الشاعر عزّ الدين المناصرة.. كلّما قرأته فاض حنيني.. وازددت عشقًا للأرض..
ذلك الكنعانيّ الرعويّ، المولود في الخليل، تحديدا في قرية بني نعيم، المكان الذي صقل رعويّته وانتماءه الأصيل للوطن، ليشهد الحادي عشر من نيسان عام ألف وتسعمئة وستة وأربعين ميلاد شاعر ولد ليكون. ليكون ذلك المتجذر عمقا الباسق فضاء. ذلك الذي ما انفكّ يستفزّ بطون الكتب حتى يأتيها مخاض تتولّد منه مكنوناتها التراثيّة الثوريّة التاريخيّة.
إنّ الشاعر انعكاس حقيقيّ لمرآة الواقع، والشاعر الحقيقيّ هو الذي يجسّد تجاربه لتنبض صورة حيّة تقنع القارئ بفحوى الحبّ والألم، الانتصار والهزيمة، الوجود واللاوجود.
استقى المناصرة موضوعاته من كل جزئيّة عاشها، وألبسها الزيّ الفلاحيّ الرعويّ الممزوج بكل تقنية الإبداع وما شابهه؛ ليبدو للرائي خريطة وطنية تعكس عراقة هذا الشعب وتجذره بتاريخه وهويّته التي تأبى إلا أن تكون.
لقد وظّف المناصرة الرمز التاريخيّ والموروث الحضاريّ توظيفا غدا أسطورة تستحضرها الأذهان كلّما ألمّ بها ضيم أو طالتها يد الكيد التي تبطش بسطوة المتجبرين في هذه الأرض. أولئك الذين ظنّوا أنّ الحضور الوطنيّ فينا مجرد شعارات، ولم يدروا أنّ الأمهات هنا ترضع أبناءها معنى الوجود ودلالاته، ترضعهم الرفض لكل أشكال الذلّ والخنوع والتبعيّة ليظلّ - وهو المسلوب الأرض- قويّا بإيمانه أنّه صاحب الحقّ بلا منازع.
لقد حملت رعويّاته الكنعانيّة فيضًا من بساطة الفلاح، وحبّه للأرض والقمح، للكروم للعنب للآبار، لذلك الصوت الآتي من البعد النازف شوقا وحنينا.
لقد أحبّ الغيم والمطر، أحبّ الندى حين ترامى عشقا على عشب الطرقات.
لم تكن تلك التفاصيل البيئيّة عناصر طفولته وصقل شاعريّته فحسب، لكنّها كانت تقرع طبول الواقع وتفضح المؤامرات التي تسللت نواتجها من ضعفنا لتطعن خاصرة القضيّة في العمق.
ولم ييأس شاعرنا بل حمل لنا الأمل القادم مع الحشود العربيّة الكنعانيّة القادمة على طريق الفتح:
أقول لها:
غدا تأتي
حشود من بني كنعان
لقد حمل الكنعانيّة شعارا، حتى بات ملمحا هامّا يتميّز به شعره. لقد جاءت الكنعنة في شعره لتعبر عن ارتباط عميق برموز التاريخ والوجود الحضاريّ. فهي تعني تماما الالتصاق بالأرض جاءت ردّة فعل واستجابة نفسيّة ضد إلغاء الوجود. فهي الملحمة الكبرى في ظلّ التيه العائم على سطح التاريخ الحاضر كما أرادوه لا كما هو حقيقة.
حيث لا تسمع المرحلة
حيث لا تسمع الوردة الذابلة
حيث لم تسمع لصراخي العتيق الخيول
سأخلع كرمي وعشب نجيلي
إذا صافحت قاتلا أو قتيلا
هوى في هوى الملك والصولجان
يقول المناصرة:" كنت أشاهد آثار أجدادي الكنعانيين ماثلة أمامي وكنت أسمع صهيل الجغرافيا وصهيل التاريخ يوميا"
إذن الكنعانيّة أصبحت في نصّه الشعريّ وثيقة تنصّ على أحقيّة الأرض وإنكار الآخر الذي جاء مدعياً أنّ له حقّاً فيها.
جدي كنعان لا يقرأ إلا الشعر الرصين
جدي كنعان بحّار بدويّ
أنا من سلالة كنعان جدّ البحار
وأنت ابن من!!
وفي مزج تركيبيّ اللفظ عريق المغزى والدلالة يأتي المناصرة بعنوان " كنعانياذا " بمسمّى عملاق، عنوان بحدّ ذاته ملحمة، ملحمة بين الحقّ والباطل، بين الوهم والحقيقة. نعم لقد كان العنوان بوصلة تعرف وجهتها تماما.
من خاصرة البحر الشرقيّ يكون الأردن
ومن البحر الغربيّ تكون فلسطين
يا هذا
إن نادانا كنعان
ومن مذكرات البحر الميّت ذلك العنوان الذي اعتلى قصيدته النثريّة يقول:
وتفكّ أمي ضفائرها مثل كلّ الكنعانيّات
في أوّل إبريل تلبس ثوبها الرماديّ
وفي الثاني من تشرين الثاني ومنتصف أيّار تماما
تبحث هذه الأيّام عن لون اشدّ حلكة
للشهر الذي يليه
ثمّ يقف متسائلا يغذّي الجرح الذي لا يندمل:
أين إذن حنظلة وكنعان
-الأوّل: قبر في لندن
- الثاني: شعر ممنوع يركض في التيه.
جفرا....
ذلك النمط الغنائيّ الذي يحمل أبعادا لا تعرف حدّا، ارتبطت جفرا بالذاكرة الفلسطينيّة لتحمل دلالات واضحة لكل عناوين التضحية والعطاء والمرأة والأرض والوطن. لقد اختزلت جفرا عمقا للرمز الوطنيّ والتراثيّ.. ذلك العمق الذي رسخ في ذاكرة الوطن.
يا جفرا النبع يا جفرا القمح يا جفرا الطيون ويا جفرا
الزيتون.. السريس.. الصفصاف
البحر الجميل يا جفرا
لقد اتكأ المناصرة على جذع التاريخ والهويّة وقف كما الشاهد على عمق هذه الحضارة، وأبى إلا أن تتعاقب شهادته كما الفصول على امتداد الزمن حكايات تلهب حرارة الصيف وتقرص كبرد الشتاء.. ليبقى الأمل بالربيع عشقا أبديا يروي زوايا الحنين بحضور الوطن مع كل نسمة ربيعية الهوى تلاشت قبلها خيبات الخريف كأوراق ذهبت أدراج الريح كلما سطر عليها العدوّ رهانه بالنصر.
إنّ الرعويّات الكنعانيّة حصدت من رحم الألم موفور الحصاد فجاءت تلبي حاجة نفسية لترفد اتجاهاته الشعريّة بحداثة الماضي المتجدد، فيفجّر ينابيع اعتزازنا. فمنسوب الوعي التراثيّ في امتداد يتابع وقع كلماته التي تتسلّق كدالية العنب فتتدلّى منها قطوف الشهد ليمحو مرارة الوجع القهريّ المنصهر على أكبادنا صباح مساء.
هذه الثمانية عشر عاما التي عاشها في فلسطين كانت كافية لتشحن أحاسيسه عمرا لا تفتأ ذاكرته ماثلة دون أن يطالها عثّ الزمن. أنظر إليه يخاطب عنب الخليل محرّضا إيّاه ألا يثمر في ظلّ احتلال.. يقول في قصيدة " يا عنب الخليل ":
خليليّ أنت يا عنب الخليل الحرّ.. لا تثمر
وإن أثمرت كن سمّاً على الأعداء.. لا تثمر
إنّ المشهد الرعويّ في صوره الشعريّة مستوحًى من الريف، في تصوير على بساطة عناصره إلا إنّه يفيض إحساسا بالألم ولوعة الحنين، يفيض قهرًا استوطن معالم حرفه كما استوطن أزقّة قلبه.
لقد كان استحضاره لمشاهد قريته استحضاراً يشتمّ منه رائحة الأرض فيتأوه عشقاً واشتياقا. فقد وقف على الأطلال في ظلّ مشهد الغياب وبكى المنازل بكاء العاشق الملتاع :
يا ساكناً سقط اللوى قد ضاع رسم المنزل
ويصرّ أن تبقى الأرض والزرع والبلوط والطيون.. الدالية والجبل صورة الوطن الموغل في نسب الجد الكنعانيّ.. يقول:
في بلاد كنعانيّة تعشق الأرض والزرع
قال الراوي في تربة كنعان
كان البلوط السريس الطيّون وأشجار السنط
وحبّات الرمّان
في زمن الأجداد الموغل في الأرحام
لقد نصبت فرحا في سفح الجبل العالي
ولدت دالية الكرمل في تربة كنعان
وفي تناوله للأرض والزرع لم ينس الشاعر أن يستدعي سهل مجدّو لما يحمله من دلالات تاريخيّة دينيّة، هناك حيث مارس كنعان طقوسه الزراعيّة في سهل يعدّ هو الأخصب في فلسطين:
وأوزّع قافيتي وخيولي بين مجدّو... ومجدّو
في سهل مجدّو يرتفع العَلَمُ الكنعاني
الأخضرُ زرعي، داسوه بجرّافاتْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق