قليلة هي النصوص التي لها القدرة على دغدغة مشاعر المتلقي وتقاطعها وتشابكها في لحظة ما مع الأنا عبر وسائل الاتصال الجمالى التي تحفز مخيلة المتلقي ليقوم بجمع كم هائل من الصور الشعرية المنعكسة من نص ما أو مجموعة نصوص عبر شظايا مرآة متكسرة ليقوم المتلقي باعادة تكوينها بطريقة تشبه لعبة الميكانو بناءً على حسه ورؤيته.
هذا ما يميز نصوص الشاعر مكرم غصوب في مجموعتيه (نشيد العدم ) الصادرة من دار فكر للأبحاث والنشر عام 2013 و(الطارق) الصادرة من دار النهضة العربية عام 2017 ، كونها تعبّر عن مقصدية جمالية وفلسفة وجودية نابعة من عمق ما أكتسبه من الاجابة على تساؤلات الوجود الإنساني وخبرته في حياته اليومية .
لذا تميزت تجربته بمعطيات مجازية وتنافرية في أحيان أخرى استوعبت التجربة والرؤيا ووجود الآخر..من خلال مجموعة صور متوهجة تحوم في دوائر أو مدارات كدوران الألكترونات حول النواة في مدار الذرة من غير ان تلامسها أو تتقاطع معها كما في نصه السادس من النشيد الأول للمجموعة نشيد العدم :
دائرة ... دوائر
أدور حتى العدم
أغيب
في البعيد البعيد
أظهر في القريب
وهكذا في النص الأول من قصيدته ( النشيد الأول ) من مجموعته الطارق :
ابتعدي ابتعدي عني
لتقتربي مني
ابتعدي عني حتى التوحد بي ...
تعالي ، تعالي نلتق في الطريق
ولنترك الوصول وراءنا للآخرين
وعند مقاربتنا لنصوصه وجدنا إن الاستعارة المجازية والتنافرية تشكل إحدى التقنيات التي ارتبطت تمظهراتها بتجربة الشاعر فجاء بناء القصيدة لديه على تظافر مفاصلها وتمثلاتها ضمن مفهوم العدم والوجود ، إذ تتحوّل هذه الرؤيا الى هاجس، تعكس تحولا مهما في تجربته كما في النص الثاني من قصيدته ( أنت هي ، أنا والعدم ) من مجموعته نشيد العدم:
في ارتماء البحر على قدميك رسم لظلي
في ظل البحر ، أوقدك وشمسي بالعدم والماء !
في كل موجة ، اشتياقي للموجة التالية ...
وأنا على يقين أن الأمواج لا تنتهي !
وهكذا في نصه (5) من قصيدته النشيد الاول من مجموعته الطارق :
إثنان أنا
العائد الى غده
والنائم في أمسه
إثنان أنا
فراشة تشتهي النور
ونار تلتهم الفراشة
فكثيرا ما يقيم الشاعر لغته على الثنائيات المتقابلة المتشابهة أو المتنافرة والتي سرعان ما تتلاحم وتتتوحد فيما بينها في الصورة الشعرية لتنسج علاقات جديدة بين أجزاء الصورة الفنية ، بحيث تكون مكونات النص كّلها تتآزر وتتناصر لانتاج الصورة الكلية للقصيدة التي قامت على جملة من التعابير المجازية .
الشاعر من خلال جمعه لمجموعة صور تنافرية في نصه الواحد أو نصوصه لهي من تقنيات الكتابة الحديثة حيث يوظفها لغرض خلق التوازن الداخلي كما في نصه (93) من النشيد الثالث من مجموعته الطارق :
عند انهيار السقوف لا يحميك إلا العراء ...
وعند انهيار السماء ، لا تلتقط أنفاسك بالوقوف قبل الانتهاء ..
لن ينتهي الدوران
# # #
وهمان
الوقت وأنا
وجهان لكذبة واحدة ...
كيف لا ... وكل الأفعال تؤول الى " كان"
ربما نتساءل ما الذي يربط بين هذه الصور والتي تبدو مبعثرة أو أنها انعكاسات لأجزاء صورة من خلال شظايا المرآة ، فهذه الصور لا تولد من فراغ ، وإنما هي وليدة موقف نفسي وثقافي يعيشه الشاعر وتقوم في جزء كبير منها على التجاذب والتنافر فيما بينها تربطها فعل "الدوران" في المتاهات أولا و"كان" بمعنى ترسبات الماضي ثانيا ليخلق النص ايقاعه من تأويلهما فتجبر أبعد الأشياء عن بعضها على التقارب والترابط من خلال نسيج رفيع من الدوران في المكان ذاته مما يثير المتعة والدهشة والجمال لدى المتلقي.
فالشاعر في كثير من نصوصه يجرد الاشياء من بيئتها ويحولها الى صور حسية جزئية متحركة من خلال انعكاسات شظايا المرآة المتكسرة ، لذا تجدها ( السقف والعراء ، انهيار السماء والدوران ، الوقت وأنا ) مبعثرة ومتنافرة أحيانا ، وهي تتجاوز واقعيتها صوب حلمية متوهجة مما تتطلب جهد فكري وذوق فني من القارئ ليجمع هذه القطع برموزها وموحياتها الوجودية ليعطيها دلالات عصرية كي تكتمل لوحته المشهدية المتحركة من خلال طابعها السردي والمتفاعلة مع فكرة الوجود الانساني بتداخل هذه الصور المستمدة بعضها من الفكر الميتافيزيقي وأخرى من الأحداث التي يعايشها الشاعر ليضفي عليها قدرا من الاثارة والتوهج الناتجان من تداعياتها الوجودية كقوله في نص ( 8، 14) من النشيد الأول في مجموعته نشيد العدم:
حين تدركين انك لست محور الوجود
تصبحين محورا لوجودي
# # #
كلما تحسست استدارة نهديك ،
أيقنت حميم العلاقة بين الوجود والدوران
وأعدت النظر في مسألة فطامي ،
فأرضعيني أنا "الرجل الطفل" لبن الغياب
حتى يكبر في الـ (لا أحد)
وهكذا في النص 4 من النشيد الاول من مجموعته الطارق:
أعشق إمرأتين
الأولى لا تتكرر
الثانية أتكرر بها ...
# # #
أعشق إمرأتين
الأولى حَبِلت بي
الثانية أنجبتني
ففي النص الأول يقيم علاقة وجودية بين الوجود ونهد المرأة والتي لولاها لأنعدم الوجود وفي النص الثاني يقيم العلاقة ايضا بين المرأة والوجود ...
هذه الصور الثنائية بتكثيف جملها المقتصدة في الفاظها والتي تربطها وحدة عضوية من خلال تداعيات وجودية..وهي تعتمد ايقاعها وموسيقاها الداخلية من خلال خروج مفرداتها الى معان غير مألوفة وتشظياتها الناتجة من الحركة وتتابعها .
فالشاعر يقوم بترتيب الأشياء حسب رؤيته الداخلية وليس حسب الواقع الذي يعيشه، لذا نراه يخلق لنا مفارقاته من خلال اعتماده على ثنائية تربطها علاقات قد تكون منطقية أو لا منطقية .
فمن ناحية الشكل تحمل نصوصه نضجا فنيا واضحا في الصورة ، واللفظة الموحية لتكون قادرة على التأثير، وطرق وجدان المتلقي، ، ليكشف عن حالة تأجج نفسي، وانفلات وجداني، يحمل ملامح الواقع الذي نعيشه ، وهو ينتقل من مرحلة لاخرى فتحولت صوره من بساطة ووضوح في مجموعته (( كذبة صدق ) الصادرة عام 2008 باللغة اللبنانية المحكية وكما في قصيدته (مجنون) ، يقول:
ها المجنون
عم يِرسُم الأحلام
والمقعد الأزرق
عَ مفرَق الأيام
بَلكي الدني بتضحك
إلا أنه في مجموعتيه ( نشيد العدم ) و ( الطارق) انتقلت صوره الى التكثيف والمجاز .
ففي قصيدته (ضبابية القدر ) من مجموعته نشيد العدم يقول :
للصمت أصوات عدة ،
يا من ظنّه أحادي الوتر!
الشمس ، الصحراء
البحر الريح ... ضبابية القدر
وفي النص ( 100 ) من النشيد الثالث من مجموعته الطارق يقول :
في السكون تسكنينني بحركات ثلاث
# # #
الحب أن احظنك لتنامي في الحلم
ان تحظنينني لتصحو فيّ الأحلام
# # #
اجمل ما في الحب أنت
الشاعر في مجموعتيه الأخيرتين اِنحاز الى اسلوب الانزياح؛ ليعمق من مسافة التوتر، واللامألوف بين مفردات اللغة، منتجا علاقات جديدة ، تحمل معاناة الشاعر، وأحلامه المتصاعدة، وخاصة في المجموعة الثالثة حيث تشابكت دوائره المتناقضة / أو المتداخلة بفعل تنامي الوجود في العدم فرسم لنا الشاعر لوحاته المشهدية المشحونة بتموجات جزيئاته المسكونة بين الواقع والحلم، الوجود واللاوجود ... باعتماد الكثافة اللفظية والسردية والتي تتكيء على إشتغالاته على صور ترسخ لمعاني متشظية لا تكتمل إلا بعد جمعها وتأصيلها في دائرة التصورات الوجودية للانا والآخر.
مهارة الشاعر مكرم غصوب تكمن في صياغته الشعرية، ودأبه على الاختزال، والعناية بالتصوير، وفي النظر الى الأشياء الرامزة التي يتشكل منها مشهده الشعري، فهو ليس معنيا بالغناء لذا اِبتعدت الكثير من نصوصه عن الغنائية والشعرية ولا حتى في القص حيث تجدها خالية من السرد الممل ، قدر عنايته بجمع مجموعة صور فلسفية أو حكمية مختزلة في نص واحد ولا يهمه إن كانت هذه الصور منسجمة أو متنافرة فهو يشبه الفنان الذي يجمع لنا في لوحته عدة دوائر أو مكعبات أو مثلثات لكل منها لونها الخاص مكونا لوحة فنية تجمع عدة عناصر ، تجمعها فيما بعضها علاقات دلالية، أو حتى تأويلية من حيث الوجود واللاوجود.
كقوله في النص (13) من النشيد الثالث من مجموعته الطارق:
تمتد كل الأيادي للمس جسدها العاري
والأصابع بعد رعشة أو حنين
يتأوه العمر لحظة بعد لحظة
في مستحيل اللمس نشوته
وفي تعداد السنين
وما يجعل صوره الشعرية تتجه نحو القوة هو توظيفاته الأسطورية لما ارتشفه من أساطير السومريين والبابليين والكتب المقدسة و.. فيقوم باستدعاء شخصوها لتعميق فضاءاته المتخيلة؛ لابراز عمق الحدث لديه ؛ فيأخذ من الفعل الاسطوري المركز الذي يستند وينطلق منها لتعميق الرؤيا بمنطق شعوري عميق، كقوله في نص (11) من النشيد الأول من مجموعته نشيد العدم :
وقفت بين العاهرات
أبحث عن عشتار
او إحدى مومسات أوروك
ناداني الخمار ، طالبا مني أن أختار
بين دم ديموزي ودم مردوك
أو في النصوص (21) من النشيد الثاني من مجموعته الطارق يقول :
ما زالت الشعوب تعفو عن بارابس
لأنه مكتوب أن يصلب المسيح من أجل خلاصها
المسيح لم يقم ... ما زال مصلوبا
أو في النص 24 النشيد الثاني من مجموعته الطارق:
كان خمبابا يحرس خلود الأرز لكن الدين القديم أجاز قتله على يد كلكامش
طالب الخلود الشخصي
أو في النص 27 النشيد الثاني من مجموعته الطارق :
التفاح ما عاد يخطئ والتين ما عاد يستر ، والشيطان ما عاد يغوي
فيما مضى لاحظنا كيف أن الأسطورة تغلغلت في المنظور الرؤيوي للشاعر؛ لتمنح قصيدته أفقها التأملي المفتوح ؛ فمن خلال الإشارة الأسطورية إلى البطل تتعزز دلالة الرؤية لديه ، وتتضح أبعادها ، فتتجسد في نصه مفهوم الانحطاط والخطيئة والفساد المستشري بين البشر و... فاعتمد على الحدث الأسطوري بوصفه رابطاً نصياً أو رؤيوياً يشد أواصر النص، ويعمق الرؤيا ومسارها الفني .
ربما راودته نفس الأحلام التي راودت كلكامش الباحث عن الخلود فدون هواجسه على الورق بكلمات تسري في نسغ القصيدة لتشكل ملامح تكوينها الأول في زمنها المطلق .
إلا أن ما يأخذ على بعض من نصوصه إنها تخلت عن الشاعرية كليا فتحس وكأنك تقرأ تقارير أو حكايات يومية كما في نصه 141 من النشيد الثاني من مجموعته الطارق :
فتحت سجلا قديما ، عمره مئات السنين ، يحتوي على أسماء أبناء ضيعتي ، أسماء مرقمة دون آية دلالة عن القدير في ذلك الزمن أو الطاغية أو الفقير أو ....
وهكذا في النص 142 من النشيد الثاني من مجموعته الطارق :
للعبثية وجهان ، العبثية المدركة التيي تتحمل أكبر مسؤولية إنسانية في قتل المسخ البشري فينا وخلق الانسان والعبثية الجاهلة التي تحطم البشري والأنسان على حد سواء
نصوص كهذه كان من الافضل أن لا يضمها الى مجموعاته كونها لا يمكن اعتبارها حتى خواطر .. وهكذا في النشيد الثاني من مجموعته (نشيد العدم ) وحتى النشيد الثالث الذي هو بالمحكية اللبنانية كنت أتمنى لو فصلها الشاعر من كتابيه .
وفي الختام أقول :
الشاعر مكرم هو مسكون بالقلق ،والتوتر، لذا أثارت نصوصه العديد من التساؤلات الضمنية ، من أجل تحفيز القارئ ليتأمل المشهد كي يتجاوز نطاق الواقع، ويرتاد فضاءات المستقبل ، وهنا تكمن لذة التلقي من خلال خلق متعته من لذة اجاباته لهذه التساؤلات ، كقوله في النص (117) من النشيد الثالث لمجموعته (الطارق ) :
من نحن ؟ من كنا ؟ من سنكون ؟
الجوابُ ضبابُ
والسوال العيون
وأجمل ما في الضباب
لعبة الاختفاء – الظهور
المدى كتاب والعين ريشة حبرها النور
ويميل الشاعر مكرم الى استخدام مجموعة من صور تبدو لك في بعضها وكانها غير منسجمة الا انها تكون ذات علاقة وطيدة بحياتنا اليومية، خصوصا عندما تثير في دواخلنا تساؤلات مشروعة في الوجود، مما يسمح للصور الشعرية بالتوالد والانصهار بداخلنا .كاجابته للأسئلته السابقة :
نحن النسور لأنك أنت السماء
نحن الجذور لأنك أرض ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق