حُكم الساقط بين الكراسي/ ترجمة ب. حسيب شحادة

The Judgement of He Who Falls between the Chairs

في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها راضي بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (رَتْسون بن بنياميم بن شلح تسدكه هصفري، ١٩٢٢-١٩٩٠، أبرز حكيم في الطائفة السامرية في القرن العشرين، مُحيي الثقافة والأدب السامريين الحديثين، مُتقن لتلاوة التوراة، متمكّن من العبرية الحديثة، العربية، العبرية القديمة والآرامية السامرية، جامع لتقاليد قديمة، مرتّل، شيخ صلاة،  شمّاس، قاصّ بارع، أديب أصدر قرابة الثلاثين كتابًا وهي بمثابة مصدر لكتّاب ونسّاخ معاصرين، شاعر نظم حوالي ٨٠٠ قصيدة وأنشودة،  وهنالك باحثون كثيرون تعلّموا منه عن التقليد الإسرائيلي السامري. كان السامري الوحيد الذي سمّاه سيّد الباحثين في الدراسات السامرية، زئيڤ بن حاييم باسم: معلّمي ومرشدي) بالعبرية على مسامع ابنه الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقّحها، اعتنى بأُسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٦-١٢٤٧، ١٥ آب ٢٠١٧، ص. ٥٤-٥٧. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الراهن؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني. 

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة نسمة، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).

”لم نترك بلادنا قطّ

أعليّ أن أسرُد عليكم ما حلّ بالسامريين من اضطهادات كثيرة في كلّ العصور حتّى بداية القرن العشرين؟ ألا تعرفون ذلك؟ طبعًا تعرفون أنّه بالرغم من المصائب والمعاناة الشديدة، بقي السامريون مخْلصين لمسقط رأسهم في البلاد ولم يتركوها. حُكم ولّى وآخر حلّ محلّه والسامريون يعيشون هنا في هذه البلاد، التي أُعطيت إرثًا لبني إسرائيل في قَسم الله لآبائنا، إبراهيم وإسحق ويعقوب. وكان إبراهيم قدِ اشترى الحَرمَ الإبراهيميّ/مغارة المضّعفة من عفرون الحتّي بأربعمائة مثقال ورق نقد التجّار، سنَد الطابو الأوّل من بين الآلاف التي اندثرت مثل كلّ كنوزنا باستثناء النزْر اليسير. ومع تلك الوثائق أخذت قوّة الشعب السامري بالتناقص إلى أن أصبح عددنا أقلَّ من مائة وخمسين نسمة في بداية القرن العشرين.

يحُزّ في القلب جدًّا، إلى أن حصل انتعاش مفاجىء في الطائفة في الثُلث الأوّل من القرن العشرين، ولا سيّما تلك الدفعة إلى الأعلى بعد حرب حَزيران  العام ١٩٦٧ وما زالت مستمرة حتّى أيّامنا هذه، حيث يصل تعدادنا أكثر من خمسمائة بقليل. 

تناقص الطائفة لم يكن دائمًا نتيجة الضغوط والاضطهادات. كانت هنالك حالات من التسرّب الطوعي وبتعبير أدقّ توجّب على الطائفة أحيانًا أن تلفِظ بعض الضالّين لفظ النواة، أولائك الذين لهثوا وراء العيش في مجتمع آخر أسهل من الحياة بموجب قوانين التوراة، التي يتمخّض عنها في آخر المطاف مجتمع مؤسَّس على قِيم الاستقامة والمصداقية.

ولكن، دعْنا لا نبالغ في هذا الموضوع، ولنتحدّث عن أولائك الذين في الحِقب الغابرة. كانوا قد تركوا الديانة الإسرائيلية واعتنقوا الإسلام بسبب طيشهم وجشعهم. كان هنالك من تأسّلم من ناحية ومن تنصّر من ناحية أخرى. وإن لم يكن هذا موضوع قصّتنا لما كرّست له أكثرَ من كلمات معدودة وفق شأن الموضوع.

متأسلم طوْعًا

ولكن القصّة تبقى قصّة، ويجب سردُها ليعلم الجميع كيف كانت حالة الطائفة السامرية في تلك الأيّام العصيبة. أحد أولائك المتأسلمين، مهما كانوا قلّة، كان سعد بن عبد الفتاح الدنفي. والمسلمون آنذاك كما هم اليوم ينسبون، كما هو معروف، قداسة فائقة لمن ترك دينه وتأسّلم. إنّه في نظرهم وليّ أكثر من المولود مسلمًا لأنه اجتاز الاختبار الصعب في التغلّب على الغريزة الشريرة، التي كانت في ديانته السابقة، والآن بعد تأسلمه أصبح كلّه مخلوقًا صالحًا في القداسة. إنهم يُجرون له مسيرة كبيرة وينادون ”إركعوا“، إذ أنّه في نظرهم يجسّد النصر المبين للإسلام على كلّ الديانات الأخرى. هذا هو الواقع، ولا شيء غيره. ولم يتقبّل أبناء الطائفة دائمًا هذا الواقع الذي فُرض عليهم، عبور إخوة لهم من الدين الإسرائيلي الحقيقي لدين الحقّ  الإسلامي، وحتّى بعد تطبيق كلّ خطوات التأسّلم لم تتوقّف محاولات إرجاعهم إلى جادّة الصواب.

روى لنا آباؤنا أنّ سعد بن عبد الفتاح (سعد أبو الفتاح؟) تأسّلم طواعية، وهذا خلق مرارة كبيرة في أوساط الطائفة. كان يسكن في قرية ناقورة، وما زالت ذريته الكثيرة تعيش هناك إلى هذا اليوم. أحد أولائك كان إبراهيم بن فرج (مرحيب) صدقة الصباحي (هصفري)، من آباء عائلتنا كان حينئذٍ شابًا ولم يُعرف بعد عنه أنّه شاعر ملهم ولكنه كان معروفًا بالتصاقه بديانة إسرائيل والغيرة عليها.

ضربات شديدة مبّرحة

ذات يوم كان إبراهيم واقفًا في شارع سوق نابلس في عزّ شهر الصوم، رمضان، ورأى المتأسّلم سعد عبد الفتاح جالسًا بجانب مائدة بأحد المطاعم يتناول وجبة من الأرز واللحم. نسي إبراهيم لهنيهة تأسّلمَ سعد الفتاح ورأت عيناه سامريًّا يتناول الطعام في بيت أجانب. طالبه بحزم أن يفسِّر عمله هذا، فجاء الردّ وقحًا جدّا ”ما شأنك أنت/ شو دخلك إنت؟“. اشتاط إبراهيم غيظًا ما بعده غيظ. رفع عصاه وضرب سعد عبد الفتاح ضربًا مبرّحًا، ثم سار إبراهيم في طريقه، وهو يغلي ويرتجف غضبًا، وكله غيرة على دين موسى. 

بعد تلك الضربات، نهض سعد عبد الفتاح، وأخذ يصرُخ بلا انقطاع مستغيثًا: السامري ضربني، السامري ضربني!  تحلّق حوله الكثير من المسلمين، فاستغاث بهم ليقبِضوا على ضاربه إبراهيم. وسُرعان ما انتشرت الإشاعة فوصلت كلّ المدينة. ”إبراهيم صدقة السامري ضرب وليّنا سعد عبد الفتاح، لأنّه ترك ديانة الكفّار واعتنق دين الحقّ، الإسلام“. هكذا طارت الإشاعة من فم لأذن. استنفر سكان نابلس للانتقام من الضارب بمنتهى الصرامة. 

ضمن أولائك المسلمين تواجد بعضُ أعزّ أصدقاء إبراهيم الصباحي، وقرّر أحدهم مدّ يد العون له، لأنّه لم يصدّق أن سبب الضرب صحيح. توجّه إلى أحد وُجهاء المدينة ذوي النفوذ، طلب منه مساعدة السامري. قرّر كلاهما إنقاذ إبراهيم من  الجماهير المسلمة الغاضبة. دعا ذلك الوجيه وُجهاء نابلس الآخرين إليه،  وٱستدعي إبراهيم الصباحي أيضا. كما أُحضر سعد عبد الفتاح مكرّمًا، وهو يئنّ من ضربات عصا إبراهيم. كما حضر شيوخ الطائفة السامرية وكهنتها  الذين تخوّفوا من مصير ابن جلدتهم. بين تنهّد وتنهّد، لم يُخف سعد عبد الفتّاح المضروب المحطّم رضاه عمّا  سيحِلّ كما اعتقد بإبراهيم الصباحي. كان على يقين بأنّ إبراهيم سيلقى عقابًا مضاعفًا على كلّ ضربة من عصاه، ولكن ويا للعجب فوجىء الجميع بطريقة جلوس إبراهيم  وتصرّفه. إنّه لم يسلك كمن ينتظر قصاصًا شديدًا بل بالعكس تصرّف بثقة وبهدوء، أضفيا دهشة على كلّ الحضور. بدا هادئًا مسترخيًا تماما.

بدأ الاستجواب بسماع تهمة إبراهيم الصباحي، الذي جرؤ على ضرب وليّ مسلم، وهذا يستحقّ  العقاب. أضف إلى ذلك، أن سعد عبد الفتّاح قد شهِد أن إبراهيم السامري قد ضربه بدون أيّ استفزاز أو ذنْب اقترفه. 

حُكم الآكِل في يوم من أيّام شهر رمضان

”ماذا في جعبتك للدفاع عن نفسك يا إبراهيم السامري، إذ أنّك تعلم أنّه لا مسامحة ولا مغفرة لكافر يرفع يده على مسلم “، قال الوجيه لإبراهيم. أجاب إبراهيم ”يا سيّدي الفاضل المحترم، لا أدري كيف ستقبل ما سأقوله لك، وهل سيرضى عن ذلك كلّ الحاضرين، ولكن الأمر في نظري جدّ خطير ويتطلّب قصاصًا شديدا“. ردّ وجهاء نابلس بالقول ”قل ما لديك لنسمع“. أجاب إبراهيم الصباحي قائلًا ” ما فعله سعد عبد الفتّاح يجعل الإيمان بالله في خطر. سعد هذا، قد ضحك أوّلًا على ديننا السامري، والآن حاول أن يجعل من الديانة الإسلامية أضحوكة“. ردّ وجهاء نابلس باندهاش عظيم ”ماذا تقول؟“. أجاب إبراهيم الصباحي ”هذا ما أقوله والله شاهد عليّ. هذا سعد عبد الفتّاح قد خان ديننا، الديانة السامرية، وبالنسبة لكم قد قام بفعل الصواب في اعتناقه الإسلام. ومن المعروف أنّ إحدى فرائض ديانتكم الكبرى، هي فريضة صوم شهر رمضان. وهوذا في هذا اليوم، قبل الظهر رأيته يتناول الأرز  محاولًا  خدْع أبناء ديانته الإسلامية. ألا يُعتبر هذا العمل خطيئة كبيرة تستحقّ عقابًا قاسيا؟ لا يمكنكم التغاضي عن مثل هذه الفعلة“ ثم أردف إبراهيم الصباحي قائلا ”حتمًا ستسألون ما لي ولهذا الذي لا يسير وفق فرائض ديانة أخرى؟ وأقول لكم إنّي لم أقدر أن أطيق ما رأته عيناي- من خان ديني ومن يحاول خيانة دين آخر“. ثم ختم إبراهيم كلامه المفعم بالحيوية مضيفًا ”لم أر أيّة وسيلة أخرى سوى لزوم ضربه ضربا مبرّحًا على خيانته المزدوجة“.

وقف الوجيه المسلم، صديق إبراهيم فاغرَ الفم من شدّه ذهوله، وهكذا كانت حال جميع الوجهاء ولم يبق شيء سوى التحقّق من صحّة أقوال إبراهيم. التفتوا فورًا نحو سعد عبد الفتّاح مستفسرين، وهذا أخذ يتلعثم ولم يتمكّن من نطق ولو كلمة واحدة بِجلاء. أصدر الوجيه أمرًا بإلقاء القبض عليه، تقدّم نحو سعد عبد الفتّاح، أمسك بذقنه وفتح فمه بقوّة وقال إنّ إبراهيم صادق في كلامه. بعض حبّات الأرز بانت بين أسنان سعد عبد الفتّاح. ”هل تعرف ما حُكم من يخون دينه؟“  سأل الوجيه سعد عبد الفتّاح  بنبرة تنمّ عن السوء. 
 وقع سعد عبد الفتّاح  على وجهه وأخذ يقبّل صندل إبراهيم الصباحي متوسّلًا أن يخلّصه من الموت. وقد علم إبراهيم أنّ حكم من يبدّل دينه وَفق فرائض السامرة هو الموت، ولكن بالرغم من ذلك حنّ على سعد عبد الفتّاح وطلب من أصدقائه تخفيفَ عقاب سعد. استجاب صديقُ إبراهيمَ المسلمُ لطلب إبراهيم، التفت نحو سعد عبد الفتّاح  وقال ”بفضْل إبراهيم السامري، صديقي الطيّب لن نعاقبك بما تستحقّ من عقاب. يكفي جلدُك على ظهرك بحضور هذا الجمهور ثلاثين جلدة، كي يرى ويعرف الجميع عدم تناول الطعام في صوم رمضان “.

سعد عبد الفتّاح رُبط بعامود العار وجُلد ثلاثين جلدة، كان يصرُخ بفظاعة بعد كل جلدة. ثم أُنزل عن العامود مترنحًا  ولكنّ فؤادَه كان مفعمًا بالشكر والامتنان لنعْمة إبراهيم الصباحي. 
هذا هو حُكم الساقط بين كراسي الديانتين“. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق