قراءة في نص " تداعيات امرأة منتقمة" للشاعرة الجزائرية صليحة نعيجة/ إلهام بورابة

زينة السماء

"لك التوأمان، لك النثر والشعر يتّحدان، وأنت" محمود درويش.

تجمع الشاعرة صليحة نعيجة بين الشعر والنثر. فلا غرابة أن يجتمع  لمولود الجوزاء من كل جنس إثنان.

 مواليد الجوزاء يسيرون في الحياة وفق " نظام التوائم" أي أنّه تنتظم عندهم الأشياء مثنى مثنى سواء في تفكيرهم أو في شعورهم.

بلاشك أنّ أقوى الصور التي يمكن أن تعبّر عن هذه الثنائية هي صورة الأم وابنتها وهذا النص" تداعيات امرأة منتقمة" شاهد. فضمن حوار تتفاعل فيه الشاعرة مع أمها ينشأ نظام ثنائي يقترن في أثر فني لإنتاج نص مضاعف. معنى هذا أن ردود الأفعال في الحوار تعدّد النص. النص الواحد يثنّى، يصير نصّين.

ليست هذه قراءة تأويلية أو تأمّلية إنّما تصوّر خاص لتبيين تأثير نظام التوائم على نصوص مبدعة من برج الجوزاء.

نظام التوائم مفهوم أقترحه لقراءة نص مختار لشاعرة لها طموح إنساني نحو الكمال ترومه بحكم برج الجوزاء من تلقاء ذاتها لكنّها ودائما بتأثير برج الجوزاء لا يمكن تكملته إلّا وفق نظام التوائم فيتحدّد بذلك وباختيارها، " المُفَضَّل" من الناس عندها ليتم الفعل الكامل / النص الفني. فكانت الأم. الشاهد قولها : علّمتني أمّي.

الجوزاء عند العرب هي التوأمان. الجوزاء في النظام، الثنائية والمثنى والمثنّى.

ونقول امرأة مجزّأة التي تلد الإناث. كأن نظام التوائم في الجوزاء يختص فقط بجنس الأنثى. ومن هنا كان نص امرأة منتقمة لصليحة نعيجة نموذجا لهذا ( الأم وابنتها).

الجوزاء تعني النظام.  ومنه نطاق الجوزاء الذي يضرب به المثل في الانتظام.

أجزأ بمعنى أغنى. الذي يكفي الحاجة. ومولود الجوزاء من خصائصه البحث دائما عمّا يكفيه حاجاته. فلديه شعور بافتقاد حاجة ما لابد عليه أن يلبيها.

ولأن مواليد الجوزاء من فصل الربيع فيشملهم المثل العربي القائل تمام الربيع الصيف. مثل الأزهار لا تبلغ أوّجها إلا مع بداية الصيف. وهكذا هم لا يبلغون كمالهم إلا بالآخر.

لكن حذار يا جوزاء، فكل كمال زوال ، موت أو ضياع.

ويحضرني أيضا المثل العربي الشهيرالذي يقول: الصيف ضيّعت اللبن. للتعبير هنا عن ارتباط المعنى السابق باللبن / الحليب. لأشير من خلاله إلى ارتباط نظام التوائم عند الجوزاء بالحليب ومنه بالأنثى ومنه لإلزام حضور نص محمود درويش: حليب إنانا. لمقارنة نص الشاعرة صليحة نعيجة به. فإني أجد تخاطرا كبيرا بينهما ربما لارتباط القصيدة الحديثة بالأسطورة. وأجد نظام التوائم يحضر بقوة في نص حليب إنانا .

لتناول نص الشاعرة في ضوء هذا المعنى ، أقيم دراستي على جمالية التواصل بين الشاعرة ووالدتها والتفاعل بينهما في حنان ورحمة. فما يعنيني هنا هو التكامل وليس الانقسام. الاتحاد الفكري والتلازم العاطفي بحيث لا توجد مفاضلة لواحدة منهما على الأخرى.

إذاً، ما مظاهر نظام التوائم في نص " تداعيات امرأة منتقمة" ؟

أتجاوز إلى حين  العنوان ومباشرة إلى عبارتها من النص " أيتها التحفة المزدوجة". فمن الجوزاء الازدواجية .  ونخطئ لو عنينا بها التناقض. بل هي من الجوز. وتعني وسط كل شيء. أمّا الازدواجية في دراسة اضطراب الشخصية فمن اللغة الفارسية  " جوز".

ومن الازدواجية المقارنة. ومن المقارنة القرين. ويأتي على معناه قول الشاعرة " يا قرين القلاع الشامخة ".

فبعد إثبات حضور نظام التوائم (الجوزاء) في النص نعود إلى العتبة لتنضيد رؤيتي بما هو متعارف عليه في النقد.

" تداعيات امرأة منتقمة". منتقمة من الانتقام. ومعناه في نص الشاعرة نستخلصه من استهلالها : نقاط الحسبلة علّمتني الانتقام. فانتقامها مثل انتقام الله ، مضاعف. يقول تعالى : " ... يضاعف له العذاب يوم القيامة"  آية 69 من سورة الفرقان . والانتقام قصاص.

 الضعف يدخل في النظام الثنائي / التوائم. ويقترب من هذا قول محمود درويش في حليب إنانا: أفعال ثانية ما فعلت؟

وهكذا ينمو النص وفق النظام المحتكم إليه في القراءة.

ندخل الحوار الذي سبق وأن قلنا عنه أنه يضعّف النص فيصير نصّين. وهو مقتطع من النص.

-هل أنا خراب يا أمي؟

-بنفسجة أنت يا بنيتي

-لأني امرأة يا أمّاه؟

-صه ، صه يا ابنتي

-أشمّ رائحة الموت يا أمي

-مالك تذكرين الموت كثيرا يا ابنتي؟

-الموت أهون يا أمّاه

ثم لا رد فينتهي الحوارعند قطع الشاعرة الخطاب.

بالطبع لن يكون ردّ حتى لا تكمل الجوزاء فكل اكتمال موت. مثل اسطورة التوأمان في الميثولوجيا اليونانية القديمة " كاستور و بوليديوكس".

فلماذا الربط بالأسطورة ؟  لاحتوائها على الثنائيات من نوع حرب، حب/ خلود ، موت/ سماء ، أرض/....،.... شمس ، مطر/ .....

في نص الشاعرة صليحة يمكن اختيار ثنائيات عامة مثل : نرجس وسوسن/ سؤال واحتمال/ خداع ورياء/ قضاء وقدر / ظل وشعاع/ شعر ورقص. وثنائيات نحوية مثل التوكيد اللفظي( التكرار) مثل إسم فعل الأمر  صه، صه. وثنائيات بلاغية من نوع الطباق مثل هنا وهناك/ رجل وامرأة/ خلود واندثار/ وجه وظهر/ . ومن نوع الجناس الناقص مثل كأس وفأس/ شمس ورمس. وثنائيات حسيّة من نوع المثنى مثل عينيها ، الحاجبين.

بالمقابل  يزخر أيضا نص محمود درويش بثنائيات متنوعة.

نظام التوائم المختص بالمؤنث يظهر في نص صليحة ابتداء من العنوان " امرأة منتقمة"  وقد وضّحت كيف يدخل الانتقام ضمن هذا النظام.

مدينة النرجس والسوسن، تحفة مزدوجة ، بنيّتي / أمّاه، رضيع الحب .

خلفي رضيع الحب. الرضاعة ترتبط بالحليب

الكره امرأة ، الموت امرأة ، الظلم امرأة الحرب امرأة..... المرأة / أنثى

في نص درويش يبرز  النظام غنيا جدا وابتداء أيضا من العنوان " حليب إنانا".

الحليب، لارتباطه بالأنثى والأنثى ترتبط بنظام التوائم. ولارتباط الحليب باكتمال الجوزاء في فصل الصيف كما سبق تبيينه.

إنانا، هي رمز لأغلب الصفات الأنثوية ، وهي إلهة الثنائيات خاصة الحب والحرب، فإنانا لها ثنائية الجوانب السلبية والإيجابية معا للحضارة.

إنانا أيضا لها أخ توأم هو أوتو المعروف برب الشمس. وهي ربّة القمر.

ضمير المخاطبة.

الأسطورة

 الانتقام أيضا كما في نص صليحة يقول درويش: سأستل هذه الغزالة... وأطعن نفسي بها. 

**

في نص الشاعرة صليحة نعيجة تناص جميل وعميق بنص محمود درويش .  كأن فيه تخاطرا عجيبا. فوجبت الإشارة هنا إلى أن مولود الجوزاء يتميّز بتواصل غرائبي ليظل دائما على اتصال بالكون إذا لم يجد في الحقيقة موضوعا لتواصله. فكيف يمكن تحديد مواطن التناص وفق هذه الرؤية؟

يبدو جليا هنا تناص أسطوري بين الشاعرة وإنانا الأسطورة. فإنانا كائن سماوي يبحث له عن مكان في الأرض كأنها لا تكتمل إلا بلمسة ترابية . وهكذا هي الجوزاء أيضا. ففي الأسطورة تكتمل إنانا بشقيقتها الكبرى إريشكيجال ملكة الأرض/ العالم السفلي. والشاعرة صليحة تكتمل بأمها . فمن هنا تكون الشاعرة برؤيتها العجائبية هي إنانا. وتستحضرها معنى أقرأه في قولها: على صدر الجفاء أنثى قدري. تجتاح مخيّلتي. خطاها الرتيبة على الأرض.

يبرز هذا التناص جليا إذا وضعنا النصين جنبا إلى جنب أسطورة إنانا.

تقول الشاعرة : العرس،ابتسم القدر، وتأتي امرأة تسرق فرحتي .

في الأسطورة ، امرأة العصابات ببلولو سرقت فرحة إنانا. قتلت زوجها تموز

فإذا كانت إنانا قد قتلت امرأة العصابات قصاصا فالشاعرة ستقتص أيضا ولكنها بطريقة إيمانية " الحسبلة".

إنّه تناص عجيب بالقدر  فهل تعيش بعض الأرواح الأقدار نفسها في أرواح أخرى؟

لكن نص درويش حليب إنانا ، يقدّم فرحا بديلا لإنانا فلماذا لا يكون لصليحة مثله؟ يقول درويش:

لنكمل هذا الزفاف المقدّس، نكمله يا ابنة القمر.

*

بعد أن رأينا صور نظام التوائم في النصين لابد من طرح أسئلة . فالجوزاء وبحكم نظام التوائم تحتاج لجزئها المكمّل والشاعرة وجدته في أمها ، وأنا أبحث عن التكامل بين الجزأين في الجوزاء فهل  تحقق هذا الطموح؟

أجل ، وبدءا من  تصريح الشاعرة : علّمتني أمي.

وقد سألت إن كان تأثير الواحدة على الأخرى مسيطرا؟ فبدا لي أن الشاعرة رغم حاجتها لوالدتها تكملها فإنها تملك زمام أمورها . ففي آخر النص تقرّر وتفصل بأحكامها فتقول : الموت امرأة والحرب امرأة و.... إلخ

فهل يمكن أن توجد خصومة بين الجزأين؟ من النص تبدو الشاعرة في توافق عاطفي مع أمها . وفاق نفسي تام واتّصال من رحمة وحنان. يظهر هذا في الضميرالمتّصل / أمّاه، ابنتي. وفي توظيف أسلوب النداء.

ويبدو في السلوك الذي تمليه الأم على ابنتها في قولها : بنفسجة أنت.

*

لا يمكن بالرغم من الالتزام بموضوع القراءة " نظام التوائم في نص تداعيات امرأة منتقمة" للشاعرة صليحة نعيجة، ألّا نلتفت للجانب الجمالي فيه. فقد كانت تنتقل في حدائق بين الكلمات ، تتبع نداء القلب لتمنح قارئها الاستمتاع وتزوّده بثقافة إنسانية . فقد طرحت قضية متوقّدة موضوعها " اختطاف الفرحة" وهذه معاناة لا تخطئها النفوس البشرية. قضيّة ناقشتها الشاعرة بعظمة وحكمة فكانت فنّانة في عرض شخصيتها وهذا ما جذبني في النص. ورغم حرصها على إبداء الجانب الفكري الصارم فقد شعرتها تبكي في حزن وفي سحر إنساني بليغ .

عموما ، تعدّدت صور نظام التوائم في نص الشاعرة  وهذا لصلته بالجانب النفسي للمبدعة وقد ظهرت مستوياته في اللغة والأسلوب والسلوك داخل النص وهذا ما استدعى قراءة ثنائية أيضا وأقصد مقارنته بنص درويش " حليب إنانا".

إنها قراءة جديدة فهل أمكنها الكشف عن هذا النظام؟ يمكن تجميع مساحات أخرى واسعة لدراسة هذا النظام وأبنية نصيّة لتمكينه معيارا للقراءة الأدبية مع أنه لا يمكنني أبدا أن أدّعي بأنه معيار قائم في الدراسات النفسية. فما هو إذاً موقف النفساني؟ هو بالتأكيد مظهر صحي جدا ما وصلت إليه مادام النظام قد استقام بين الأصل والفرع / الأم وابنتها. فيمكن تجريبه في ثنائيات أخرى.

ويمكن اعتماده في الدراسات الأدبية لالتزام الأدب بالمشاعر ومن مزايا هذا النظام إبراز المشاعر واستلالها من النص مهما غمّت علينا. وأهمية هذا أنّه يكون بالإمكان تنمية مشاعر الحب والصلات العميقة وتحفيز أعضاء الحس للوصول إلى تناغم روحي تام.

لكن للأسف ، نظام التوائم يمكن هدمه بسهولة. فعند إحساس الجوزاء بفائض الحاجة فإنها تقطع عديد العلاقات وقد تبقى لفترات طويلة تفتقد جزئها المكمّل من جراء هذا. تبقى محمومة مثل شمعة  تماما مثلما وصفها محمود درويش في نهاية نص حليب إنانا حيث يقول:

,
أَنتِ المُصَابِة بالأنفلونزا
أَقولُ : خُذي حَبَّتيْ أسبرين

ليهدأ فيك حليب إنانا

والخطر في تعرض الجزءين من الجوزاء إلى خيبة . فيكون عندئذ على الجوزاء معرفة مكانها بالتحديد من الأرض. ( التواضع) وهذا ما يبرّره قول محمود درويش:

لنكمل هذا الزفاف ، هنا في المكان الذي نزّلته يداك على طرف الأرض ، من شرفة الجنة الآفلة.

ويقابلة من نص صليحة نعيجة اعترافها:

أحنّ يا أماه إلى تربة تحضنني ، أريد أن أحتمي بظل الإله.

*

خلاصة، كانت هذه قراءة محكومة بنص واحد لكنه ساعد في إسقاط موضوع القراءة عليه.

الشاعرة صليحة نعيجة من بين كل الشاعرات كانت منفردة في إسقاط برجها الجوزاء سلوكا داخل الكتابة ووضعت لنفسها مكانة أثيرة تتحرّك فيها لغويا وتصوّرا وتعبيرا فتكشف أن ّ ما يصلها بالشعر هو نزعاتها الشخصية نحو الكمال.

من هنا ، فإنّ القراءة تملأ فقط بعض الفراغات التي تجاوزتها الشاعرة .

يقول محمود درويش: سيطلع من عتمتي قمر . وأرى أن ّ هذا القمر هو إنانا العصرية / الشاعرة صليحة نعيجة.

وأستدعي لنفسي مثال الشاعرة أنخيدو أنّا  وأستعير منها نصّها " تمجيد إنانا" لأحيّي صليحة.

تقول الشاعرة السومرية أنخيدو أنّا ( بتصرّف):

أيتها الشاهقة يا إنانا السماء والأرض

 التي نطقت بالكلمات المقدّسة

ياملكة الملكات العظيمات

يا من أصبحت أعظم من أمّك التي أنجبتك

عارفة وحكيمة

لقد نطقتُ بأغنيتي أمامك حسب ما يناسب موهبتك

أنا أنخيدو أنّا

لكن الآن،

كلّ ما أعطاني المتعة تحوّل إلى غبار.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق