رؤية نقدية للمجموعة القصصية "عبور فى ذاكرة الوطن للأديبة الروائية" ايمان الدرع/ الدكتور حمدى حمودة

سيق لنا أن تفردنا برؤى نقدية فى أعمال سابقة للأديبة ايمان فى شكل دراسات تناولنا فيها أعمالها القصصية الخمس السابقة المعنونة ( بعيون المها ) وروايتها الأخيرة ( قمر على ضفاف النيل ) التى بلغت فيها رقى أدبى قارب العالمية عندما وظفت المنهج الفلسفى الذى طوع ألفاظ الأدب الى نهج فلسفى تفرد به من قبل الأديب الفيلسوف العربى نجيب محفوظ صاحب جائزة ( نوبل للسلام ) كأول أديب عربى يقلد بهذه الجائزة .        الأديبة حرصت على صعود السلم دون توقف ودون الثبوت على درجة لا تتزحزح عنها ، طامحة فى عبور القارات الخمس ، فاعتبرت التجديد منهجها ، لذلك سمت وارتقت فى أحرفها عندما اجتاح المسلحين بلادها لينهبوا خيراتها ، ويدمروا مدنها ، ويقتلوا كل شيئ حى ، انسان كان أو حيوان أو زرع أو جماد ، محطمين بذلك حضارة عمرها عشرة آلاف سنة قبل الميلاد ، وظفوا من أجل تحقيق المطامع الصهيوأمريكية ، وملوك بعض امارت العربان الحاقدة على ثروات وخيرات وحضارة وطنها ، العاملين على تقسيمه والسطو عليه .
هذا الذى جندت ايمان نفسها من أجله ، فتفوقت على نفسها ، فكتبت وأرخت لحقبة تاريخية من عمر بلادها تعرضت فيها لحرب قذرة على مدى سبع سنوات أطلقت عليها السبع العجاف ، تروى فيها همسات ومشاعر دفاقة بشكل قصصى يدغدغ مشاعر قرائها داخل وخارج وطنها ، وكل من اضطرته ظروفه الى اللجوء الى دول الشمال أو الجنوب ، تروى لهم مالم يعيشوه ويتفقدوه ويتعاملوا معه بمشاعرهم . 
كان عليها الزام نفسها كأديبة عايشت هذه السنين المضنية ، تتنقل برؤاها تجوب كل محافظات شامها لتنقل الواقع كما هو ، حكايات رسمت فيها صور حية لمشاهد كانت لم تخطر لها أن يأتى يوما وترسم بريشتها تلك الصورة الحية ، اجتماعية وسياسية واقتصادية وعقائدية ونفسية وجنسية ، تجسدت وحدثت فى كل حروب العالم السابقة واللاحقة .
قلم الكاتبة لم يتوقف خلال هذه السنوات ، تشدها الصورة والعاطفة ، تخلت بعض الشيئ عن المنطق العقلى الصورى وحكمت مشاعرها وعواطفها التى يتحلى بها الأديب ، وهنا تشابهت مع الناقد والشاعر البريطانى- س . ت . اليوت الذى اتخذ من العاطفة منهجا له فى ابداعه الشعرى والمسرحى ونقده لفلاسفة وشعراء وكتاب سابقين ومعاصرين له ، استطاع اليوت أن يصل للعالمية بهذا المنهج الذى أخذ عنه من القرن التاسع عشر وحتى اليوم رغم مهاجمة بعض النقاد الأمريكين الذين نقدوه عند تخليه عن " الفكر وتحكيم العاطفة" ، يقول اليوت فى تعريفه للناقد الأدبى " ان الناقد الأدبى لايجب أن تكون له انفعالات غير تلك التى يثيرها فيه العمل الفنى فورا – وهذه الأنفعالات ... ربما لم يكن من الواجب اذا كانت سليمة ، ان تدعى انفعالات على الأطلاق ، وهى موجودة عند أرسطو فى القديم وعند الناقد ريمى دى جرمون فى الحديث ، ويقول اليوت أن النقد الجيد هو البعيد عن الأنفعال ، والأشخاص الأنفعاليون – كسماسرة البورصة والسياسين .
لا نغالى هنا اذا أكدنا أن ما قامت به مبدعتنا من نقد ونقل للصورة خلال هذه السنوات ، انما تطابقت فيه مع تعريف اليوت للناقد والكاتب الناقل للصورة بحواسه الصادقة وعواطفه النابعة من القلب ، محيدة الفكر فى رسم هذه المشاهد التى تنقلت بها من قصة الى أخرى .  
عندما ننظر فى قصة "بلا عنوان" ، كيف صورت مشهد الأطفال وهم يلعبون وسط أزيز الرصاص ولون الدخان الأسود ورائحة الحريق ،نجد الصورة هنا حية ناطقة ، لكونها صادرة من قلب مفعم بالعاطفة ، وعديد من المشاهد الأخرى فى نفس القصة ، ولو عبرنا فى ذاكرة وطن أخرى مثل " عندما تشتاق المدائن " ماذا تريد ان تقول ايمان ؟ ماذا تريد أن تصور ؟ هل تصور بعدسة عينيها أم بريشة مليئة بالألوان لمدن كانت وأصبحت ، كانت من أجمل مدن العالم ، وأصبحت دمارا ، ركاما ، عبثت بها يد البطش الحاقدة الطامعة فى مقدرات وثروات وخيرات بلادها . 
يقول اليوت - أن المبدع الحقيقى سواء كان شاعرا أو روائيا ، ينبغى أن يتوافر لديه احساس بالتقاليد الأدبية لوطنه ، والتقاليد تتضمن أولا الحاسة التاريخية ، أى ادراك قدم وعصرية الأداب فى آن واحد ، فهى قديمة لأن الماضى غير عليها ، وهى معاصرة لأنها لم تمت ، وانما ظلت ماثلة فى أذهاننا تفعل فيها فعلها ، وهذا معناه أنه لاقديم ولا جديد فى الأدب ، فكل أدب حى ، هو أدب معاصر ، حتى لو مضت عليه قرون . وهذا ينطبق
تماما على أدب وفلسفة ايمان - عندما توغلت بذاكرتها فى مدائن وطنها منذ ملايين السنين ماذا كانت ، وماذا أصبحت ، تعاملت مع أحاسيسها الصادقة التى حركت عواطفها فى رسم صورة خربة للمدائن بعد العبث بجمالها ، أحضرت الماضى وربطته بالحاضر ، فمن الماضى يكون الحاضر والمستقبل ، وربما كان المستقبل على الماضى .
هكذا تنقلت الأديبة فى رسم شخوص حكاياتها بين الحقب الثلاثة (الماضى والحاضر والمستقبل) ، تعبر من حقبة لحقبة ، تتذكر عندما كانت تستنشق هواء بلادها المليئ بالأكسجين ، واليوم تتنفسه وهو مليئ بدخان المدافع والقنابل ، تتذكر وطنها بين غاباته وجباله ووديانه وأنهاره ، فترسم صورة لنهر بردى التاريخى ، الذى يعلوه جسر ممتد طولا وعرضا شيد فى زمن الأستعمار الفرنسى أطلقوا عليه (جسر العشاق) ، ثم تنتقل لتصور لنا فى حكاية أخرى "جبل قاسيون" الشامخ الممتد على ملاين السنين ، الذى يضم فى كهفه حوارى عيسى الأربعون ، صورا متعددة فى حكايا ممتدة عبر التاريخ لكونها تحمل حاسة تاريخية تمكنها من استنباط تاريخها المعاصر مقارنة بماضيه . 
يقول اليوت " أن هناك صلة وثيقة للأدب بين الحاضر والماضى وأن الأدب بكل أشكاله شعرا كان أو قصصا أو روايات أو مسرحيات ، هو كائن عضوى حى يشمل كل ما قد كتب ، وأن ذهن المبدع عبارة عن اناء يختزن عددا لاحصر له من المشاعر والعبارات والصور ، يستبقيها فيه الى أن تتجمع الجزيئات التى يمكن لها أن تتحد وتكون مزيجا جديدا " وهذا كله ينطبق مع اديبتنا التى مزجت بين الحاضر والماضى فى تبلوهاتها الفنية الرائعة فى حكاية ( أنا وعازف الساكس ، ومواسم الكرز ، وحلب ياااحلب ) مشاهد حية من أرض المعركة متنقلة بين محافظات وطنها الشاسع ، وديانا وجبالا وسهولا ، واصفة ومصورة بحذق شديد حالات مواطنيها النفسية والأجتماعية والأقتصادية والسياسية ، علامات القلق والخوف والهلع من القادم .
عشق ايمان للوطن حرك فيها كل مشاعرها الصادقة ، فغلبت العاطفة على الفكر ، تتذكر كل ما اختزن من صور شفافة نقية فى الماضى البعيد والقريب لتقارن بينه وبين الحاضر الممثل أمامها فى السبع العجاف ، التى كانت سببا فى تشريد الملاين ولجوؤهم الى الخارج ، او النزوح الى الداخل ، كل منهم يحمل معاناته وجراحه وآلامه وعذاباته ، صورت الأنقسامات التى حدثت فى العائلة الواحدة بين الأخ وأخيه ، بين الزوج وزوجته ، هذا مع وهذا معارض ، رسمت بريشتها صورا للأفراح والمآتم بين أصوات المدافع وطلقات الرصاص ودخان الحرائق ، حملت أثقال وهموم وطنها على كتفيها تنسج من كل الخطوط التى تشاهدها وتعايشها الصورة المثلى المعبرة عن صدق مشاعرها .
كل هذه القصص والحكايات التى تناولتها ايمان فى عملها ، تعتمد فيها على الذاكرة ، ومثل هذه الذكريات قد يكون لها قيمة رمزية لأنها تغدوا ممثلة لأعماق الشعور التى بامكانها التوغل فيها ، حيث أنها تناقش مصدر الصورة التى أتت بها مجسدة فى حكياها وتحدثت عن طبيعتها ، وهذه مفارقة كبيرة بينها وبين كثير من المبدعين الروائين او القاصين ، وقد قام بهذه المهمة من قبل من الفلاسفة والنقاد الغربين أصحاب مذهب الصورة من أمثال " ازرا باوند ودفيد هيوم " فاذا ما طبقنا هذا على ايمان كقاصة وروائية لوجدناها غنية بالصور والذكريات – ووضحت القصد من ورائها ، ولايغيب عن أذهاننا العالمى نجيب محفوظ فى كثير من أعماله القصصية والروائية الغنية بالصورة والقصد من ورائها ، وكذلك الروائى العربى الكبير محمود المسعودى الذى أدهش النقاد والمثقفين وخاصة عميد الأدب العربى طه حسين الذى كتب له مقدمة (السد) 
عودة مرة أخرى الى اليوت الذى تتفق مع منهجه الأدبى النقدى الأديبة ايمان ، لنركز على بعض صفاته وخصائصه ، وهوكما يبدومن كتاباته – ناقد من أكبر نقاد القرن العشرين ، شاعر وأديب ، حاد الذكاء ، واسع الثقافة ، عالمى اللهجة - ومهما اختلف معه المرء فى آرائه فلن يسعه الا الأقرار له بهذه الصفات .
أو كما يقول كارل سابيرو: ان اليوت تجسيد للأدب الحديثوتعبير كامل عنه ، قد يسمح للمرء أن يختلف معه حول نقطة هنا ورأى هناك ولكن على ألا ينجاوز ذلك ، لقد أصبح شبيه بقلعة حصينة تمضى الحياة فى أسفلها وتظل هى قائمة فى مكانها كما هى .
قلليون هم أعمدة الأدب وهؤلاء القلاع الحصينة فى الشمال والجنوب ، خاصة بعد أن فرغت الساحة فى عصرنا هذا من أغلب مبدعى الفنون السبع ( الأدب بكل فروعه ،المسرح ، الشعر ،الرواية ،القصة والسينما والفلوكلور الشعبى والموسيقى والباليه وفن الأوبرا) كل هذه الفنون تضائلت لأسباب كثيرة لايسمح الظرف للتعرض لها ، لكنى أشرت اليها اشارة عابرة فقد أصبح المبدع الذى يجمع عدد من الملكات نادرا وجوده فى هذا العصر الذى تدنى فيه الأدب والأبداع عامة الى درجة الأنحطاط فى العالم . 
لذلك نحن نمسك بنواجزنا ، ونقف بقوة جانب من يتحلوا بهذه الملكات ويوظفوها توظيفا أدبيا رفيعا ، ومن هؤلاء مبدعتنا التى نحن بصدد مجموعتها القصصية السادسة ( عبور فى ذاكرة وطن ) التى شدنى جدا أن أجد فى أعمالها التى قمت بعمل تحليل ونقد لها من قبل ، وكان ذلك مع آخر أعمالها الروائية (قمر على ضفاف النيل) واليوم تحرك مشاعرنا بتماهيها العميق فى العديد من القصص المترابطة أحيانا والمتفردة بحبكة خاصة بها مثل ( سمية ، ياليلة العيد ، الثامنة تدق فى الوريد ، حدث فى العزاء) صورا متعددة تنفذ فى قلب قارئها لأنه يعيشها بشكل ملموس حى ملئ وجدانه .
يقول اليوت أن الوظفية الأساسية للنقد ، هى القاء الضوء على الأعمال الأدبية من الداخل ، وتصحيح أذواق القراء ، فلا ينبغى أن نقتحم على العمل الأدبى أشياء ليست من صميمه ، ولا نكرهه على مقاييسنا الأيدلوجية ، وانما علينا أن نراه كما هو فى حقيقة الأمر ، وهذا ماأظن ان ايمان تنقله لنا فى حكاياها المتنوعة على أوتار متنوعة وبصور مختلفة ولا نعلم اذا كانت قد قرأت من قبل عن هذا الناقد الشاعر العملاق- ت . س .اليوت أم لا .

هناك تعليق واحد:

  1. الشكر الجزيل للناقد العربي الكبير الدكتور حمدي حمودة على دراسته النقدية لمجموعتي القصصية ( عبور ي ذاكرة وطن) دراسة ناجحة أعتبرها نقطة مضيئة في طريقي الأدبي الطويل
    شكرا لمجلة كتابنا الرائدة التي تحتوي أقلامنا ونتاجاتنا ورؤانا..بكم اعتزازنا.

    ردحذف