ماذا وراء الاحتجاجات المليونية في هونغ كونغ؟/ د. عبدالله المدني

منذ عودتها إلى الحضن الصيني في يوليو 1979 من بعد 150 عاما من الاستعمار البريطاني الذي تلا حرب الأفيون سنة 1842 وموافقة بكين على تأجيرها للبريطانيين لمدة 99 عاما، وجزيرة هونغ كونغ، التي كانت وطنا مستقرا ودرة من درر التاج البريطاني المزدهرة اقتصاديا وماليا وسياحيا  ويتهافت عليها كل شعوب آسيا أملا في حياة هانئة أو هربا من الفقر والملاحقة، باتت مسرحا للاضطرابات والمظاهرات المتتالية.

اختلفت أسباب هذه القلاقل من فترة لأخرى، لكنها كانت كلها ناجمة عن عامل وحيد هو عدم إحترام بكين للصيغة التي فرضت بموجبها سيادتها على الجزيرة، وهي صيغة "وطن واحد ونظامان سياسيان" بمعنى أن تكون هونغ كونغ جزءا من الوطن الصيني الكبير لكن مع احتفاظها بحكم ذاتي في إدارة شؤونها الخاصة عدا الشؤون الخارجية والدفاعية وذلك من أجل أن تستمر حياة الهونغكونغيين بالأسلوب الذي عاشوا به في ظل البريطانيين شاملا حقوقهم في اختيار قادتهم ومشرعيهم وحريتهم في التعبير.

المظاهرات المليونية التي خرجت في يونيو الجاري إلى شوارع الجزيرة وقوبلت بالرد العنيف كان عنوانها رفض مشروع قانون أقرتها رئيسة المجلس التنفيذي السيدة "كاري لام" تسلم هونغ كونغ بموجبها المعارضين والمناوئين إلى بكين لمحاكمتهم هناك بدلا من أن يخضعوا للمحاكم المحلية، وهو رفض أجبر السلطات الهونغكونغية لاحقا على تجميد المشروع والإعتذار عنه بما شكل انتكاسة وإهانة كبيرة لبكين). لكن الحقيقة أنها أتت ضمن سلسلة من المظاهرات والانتقادات التي لم تتوقف (ولن تتوقف مستقبلا) ضد بكين ومن يتبعون أوامرها في هونغ كونغ منذ بدايات عودة الأخيرة إلى الحضن الصيني، وذلك في قصة طويلة لم تـُكتب نهايتها حتى الآن على الأقل.

البداية كانت في عام 1997 حينما اختارت بكين شخصا لمنصب حاكم الجزيرة مطيع لها طاعة عمياء هو قطب الملاحة "تونغ تشي هوا" الذي عـُرف عنه تقديمه لمصالحه الخاصة وارتباطاته التجارية مع البر الصيني على مصالح شعبه. تلت ذلك مظاهرات عارمة في عام 2002  قادتها ما سمي بحركة المظلات الصفراء ثم مظاهرات أخرى سنة 2014. وتراوحت أسباب هذه الاحتجاجات مابين إتهام بكين بمحاولة إفراغ صيغة "وطن واحد ونظامان سياسيان " من محتواها المتفق عليه عبر تشديد القبضة الأمنية وملاحقة النشطاء السياسيين والمفكرين والاكاديميين والإعلاميين وتكميم الأفواه، على نحو المتبع في مدن ومقاطعات البر الصيني، أو عبر التدخل في أعمال المجلس التشريعي للجزيرة، أو من خلال فرض صيغ غير ديمقراطية لإختيار أعضاء ورأس  المجلس التنفيذي الحاكم من أجل أن يكون هذا المجلس خاضعا للحزب الشيوعي الحاكم في بكين.

إن الإجراءات التي طبقتها وتطبقها بكين في هونغ كونغ لم تقابل باللإنتقاد محليا وخارجيا فقط وإنما جعلت ايضا نسبة ضخمة من أبناء الجزيرة تتبرأ من أصلها الصيني وتنسب نفسها إلى هونغ كونغ فقط ،ودليلنا هو مسح أجرته جامعة هونغ كونغ في عام 2014 على إثر قرار السلطات الصينية بالسماح بالتصويت لاختيار الهونغكونغيين لقادتهم لكن ضمن أسماء تقررها لجنة خاصة مؤيدة لها. حيث جاءت نتائج المسح لتقول أن أكثر من 85 بالمئة من السكان يعتبرون أنفسهم هونغكونيين مقابل نسبة 15 بالمئة وصفت نفسها بالصينيين. وكان هذا دليلا قاطعا على أن أبناء الجزيرة يعتبرون أنفسهم مميزين عن إخوتهم في البر الصيني لجهة السلوك والتحضر والعلم والريادة. أما الاستطلاع الذي أجري في عام 2017 فقد كانت نتيجته أكثر خيبة لبكين إذ تقلصت نسبة أولئك الذين وصفوا أنفسهم بالصينيين إلى نحو 3 بالمائة، ولا سيما في أوساط الشباب ممن تتراوح أعمارهم ما بين 18 و38 سنة.

والحال أن بكين التي منـّت نفسها بفوائد عظيمة من عملية عودة هونغ كونغ إلى سيادتها سنة 1997 لم تهنأ يوما مذاك واضافت الى أعبائها عبئا جديدا، بل أن طريقة تعاملها مع سكان الجزيرة إنْ استمرت على حالها سوف تقوض إزدهار الجزيرة كمركز مالي وسياحي مدر للدخول والاستثمارات طبقا للعديد من المراقبين ورجال المال والأعمال. وفوق هذا لن تثمر سياساتها هذه عن نموذج قد يغري التايوانيين يوما ما لقبول فكرة توحيد الصينين الكبرى والصغرى.

د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوب من البحرين
تاريخ المادة: يونيو 2019 
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh

عبارة الهامش:
وفوق هذا لن تثمر سياساتها هذه عن نموذج قد يغري التايوانيين يوما ما لقبول فكرة توحيد الصينين الكبرى والصغرى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق