لا يجرؤ كاتب عربي أن يتحدث عن علاقته بالناشرين، هذه هي الحقيقة، في الحقيقة لا يجرؤون على أن يكثروا من أعدائهم، ليس لأنهم مسرورون من تعامل الناشرين معهم ومع كتبهم، بل لأن وضع الكاتب العربي مأساوي جدا، فهم لا يعيشون على إنتاجهم، ولا يطمعون أن يصبحوا أثرياء من وراء الكتابة. فهم لا يوقّعون العقود مع الناشرين بمئات آلاف الدولارات كما هو الحال مع الكتاب الغربيين، لا يطمعون بأكثر أن ينشر الناشر لهم كتبهم ولا يدفعون ثمنا لذلك. فإذا استطعت، أيها الكاتب، أن تجد ناشرا حكوميا أو خاصا لا يكلفك ثمن طباعة كتابك، فأنت بالفعل تكون قد حققت إنجازا كبيرا، وعليك أن تفاخر بذلك فخرا زائدا. فالناشر والكاتب كلاهما يعيشان أوضاعا صعبة، وحجة الناشر دائما لا قراء يقرؤون، والكتاب لا يباع وتكدّس نسخه في (كراتينَ)، مع الزمن ستتلف من الرطوبة، أو تأكل أوراقها القوارض النهمة.
الكتّاب الكبار لا يعانون في حقيقة الأمر، فقد استطاعوا تدبّر أمورهم مع الناشرين والقراء، واستطاعوا عبر صيغة خاصة أن يسوّقوا بضاعتهم بسلاسة. إنما تزداد المشكلة تعقيدا مع صغار الكتّاب ذوي الأحلام الرومانسية في أن يصبحوا كتّابا، ويحوزون لقب كاتب أو شاعر أو روائي، لذلك تراهم مسرورين لو أن ناشرا رضي بطباعة كتاب لأحدهم، حتى إن كان هو نفسه الممول للطباعة وكل ما تحتاجه صناعة الكتاب من مراجعة لغوية وتحرير أدبيّ، وفي حالات كثيرة الكاتب نفسه هو من يقوم بتسويق ذلك الكتاب. الناشر يريد أن يظل حاضرا في سوق الكتب، والكاتب يعيش وهمَ أن يكون له كتاب، لذلك تصبح معادلة: "ادفع لتصبح كاتباً" معادلة متوافقا عليها من كلا الطرفين، توافقا يصل إلى حد التواطؤ غير الأخلاقي في الحقيقة.
أنا شخصيا لولا هذه المعادلة لم أطبع أي كتاب إلى الآن، ولم أصبح بالتالي عضوا في "اتحاد الكتّاب"، وبعد التعديل الأخير للقانون الأساسي فقدتُ هذه الميزة، لم يعد مهمّا بعد هذا التعديل أن تنشر كتابا، كل كاتب من الآن فصاعدا له عشرون من النصوص المنشورة إلكترونيا يستطيع أن يصبح عضوا في هذه المؤسسة، سيتكاثر الكتّاب إذن، ويصبحون سبباً رئيسيا لتحقق العدالة الثقافية.
أتذكر ردود أفعال الناشرين عندما كنت أعرض عليهم مسودات كتبي. فأضطر تحت ضغط الوهم أن أدفع لأنشر، أكون راضيا، بل سعيدا. فأنا في النهاية لست سوى كاتب صغير لم يسمع به أحد، وكتبه كاسدة. ويشكّل كل كتاب أنشره ضغطا نفسيا على الناشر، ولأنه لا يحب الدخول في مغامرة الخسارة الكبيرة عليّ أن أوافق بتمويل كتبي.
كثير من الكتّاب يركنون في الظل مع مسودات كتبهم، لأنهم لم يجدوا ناشرا يعينهم على تحمّل أوهامهم معهم، وكثير من أصدقائي الكتّاب يلومونني على ما أقوم به. أحدهم يصارحني وينعتني بالمجنون، فهو ليس مستعدا أن يدفع فلسفا واحدا من أجل هذا الهدف الذي هو نبيل في عين الكاتب، وفي عين غيره لا يعدو أن يكون هبلا، وفي حسابات الناشر فرصة واستثمارا!
تعرفت على كتاب كثيرين بفضل الفضاء المفتوح بكل منصاته الإلكترونية. بعضهم يبادر في أول فترة تعارفنا، وهو يرى سعادتي بالإعلان عن طباعة كتاب جديد لي، مستفسرا عن دور نشر لتطبع له كتابا، وعندما يعلم أنني أطبع كل تلك الكتب على نفقتي الخاصة يصمت ولا يعيد عليّ الاستفسار، وربما لم يعد من ضمن معارفي. تنتهي العلاقة هكذا كما بدأت. فكل كل كتاب من كتبي يشكّل حكاية خاصة مع ناشره، ليس في تلك الحكاية أي جانب يجلب السرور للكاتب المتخفز للنشر مجاناً.
الناشرون مساكين في العالم العربي، والقراء كذلك، ولكن الكتّاب بائسون جدا، وخاصة الكتّاب الصغار، ولاسيما الكاتبين، وتبدو الكاتبات أكثر حظاً من الكتّاب، خاصة من أوتيت حظا من الجمال، وكانت ذات صداقات مع الناشرين أو الكتّاب الكبار الذين يسوقونهنّ للناشر لأهداف ربما بدت غير أدبية. فهن أقدر بهذه الشبكة من العلاقات على التسويق، وألا تتكدس الكتب في مخازن دور النشر. المصلحة في الحقيقة هي العملة التي تُسيّر كلا الطرفين. لا عيب في ذلك إنه القانون الذي يجبر الكل على الخضوع له طواعية أو كراهية.
الناشرون كذلك يعشقون الرواية، ويهشّون ويبشّون لكل عمل روائي، يقبلون على نشر الروايات إقبال المهووس النهم الذي لا يشبع، يذهب الشعراء والنقاد والساردون غير الروائيين ضحايا هذا العشق القاتل. أصبحت الساحة الأدبية قاحلة إلا من الرواية، فالرواية كالوجبة ذات الرائحة الذكية، والمنظر الجميل، وإن كان مآلها تسمم ثقافي لجمهور الآكلين من القراء والكتّاب والناشرين، إلا أن من يتناولونها من هؤلاء كثيرون، وإن أصيبوا بالتخمة السردية سيظلون يتناولونها في وجباتهم الثقافية كتابة ونشرا وقراءة، ويكفيك أيها الشعر مساحات الوهم في الفيسبوك، مع أنك لم تسلم من نقاد منتقدين يرون شعراءك والهاذين بك مفسدين للذائقة الأدبية، ويتهمونك وإياهم بالرداءة، وأن نصوصهم ما هي إلا نصوص "بائسة" لا تصلح للقراءة والنشر. وهكذا صنع هذا العرف وهما مواكبا لوهم الرغبة الأولى في أن يصبح المرء كاتبا. وتراجع كل أدب إلا من الرواية التي تتقدم كأنها "البلدوزر"، تهدم كل شيء، لكنها لن تستطيع بناء حجرين في أي زاوية من زوايا الوعي الثقافي المزيّف.
في الحقيقة، لستُ ضد الرواية، وإن لم أفكر بكتابتها، أحب قراءة الروايات الجيدة بلا شك، ولكنني أفتقد الاستعداد النفسي لكتابتها، بل إنني توقفت عن كتابة السرد بأشكاله كافة منذ مدة طويلة، بل توقفت أيضا عن كتابة الشعر. لم يعد مفيدا أن تكتب وأنت لم يقتنع بك الناشر والقارئ. عليّ أن أصارح نفسي بذلك. أصدرت ستة دواوين ولم أُكرّس إلى الآن شاعراً، وكتبت خمسة كتب سردية ضاعت فيها شخصيتي السردية، فما كتبته خليط مشوه من القصص القصيرة والنص السردي المفتوح والمقالة القصصية. كنت أصنع عجينةً غير مختمرة لقطع خبز غير ناضجة. فما الفائدة؟
لم يبق لي سوى المقالة النقدية، وربما أيضا لم تكن نقدية بالمفهوم الدقيق للنقد. لكن يكفي أنها تسعد الكاتب المعنيّ الذي أتناول أعماله. صحيح أنني أغضبت كتّابا كثيرين كانوا مثيرين للشفقة، ولكنني كنت مثيرا للعطف أيضا. ربما يأتي يوم وأقتنع أنني لا أحسن الكتابة النقدية كما اقتنعت بأنني لست شاعرا ولست كذلك ساردا جيدا. كما أوهمت نفسي وكتبت ذات مرة شيئا من هذا القبيل. كنتُ يومذاك أدغدغ الوهم الذي في داخلي، لعله يكبر، أو يخرج من الظلّ، ليسير على قدمين سردا معترفا به.
ما أتمناه بالفعل أن أتوقف كلية عن الكتابة، فالكتابة في حالتي وهم شديد الحرارة والحمّى، وأخشى أن تكون مرضا مزمنا، وليست مجرد "أنفلونزا" حادة استمرت تصاحبني بعطساتها المخجلة مدة خمسٍ وعشرين سنة عجاف. ربما سيقول كاتب يدعي صداقتي عندما يقرأ ما كتبته هنا: وما يمنعك عن التوقف وأن تريح نفسك من أوهامها؟ سأصمت بكل تأكيد؛ لأنه لا جواب لديّ إطلاقا. سأقول بيني وبين نفسي: فعلا معه حق، لماذا لا أتوقف عن الكتابة، وأتركها لمن يستطيعون دفع عجلتها نحو الأمام؟
إذن، في الحقيقة، العيب ليس في الناشر هذه المرة، بل العيب كله فيّ أنا الذي لم أفهم إلى الآن أنني مصاب بمرض مركب من الرداءة والوهم معا. أيها الناشرون، لقد كنتم على حق عندما كنتم تحجمون عن نشر كتبي، ها أنا أعتذر لكم بكل جرأة، وبلا خجل أو خوف عن كل تلك المشاعر الحاقدة التي كنت أختزنها تجاهكم. فيا لله ما أروع أن تكونوا في حياتنا الثقافية، فلا عدمناكم أيها العمالقة المخلصون!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق