إنّ الحالة العشقيّة الّتي يمرّ بها الصّوفيّون بل الّتي يبلغونها، ووجد لها تمثيلاً مناسباً عند الحلّاج، لهي ثورة على جمود النّصّ الدّينيّ وعلى واقع التّعامل معه لإقامة علاقة مع السّماء وغوص في سرّ الكلمة الإلهيّة. الكلمة السّرّ بالمفهوم القدسيّ/ Sacrement، الّتي تحتاج من العقل الإنسانيّ ارتقاء معيّناً، ومن القلب نقاء خالصاً حتّى تنجلي الحقيقة وتنكشف لمن التحم بقلب الله.
تحتاج الحقيقة من العاشق قراراً يتيح لها الاقتراب والتّسرّب إلى الدّاخل الإنسانيّ حتّى تتمكّن من كشف ذاتها. كما تحتاج انفتاحاً من الجانب الإنسانيّ على النّور المتدفّق منها حتّى تظهر الأنا على نور الهُوَ.
لا بدّ أنّ الصّوفيّ كعاشق لله يمرّ بعدّة حالات، تتدرّج صعوداً نحو الله. فينطلق من العمق الدّنيويّ إلى العمق السّماويّ اختباريّاً. لذلك لا يمكن المرور على الشّعر الصّوفيّ، ومنه ما فاض به الحلّاج، دون تبيّن الحالة الرّوحيّة والذّهنيّة اللّتين تُدْخِلانه في عمق النّور الإلهيّ. فالشّاعر الصّوفيّ لا يسلك منهجاً تأليفيّاً أو يرنو إلى التّنظير عن الفكرة الإلهيّة، وإنّما يخوض غمار الاختبار الرّوحيّ العميق مع الإله الشّخص.
من العسير أن ينتهج الشّاعر الخطّ الصّوفيّ بمعزل عن الاختبار، بعيداً عن الولوج في قلب الله. فالتّأليف في هذا السّياق يكشف عن سطحيّة الشّاعر وهشاشة المعنى. كما أنّه من الصّعب أن يُظهر في قصائده حالة خارجة عنه، فيأتي شعره ناقصاً بل خالياً من الشّعر.
لا يترجم الشّعر الصّوفيّ حالة الشّاعر وحسب، بل يظهر تجسّد الكلمة في الشّعر حتّى أنّها تستبين واضحة بيّنة لتكشف عن ذاتها من خلال القصيدة الصّوفيّة. لذلك فليس بإمكان الشّاعر اعتراض سبيلها وإلّا جنح إلى طرح فكره الشّخصيّ بدل أن ينقل الحقيقة. ولا عيب في ذلك، فالشّعر حركة تنويريّة معرفيّة لكنهّ في هذه الحال لا يرتقي سلّم الصّوفيّة.
هذه الحالة من الكشف ينشدها الحلّاج في عشقه الإلهي قائلاً:
رأَيتُ ربّي بعين قلبِ
فقلتُ من أنت قال أنت
فليس للأين منك أينٌ ..
وليس أين بحيثُ أنت
وليس للوهم منك وهمٌ
فيعلم الوهم أين أنت
أنت الذي حُزْتَ كل أين
بنحو لا أينَ فأينَ أنت
وفي فنائي فنا فنائي
وفي فنائي وجدت أنت
رؤية الحلّاج القلبيّة لا تعبّر عن الرّؤية الإيمانيّة وحسب بل تخلص إلى الرّؤى المكاشفة لحقيقة بلغها الحّلاج (فقلت من أنت قال أنت). يندرج فعل القول ضمن حوار داخليّ عميق بين الحلّاج والكلمة يحقّق لقاء حميماً بين الأنا والهُوَ. بل فناء فيه حدّ الالتحام العشقيّ (وفي فنائي وجدت أنت). عبارة شكّلت الحقيقة الّتي عاينها الحلّاج، فخرج الشّعر وحياً حوّله إلى ما يشبه رسولاً للحقّ. ويمكن القول إنّ الشّاعر الصّوفيّ رسول الكلمة، يعشق، يعاين، فينقل الوحي العشقيّ.
ولئن وصل الحلّاج إلى هذه المرحلة لزمه تحرّراً من الأنا وانغماساً في الهُوَ فيمسي الأنا هو والهو أنا. فبقدر ما يتحرّر الشّاعر من ذاته يلج قلب الله، قلب الحبّ ويمتزج به. فلا يعود يعاين إلّاه، ويصبح الله المعشوق حاضراً في ذات العاشق نوراً يفيض في العالم. وسيحتّم هذا اللّقاء بين الله والشّاعر نوعاً من تجسّدٍ يدخل الشّاعر في حوار دائم مع الحضور العشقيّ/ الله. وبالحديث عن تجسّد، خاصّ عند الحلّاج، لا بدّ من التّفريق بين المعنى العقائديّ للتّجسّد، أي حضور الإله الإنسان، والحضور الإلهيّ الّذي عاينه الحلّاج في عمق أعماقه.
يشير إلى التّجسّد في إحدى قصائده قائلاً:
سبحان من أظهر ناسوته
سرّ سنا لاهوته الثّاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً
في صورة الآكل والشّارب
حتّى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
لا ريب في أنّ الحلّاج عاين التّجسّد الإلهيّ بشكل أو بآخر. عاين اختباريّاً الإله الشّخص ما استدعى منه تنازلاً عن الإله الفكرة. وهنا يظهر الشّعر الوحي. الشّعر الكاتب لا المكتوب، ويستحيل الشّاعر رسول هذا الوحي، ناطقاً به حتّى لو كلّف الأمر ما كلّف الحلّاج. لقد قدّم الحلّاج حياته مقابل النّطق بهذا الوحي، دون أن يتراجع عن كلمة واحدة. ما يعني أنّه بلغ مقاماً من العسير أن يتفلّت منه لينقذ حياته. بمعنى آخر استغنى الحلاج عن حياته لأنّه وجد حياته.
أُقْتُلُوني يا ثقاتـــي
إنّ في قتـْلي حياتي
ومماتـي في حياتـي
وحياتي في مماتـي
في هذا السّياق هل يمكن السّؤال عن شهادة في الشّعر؟ هل يستشهد الشّاعر الموحى له من أجل الحقّ؟ هل يبلغ الشّاعر الصّوفيّ مقاماً يتعذّر عليه من خلاله التّفلّت من الحقيقة حتّى لو كلّفه الأمر حياته؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق