عن تقرير التنمية البشرية لعام 2019/ فهد المضحكي

21 ديسمبر 2019​

في موجات التظاهرات التي تجتاح بلدانًا عديدة إشارة واضحة إلى ان مجتمعنا المعولم ليس على ما يرام، رغم كل ما احرز من تقدم.

يتجه الناس إلى الشارع لأسباب مختلفة من ثمن تذكرة القطار او اسعار البنزين إلى المطالبات السياسية بالاستقلال.

اما المحرك المشترك لجميع هذه المطالبات فهو الشعور العميق المتفاقم بالاحباط ازاء عدم المساواة.

تقرير التنمية البشرية لعام 2019 الصادر عن برنامج الامم المتحدة الانمائي يذكر ان في كل بلد من البلدان، الافق إلى مستقبل افضل شبه مسدود امام الكثيرين: يعيشون دون امل او هدف او شعور بالكرامة، ويقفون على هامش المجتمع وهم يرون آخرين يمضون إلى المزيد فالمزيد من الازدهار، في العالم ككل، انتشلت من الفقر المدقع اعداد كبيرة، لكن اعدادًا اكبر لا تزال محرومة من الفرص والموارد التي تتيح لها التصرف بحياتها، وفي الكثرة الغالبة من الاحيان لاتزال مكانة الفرد في المجتمع تتحدد بجنسه او بانتمائه الاثني او ثروة والديه.

عدم المساواة، الوقائع كثيرة، ولا تعكس اوجه عدم المساواة دائمًا عالمًا مجحفًا، ولكن عندما لها صلة بمجازاة الجهود او المواهب او روح المخاطرة او المبادرة، فقد تمس شعور الافراد بالانصاف وتهين كرامة الانسان. ففي ظل ازمة المناخ وموجة التغير التكنولوجي الكاسحة، تضر اوجه عدم المساواة بالمجتمعات، اذ تقوض التماسك الاجتماعي وتزعزع ثقة الناس بالحكومات والمؤسسات وببعضهم بعضا، ويضر معظمها بالاقتصاد، اذ يبدد ما كان قد ينُجز لو حقق الافراد كامل امكاناتهم في العمل وفي الحياة. وكثيرًا ما تجعل أوجه عدم المساواة من الاصعب على القرارات السياسية التعبير عن تطلعات المجتمع بأسره او حماية الارض، اذ تستخدم القلة التي في المقدمة نفوذها لتوجه هذه القرارات الى خدمة مصالحها، وعندما يضيق الناس ذرعًا ينزلون إلى الشوارع.

وتشكل اوجه عدم المساواة في التنمية البشرية حواجز تحول دون تحقيق خطة التنمية المستدامة لعام 2030.

ولا تقتصر هذه على مجرد الفوارق في الدخل وفي الثروة، ولا يمكن اختزالها بمقاييس تركز على بُعد واحد، بل انها ستحدد معالم مستقبل من قد تكتب لهم الحياة في القرن الثاني والعشرين.

ولذلك يستكشف التقرير أوجه عدم المساواة في التنمية البشرية ما وراء الدخل والمتوسط والحاضر، ويطرح مختلف اشكال عدم المساواة من حيث التداعيات والمحركات، مؤكدًا انها من علامات مشاكل اكبر في المجتمع والاقتصاد. كما يبحث التقرير في السياسات التي يمكن ان تتصدى لهذه المحركات، اي السياسات التي يمكنها ان تحقق للأمم نموًا في الاقتصادات، وتحسنًا في التنمية البشرية وتراجعًا في عدم المساواة.

ومن الصعب تكوين صورة واضحة عن اوجه عدم المساواة في التنمية البشرية وكيفية تغيرها، لأنها تحاكي الحياة نفسها تعددًا وسعة. وما اعتمد على التقرير من مقاييس وبيانات قلما يكون كافيًا، غير أن انماطًا تتكرر في كل مكان.

ففي كل بلد، تتغير الأهداف، عدم المساواة في التنمية البشرية مرتفع او في تزايد في المجالات التي يتوقع ان تزداد اهمية في المستقبل، وقد أحرز تقدم في مختلف انحاء العالم في مجالات اساسية، مثل التخلص من الفقر والحصول على التعليم الاساسي، ومع ذلك إن النواقص كبيرة لا تزال قائمة، وفي الوقت نفسه، تتسع اوجه عدم المساواة في أعلى سلم التقدم.

يفتح نهج التنمية البشرية نوافذ جديدة على اوجه عدم المساواة – اسباب أهميتها، كيف تتجلى، ما العمل حيالها – تمهد للعمل الملموس.

ويؤكد التقرير على اهمية اعادة اصطفاف اهداف السياسة العامة المعتمدة اليوم: مثلاً التشديد على جودة التعليم لجميع الاعمار، بما في ذلك التعليم ما قبل الابتدائي، بدلاً من التركيز على معدلات الالتحاق بالتعليم الابتدائي والثانوي، والكثير من هذه التطلعات في صلب خطة التنمية المستدامة لعام 2030، ولابد ايضًا من التصدي للاختلالات في موازين القوى التي هي في صميم العديد من اوجه عدم المساواة، من خلال مثلاً ضمان تكافؤ الفرص في الميدان الاقتصادي عبر اتخاذ اجراءات لمكافحة الاحتكار، وفي بعض الحالات، قد يعني التصدي لأوجه عدم المساواة معالجة الاعراف الاجتماعية المتجذرة في تاريخ البلد المعني وثقافته.

ويتوافر العديد من الخيارات في السياسة العامة لتعزيز الإنصاف والكفاءة في آن معًا، لكن السبب الرئيس لعدم اعتمادها يرتبط احيانًا كثيرة بالمصالح المتجذر لأصحاب النفوذ الذين لن يعود عليهم بمكاسب تذكر.

ويضيف لما سبق ان مستقبل عدم المساواة في التنمية البشرية في القرن الحادي والعشرين في أيدينا، لكننا لا نملك الركون إلى الطمأنينة فأزمة المناخ تبين ان ثمن التقاعس يتصاعد مع الوقت، اذ انه يؤجج عدم المساواة فيجعل العمل المناخي اصعب. وقد بدأت التكنولوجيا فعلا تغير سوق العمل والحياة، ولكن لم يتقرر بعد مدى قدرة الآلة على الحلول محل الانسان، لكننا على شفير هوة يصعب الصعود منها بعد الوقوع فيها، امامنا خيارات ولابد لنا ان نختار الآن.

بإيجاز، يكشف التقرير عن نشوء جيل جديد من اوجه عدم المساواة، وإذ تضيق الفجوة في مستويات المعيشة الاساسية وتفلت اعداد غير مسبوقة من براثن الفقر والجوع والمرض، تتطور الامكانات التي يحتاج إليها الناس للمنافسة.

نشأت فجوات جديدة، كما في التعليم العالي وفي إنترنت النطاق العريض، الفرص التي كانت في السابق من الكماليات اصبحت اليوم حاسمة في التنافس والانتماء، لاسيما في اقتصاد المعرفة، حيث لا سلم لارتقاء عدد متزايد من الشباب المتعلم المتصل بالعالم.

وفي الوقت نفسه، تمعن عوامل تغير المناخ وأوجه عدم المساواة بين الجنسين والنزاعات العنيفة في دفع وتثبيت اوجه عدم المساواة المزمنة والمستجدة على حد سواء، وكما يبين تقرير التنمية البشرية، سيؤدي الفشل في التصدي لهذه التحديات إلى ترسيخ عدم المساواة وتوطيد نفوذ القلة وهيمنتها السياسية.

ما نراه اليوم هو قمة الموجة في عدم المساواة، وأن عدم المساواة يبدأ منذ الولادة ويحدد حريات وفرص الاطفال والبالغين والمسنين، بل ايضًا حريات وفرص الاجيال المقبلة، كذلك يمكن لسياسات مكافحة عدم المساواة أن تغطي دورة الحياة كاملة.

فمن الاستثمارات قبل الانخراط في سوق العمل وفي ما بعده، في ما يتعلق بالحصول على رأس المال والحد الأدنى من الأجور والخدمات الاجتماعية، امام السياسيين وواضعي مجموعة واسعة من الخيارات التي لإذا ما اتخذت بما يناسب كل بلد او مجموعة، ستتحول استثمارًا مدى الحياة في المساواة والاستدامة. واتخاذ هذه الخيارات يبدأ بالالتزام بمعالجة تعقيد التنمية البشرية – بالابتكار والتجديد لمساعدة البلدان – والمجتمعات المحلية على تحقيق أهداف التنمية المستدامة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق