فرنسا (نظام الحصص الطائفية) في لبنان منذ عام 1943، بدلاً من (نظام المواطنة)، رغم أنَّ فرنسا لم تؤسس لنظام طوائف وأعراق في فرنسا نفسها، وإنما لنظام (مواطنة)، وتآمرت فرنسا مع أمريكا، لصياغة القرار سيئ الذكر (1559) في العام 2004 من أجل حصار المقاومة اللبنانية، وفكّ لبنان من عروبته. وهكذا، فإنّ البحر الأبيض المتوسط، الذي كان مجالاً لتبادل البضائع والثقافات، والتعدديّة النوعية، أصبح فيه الفلسطينيون، (مخترعو أبجدية العالم، وصانعو السفن والقوارب، ومُصدّرو البضائع عبر البحر) – مجرد لاجئين غرباء في محيط المتوسط !!!، وحتى لو تمّ تمثيلهم، بـ (حكومة فيشي الفلسطينية)، فإنّ التمثيل، يظل ناقصاً، لأن (الدولة الخازوق)، تصبح فيه، حينئذٍ، متوسطية!! وهو أمرٌ مُقزّز، وهذا هو حال (الاتحاد من أجل منح شرعية لدولة الاحتلال)!!، فمتى يصحو ضمير العالم!!، ورغم ذلك كله، تظلُّ موسيقا (ياني) اليوناني، وموسيقا (تيودوراكيس)، وأصوات: فيروز، وأم كلثوم، وصباح فخري، وأشعار أراغون ولوركا، وكفافي، ورسومات بيكاسو، وغيرهم، تظلُّ تجمعنا حول حوض البحر المتوسط في وحدة طبيعية. 

-شاعر وناقد ومفكّر

مخرجات مؤتمر المنامة الإنفصامي/ احمد سليمان العمري

بدأ أول أيام مؤتمر البحرين "السلام من أجل الإزدهار" يوم الثلاثاء 25 يونيو/حزيران ويعرف في الصحف الغربية بـ "Peace to Prosperity" الذي انعقد في العاصمة البحرينية "المنامة" ضمن خطة للسلام في المنطقة بإدارة أمريكية وتحديداً صهر الرئيس الأمريكي ترامب ومستشاره "جاريد كوشنير".

مع أول أيام ورشة العمل تزامنت موجة غضب شعبي عارمة في بعض الدول العربية كالأردن ولبنان والمغرب وامتدت لتصل العاصمة الألمانية برلين رفضاً للمؤتمر.

افتتح الورشة في يومها الأول المستشار الأمريكي  كوشنير بكلمة استمرت عشرين دقيقة عن ضرورة تهيئة الأجواء الملائمة للإستثمار، مشيراً إلى رغبة كثير من رجال الأعمال الفلسطينيين بحضور المؤتمر، إلّا أنّ عدم مشاركتهم كان وراءه منع السلطة لهم، في نفس الوقت أرجأ كوشنير عدم إمكانية إبرام إي مشروع استثماري في الضفة الغربية وغزة إلى كونهما معزولتان بالإضافة إلى الخوف من الإرهاب في المنطقة، على حدّ تعبيره، مضيفاً أنّنا بالسلام فقط نستطيع جلب المستثمرين إلى الضفة وقطاع غزة لتشمل مصر والأردن ولبنان.

تقوم خطة كوشنير على 3 محاور رئيسية، هي الإقتصاد والشعب والحكومة.

المحور الأول يتمثّل الجانب الإقتصادي في إنشاء بنية تحتية تتناسب وحجم الإستثمار في المناطق الفلسطينية بهدف تعزيز قدرات الاعتماد على الذات وإيجاد فرص عمل من خلال تقنين نسبة البطالة، والعمل على زيادة دخل الفرد. وتطرّق إلى أنّ 99 بالمائة من كهرباء الضفة الغربية من الخارج، كما ونوّه لوجود مولد معمل ديزل في غزة لا يعمل، وبالإمكان إعادة هيكلته ليعمل على تحويل الديزل إلى غاز وتمديد الأنابيب الملائمة لنقله.

والحديث عن طريق سريع وسكة حديد يربط بين الضفة وغزة بقيمة 5 مليارات.

وشدّد على تهيئة البيئة المناسبة للإستثمار من خلال الأمن والسلام، هذا لأنه سبق ودُمرت كثير من الاستثمارات التي ساهمت في تقوية البنية التحتية بسبب تفاقم النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

 أما المحور الثاني "الشعب" فيجب العمل على تطوير الموارد البشرية من خلال تنمية المهارات والقدرات الموجودة عند الفلسطينيين لتتلاءم في مجالات كثيرة متعددة مع تنوّع الفرص الاستثمارية، وتطوير الرعاية الصحية وتحسين مستوى المعيشة، هذا بالإضافة إلى التعليم، حيث خُصّص 500 مليون دولار لإنشاء جامعة فلسطينية، المفترض أنّ تكون من ضمن  أفضل 150 جامعة دولية. هذا كلّه ليتم على أكمل وجه يجب تمكين الحوكمة - وهي المحور الثالث والأهم، الذي لم يقدّم عنه أي تفصيل عدا إسمه - لمنع أي عارض قد يهدّد هذا المشروع الضخم الذي تدارسناه بدقّة وعناية.

بعد الإشادة والإطراء بسياسة ترامب وعمله على تحسين مستوى المعيشة في بلده فإنه يرى من الضروري العمل على على تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين، حيث أنّ الأموال التي ستستثمر هي موزّعة على عدّة قطاعات مثل النقل والمياه والكهرباء والخدمات الرقمية والسياحة والتعليم والتصنيع والبنية التحتية بشكل عام، ولقد أشار إلى أنّه يعمل من خلال هذه الورشة لتغيير مسار التاريخ في المنطقة على مراحل، مطالباً الشعب الفلسطيني بالتفكير بمنطقية وواقعية أكثر.

كما وأضاف إلى أن هذا المشروع ليس كما هو متداول تحت مسمّى "صفقة"، إنمّا يأخذ طابعاً أكثر إيجابية، فهي فرصة القرن وليست صفقة.

ولقد طرح كوشنير تجربة العديد من الدول في ال 75 عاماً المنصرمة مثل سنغافورا وكوريا الجنوبية واليابان، بيرو والصين وبولندا، مضيفاً لضرورة تفادي الأخطاء التي وقعت بها هذه الدول أثناء نهضتها.

كما قال أنه يثمّن وجود الحضور لمواجهة التحديّات معه، وأنّ الحكومة الأمريكية ورئيسها ترامب ملتزمان لإيجاد مستقبل أفضل للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.

إذا طُبق هذا البرنامج على حدّ تعبير كوشنير فسيصبح بالإمكان زيادة قد تصل إلى ضعفي الناتج المحلي وتخفيض معدل البطالة.

يسعى الآخر لجمع 50 مليار دولار للبدء في المشروع من جهات عربية وأوروبية وأمريكية، بالإضافة إلى هبات وقروض مدعومة، حيث خُصّص 28 مليار للضفة وغزة و22 مليار لكلّ من الأردن ومصر ولبنان لتقوية الإندماج الاقتصادي بينهم بالإضافة إلى إسرائيل.

تضمّن تقرير كوشنير التسويقي 140 صفحة، غير أنّ القسم الذي عُرض على المشاركين في المؤتمر لم يتجاوز ال 30 صفحة، مضيفاً إلّا أنّ بقية المشروع متضمناً الجانب السياسي ستعرض بعد إنتهاء الإنتخابات الإسرائيلية في شهر سبتمبر/أيلول.

 ولقد استضافت الورشة نخبة من رجال الأعمال على المستوى العربي والدولي مثل الإماراتي محمد العبار والأمريكي ستيفن شوارتزمان اللذان أشادا بمشروع كوشنير وجهوده حتى استطاع تقديمه بين أيديهم اليوم.

لم يتجاوز حديثهما الربح والخسارة بالمشاركة بهذا المشروع الضخم والمعادلات الرقمية ودون أي تعقيب على قضية الإنسان في فلسطين.

ومع انتهاء اليوم الثاني والأخير، البارحة الأربعاء 26 يونيو/حزيران لمؤتمر المنامة، نقف على عدّة نقاط في الورشة التي تجاوزها صاحب فكرة المؤتمر كوشنير في طرحه.

الفعالية كانت أشبه بالإجتماعات المالية للشركات أو المؤسسات غير الربحية في طريقة عرضها المشاريع للحصول على أكبر قدر ممكن من المال، فكيف لكوشنير استبعاد الجانب السياسي في قضية فلسطين؟ فقد تداول الطرح وكأن المشكلة هي اقتصادية بحته وليست قضية أمّة، قدّم الطرح الإقتصادي وبدأ حشد الأموال قبل التطرّق إلى سبل حلّ القضية السياسية في المنطقة وهي التي تعتبر اللبنة الأولى لبدء أي مشروع اسثماري بالحجم الذي يقدّمه، وكأنه انطلق من المثل الشعبي القائل "طعمي الثم تستحي العين".

لقد انطلق بخطته من تجارب دول مثل سنغافورا وكوريا الجنوبية واليابان، بيرو والصين وبولندا، مستثنياً الجانب الإحتلالي القائم في فلسطين، فالأَولى أنّ تكون المقارنة بدول تشترك بالوضع السياسي مع فلسطين، وليس وضع دول خرجت من حروب بإستقلالية قرار سياسي كامل.

المؤتمر لم ينجح فعلي كما يسوّق له، هذا لأن العالم العربي لم يقدّم كثير من الحماس، حتى الوجود العربي مثل الأردن ومصر وهما اللّتان لديهما اتفاقيات سلام مع إسرائيل وتتسلّمان مليارات الدولارات سنوياً من الحكومة الأمريكية، اقتصرت على إرسال وفود رسمية مثل وزير أو نائب أو مندوب مثل قطر والمغرب، أمّا مشاركة إسرائيل فقد اختصرت على إرسال وفد صغير من رجال الأعمال. أمّا السعودية والإمارات فرغم انشغالهما بالتهديات الإيرانية إلّا أنهمّا تواجداتا بالظلّ، مع سعي الدولتان للتخلّص من القضية الفلسطينية، لأنّهما تطمحا لإستقطاب إسرائيل كحليف عسكري في الحرب معهما ضد طهران.

 هذا مع الرفض العراقي والسوري والكويتي والأهم الفلسطيني، وأستحضر هنا مقولة رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري تهكّماً على ما يدور في المنامة حيث شبهه بالعرس والجميع حضور عدا العريسين.

التاريخ في الشرق الأوسط مليء بوعود بمليارات الدولارات، والتي سرعان ما تتبدّد بعد مؤتمرات غاية في اللمعان، كما أن التجربة التاريخية في الشرق الأوسط تظهر أنه بدون حلول سياسية مستقرة، من السهولة جداً التراجع بأسرع من التصوّر عن التقدّم الاقتصادي.

على سبيل الطرح فممرّ العبور بين غزة والضفة الغربية، الذي أشار إليه الآخر في خطته تم تصوّره بالفعل سابقاً ووفق عليه عدّة مرات  إلّا أنّه لم يتحقق في العقود الثلاثة الماضية.

المحور الثالث وفي إشارة إلى المحور الثالث ألا وهو "تمكين الحوكمة" الذي لم يقدّم عنه أي تفصيل أثناء الورشة، الواضح للعيان من خلال الخطة بأن المقصود بالحوكمة هي سيطرة حكومة واحدة على المناطق الفلسطينية والإسرائيلية، ولا أظن أنّ هناك من يعتقد بأنّ هذه الحكومة المقصود من ورائها هي السلطة الفلسطينية.

ومعنا أثناء تتبعنا لمؤتمر المنامة في البحرين كانت الدول الغربية أيضاً تنظر إلى الجانب الآخر من الخطة، فانتقدت الصحيفة الألمانية "Tagesspiegel" خطة "السلام من أجل الإزدهار" حيث يمكن ترجمتها على أنها "أن تأكل أو تموت" أو "الأرض مقابل السلام"، بل "المال مقابل السلام". ووصفت الجريدة خطة كوشنير للسلام أنّها غير مكتملة الأركان.

ما أشبه البارحة باليوم، من وعد بلفور إلى وعد كوشنير ومن 22 مليار دولار للأردن ومصر ولبنان كفيلة أن تعيدنا إلى النكبة 1948م ومعها تأسيس دولة الإحتلال ومنح سوريا مبالغ شبيهة لتستوعب معظم النازحين الفلسطينيين. 

في موديعين والعفولة وكرم السلام، العنصرية واحدة والفاشية لا تتجزأ/ جواد بولس

 في خطوة نادرة أعلن الجنرال شارون أفيك المدعي العسكري الإسرائيلي العام، في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، عن اتخاذ قرار يقضي بشطب لائحة الاتهام التي كانت النيابة العسكرية العامة قد قدمتها بحق المواطن الفلسطيني، محمود قطوسه، ابن قرية دير قديس، متّهمةً إياه بتنفيذ جريمة اغتصاب طفلة يهودية تبلغ من العمر سبع سنوات.
 وتصدرت تفاصيل هذه القضية واجهات الاعلام اليهودي بكل قنواته، وتحوّلت  إلى مسألة رأي عام صاخبة داخل الأوساط اليهودية؛ بينما بقيت مهملة على رصيف "الشارع" العربي وذلك على الرغم من تفاصيلها المستفزة وتداعياتها الخطيرة بما تعكسه من مؤشرات حول "عمق" العنصرية الرسمية والشعبية التي تعدّت مرحلة اختمارها الفيروسي المخبري ووصلت إلى حالة من الجهوزية المسْخية الكاملة، المستعدة لاتمام مهمتها في شيطنة الفلسطينيين، وبضمنهم بطبيعة الحال نحن المواطنين العرب داخل إسرائيل، وملاحقتهم/نا ككائنات مضرّة من عالم الحيوانات والحشرات التي لا ينفع معها سوى الابادة أو الطرد أو الاخصاء،  على طريقة "الحلول النهائية" المعهودة.
قد يكون اليأس سببًا يبرّر للبعض ذلك العزوف الشعبي وعدم تفاعل قطاعات عربية واسعة مع ما رافق هذه القضية من مشاهد منفّرة ؛ وقد يدّعي آخرون أن لا جديد في عالم "العدل الاسرائيلي" المستحيل، فقبل اصطياد "قطوسة "وقع كثير من أبرياء العرب في شباك العبث العنصرية ؛ أو ربما لم تظهر لكثيرين العلاقة واضحة بين ما جرى في مستوطنة "موديعين عيليت" وبين ما جرى ويجري في مواقعنا وفي واقعنا.
فقد يعتقد قوم بيننا أنّ ما يجري "هناك" لا يعنينا "هنا" لاننا قد جبلنا، نحن المواطنين العرب، في الجليل وفي مرج ابن عامر وفي المثلث وفي النقب، من طينة أخرى وصار عودنا  أندى وعطرنا أفوح، كعطر الزعتر والسنديان.إنّهم مخطئون؛
وقد يختار غيرهم ألصمتَ أو يؤثر الانبطاح طمعًا برأفة الدب وبغفلته أو أملًا بغفوته. هؤلاء واهمون وحالمون؛ فنحن، أصحاب التين والصبار، يجب أن نعرف كيف نصمد ونمضي نحو شمسنا ولا " نلدغ من فرح مرتين"، وكيف نحمي الضوء في صخر كنعان، ونسهر، كالندى، في حضن نرجس عيونه لا تنام كي لا نسقط من حفاف القدر.
ما بين موديعين وعفولة وكيرم شالوم  
اعتقلت الشرطة الاسرائيلية محمود قطوسة في الاول من أيار الماضي وحققت معه بشراسة وعاملته، منذ اللحظة الأولى، كمجرم وكمغتصب. كانت حظوظه باثبات براءته، التي صرخ باسمها في كل جلسة تحقيق أو أمام قاض، شبه معدومة، فالفلسطيني،  منذ أيام "آدم"،  متهم بالخطيئة؛ ومن لا يصدق فليسأل شوارع القدس عن صليب "الناصري" وعن دموع مريم.
في السادس عشر من الشهر الجاري قدّمت النيابة العسكرية لائحة اتهام لا يستطيع من يقرأها إلا أن يتقزز  ويتمنى جهنمًا لكل "محمود وأحمد "؛ فلقد قام المتهم ، وفق ما جاء في اللائحة، في مستوطنة موديعين عيليت باغواء طفلة كان يعرفها من المدرسة التي يعمل فيها  منذ عشر سنوات كآذن، ونجح بجرها بالقوة الى بيت في المستوطنة حيث كان ينتظره هناك عدد من أصدقائه.ثم عرّاها على أصوات ضحكهم ورفعها بمساعدتهم فامسكوا بأيديها وبأرجلها وضربوها كي يسهلوا عليه تنفيذ فعلته المشينة.
ضجّت عناوين الصحافة والاعلام العبري بنبأ الكشف عن فلسطيني، بعقده الخامس، قام باغتصاب قاصرة يهودية بوحشية وبدون رحمة وهي تستجديه بعجز وببكاء.
لم يبق أحد لم يقرأ التفاصيل التي عملت معظم الصحافة العبرية على"تبهيرها"  وابرازها وهي مصحوبة بتحاليل محرّضة على مجموعة من "حثالات البشر" الذين قاموا بفعلتهم النكراء ليس لأنهم مجرمون ومنحرفون بل لانهم فلسطينيون نفذوا عملية ارهابية بدوافع قومية ضد طفلة يهودية غضة !  
شرعت جوقات السياسيين بتوظيف القضية من أجل تأجيج المشاعر القومية العنصرية اليهودية المرضية، مستهدفة، في فترة ما قبل الانتخابات، غرائز تلك القطعان المهيئة نفوسها على الانقضاض على جميع العرب.
لم ينتظر رئيس الحكومة حتى إدانة المتهم، وسارع  بعض وزرائه، مثل ايفيت ليبرمان، بالتأكيد على أن "هذه ليست بيدوفيليا (اشتهاء الاطفال) انما ارهاب خالص ، من اقسى انواع الارهاب .."  ومثله أكد أردان، وزير الأمن الداخلي، بأنه ليس لديه "شك بان المتهم في هذه الجريمة النكراء قد تغذى هو ومن ساعدوه على التحريض والكراهية التي يرضعونها لدى السلطة الفلسطينية بشكل يومي".
فرقعت العناوين المسمّة وامتلأت فضاءاتنا بطرطشات الأحمر ؛ لكنّها لم تكن الأنباء الدامية الوحيدة، ففي نفس يوم تقديم اللائحة شارك عشرات الناشطين اليمينيين اليهود وبينهم رئيس وأعضاء المجلس البلدي المنتخبين في مدينة العفولة أمام بيت عائلة عربية كانت قد نجحت بشراء بيتها في المدينة بشكل قانوني وعادي.
طالب المتظاهرون بطرد العائلة العربية في مسعى منهم لضمان نقاء مدينتهم وحماية روحها اليهودية، وذلك بعد أن أقسم الرئيس ومعه جميع الاعضاء بعد انتخابهم على أن يحافظوا عليها نظيفة من غير اليهود وألا يسكنها العرب.
وقف محمود قطوسة أمام القاضي وصرخ للمرة الألف أنه بريء لكنه كان كمن يصرخ في واد فلم يصدقوه، وأصرّت النيابة العسكرية على ضرورة اعتقاله حتى نهاية محاكمته.
لم تكتمل فرحة الظالمين هذه المرة. انحاز الحظ، على عادته، للضحية وذلك بعد أن تمادت  المنظمات اليهودية اليمينية خلال حملتها المسعورة وهاجمت بشراسة ما أسموه مؤسسات "اليسار اليهودي" واتهمتهم بالرياء وبالصمت المريب ازاء الجريمة. تحفز بعض الصحفيين وبدأوا يلاحقون تطورات القضية عن كثب فبدأت تتكشف لهم عيوب الرواية الرسمية ونواقصها وظهرت فيها عدة تناقضات واضحة. صار صراخ الفلسطيني مسموعًا لدى البعض وطغى العبث وفاحت روائحه من ثنايا الحكاية.
كبرت الشكوك وتعرّت الحقيقة، حتى لم تعد النيابة العامة قادرة على الدفاع عن موقفها، فاضطرّ المدّعي العسكري العام، بعد ازدياد موجات التساؤل والاستهجان، ان يعلن عن سحبه للائحة الاتهام والافراج عن محمود قطوسة بعد ٥٥ يومًا في الاعتقال .
لم يتحدّث الجنرال باسم العدل ولم يتطرق إلى حق الفلسطيني بأن يبقى بريئًا إلى أن تثبت ادانته. لقد كان همّه الوحيد أن يبحث لماذا فشلت عناصره بمهمتها وكيف أخفق المحققون في عملهم، فوعد بأن يتحققوا مما حصل ويستخلصوا العبر !
سيكون وعده صادقًا وستكتشف الهفوات وستردم الثغرات وستقفل الدوائر وسيصبح محمود  قطوسة آخر الأبرياء الأحياء.
نجا قطوسة بأعجوبة رغم سطوة القمع واستيطان العنصرية في عظام المجتمع وفي دهاليز مؤسسات الدولة؛ ففي نفس اليوم الذي تحدثت فيه الصحافة العبرية عن ابطال لائحة الاتهام بحق ابن دير قديس، نشرت جريدة "معاريف"  تحقيقًا عن ضابط بدوي (و.ه) دافع بجسده عن كيبوتس كيرم شالوم القريب من غزة، ونال، بسبب تضحياته الجسيمة وبطولاته الجمّة، أوسمة ورتبًا ونياشين.
ما كشفته الجريدة كان سرًا خبأه الضابط بدافع الخجل، فهو يشعر بالمهانة بعد أن رفض أهل الكيبوتس، الذي دافع عنه بجسده، قبول طلبه للانتقال مع عائلته والسكن معهم رغم أنهم نشروا  اعلاناً يستكتبون الراغبين بتقديم طلباتهم لدراستها.
لم تستغرق عملية الرفض، وفق ما قاله هذا الضابط، اكثر من لحظة انتهائه للفظ اسمه، فمباشرة أجابته المتحدثة "اسمع.. هذا لا يلائم مجتمعنا".
قد تكون تفاصيل هذه الحادثة مهمة وجديرة بالمتابعة، فلقد كاد الرجل أن يخسر حياته مرتين وهو يدافع عن سكان تلك المنطقة، وتبوأ، خلال مدة خدمته في الجيش والتي استمرت طيلة ٢٣ سنة مواقع قيادية مرموقة، لكنها ، وكما يقول بلسانه، لم  تشفع له فبقي ابن الحاء والضاد وهي حروفة غير مرغوبة في حلوق الأسياد العنصريين.
العنصرية لا تتجزأ والفاشية لا تتلكأ. وصل محمود إلى قريته فأجلوا فيها طقوس الحزن ليفرحوا به حرًا وجريحًا ؛ وبقي العقيد البدوي مع أوسمته الوهمية مواطنًا يغتسل في مهانته لأنه كان وسيبقى كائنًا طارئًا على مشروع لا يقبل القسمة على اثنين ؛ وستمضي مدينة العفولة نحو ظلامها وتغرق فيه كما غرقت كل المدن التي لاحقت فيها أشباح الموت سكانها اليهود وطردتهم وقتلتهم؛ وعلّق جلادوها، في الجامعات وفي المصانع وفي ساحات البلد للأحرار أعواد المشانق.