إن أهدتني الحياة عامًا جديدًا/ الأب يوسف جزراوي

عامٌ آخرٌ يدقُّ طبول الرحيل
ليطوي آخر أيامه ويتكوَّر
مثل كرةِ ثلجٍ
تتدحرجُ  على جليدِ الوجود
فيصعب الإمساك به
ليدخل غَيَاهب النسيان
كغيرهِ من الأعوام 
....
في شتاءٍ  هولنديٍّ قارصٍ
تضيقُ به الأنفاس 
تثاءبت الشمس  الباردة
فَزَّينَ الشفقُ الأحمر البحر
مُلوّحًا لقَوَارِبِ الصيد الرَاكنة
ليتركها تُقاسي وحيدة 
في جُّبِّ ليلٍِ أهيم؛
بينما النوارس المُبتَهَجة 
أَجَلَتْ طقوس العَنَاق
حتّى تمرّ السفن الأنيقة وتَعَبر
لتعاود الإنتِشاء والتلصّص
 على الشمسِ وهي تودَّعُ القمر 
بإِبتسامةٍ مَاجِنةٍ
كما فعلَ معها
في مُسْتَهَلِّ الصباح!
.....
القمرُ توسَّطَ السَّمِاء
لكنه  لا يضيء
كفانوسٍ مطفأ في العتمةِ
 والمدُّ يعلو وسط الظلام
ليغسل رَّمْل السَواحِل 
من خطواتِ العابرين وذكرياتهم
فهل يفعلوها ويخطّوا
 أمنيات عامهم الجديد
على الرَّمْالِ أيضًا؟!
....
طَائِر السنونو بعث الدفء
بوصلةِ غناءٍ
 لّحَقت به حمامة الزَاجَل
فشَدّا الرحال إلى وطنٍ
ملأَ السمع وشغلَ الأبصار 
وكَم تمنيتُ لو حلّقَ
معهما قلبي وطار 
لكن أسراب الطُيُور
 غيّرت وجهتها 
إثر سماعها سَعَال أمنية قديمة 
 قد تبدو صعبة المنال
 وغريبة الأطوار !!
.....
الوحشةُ بدأت تتراقصُ في المكان
حينَ قلتُ للبحر:
أُحُبّها تلك البلاد
وأعشقُ عاصمتها
المَزْكُومة برائحةِ الرماد
 فما أجملها من بلاد
لو لم نكن " الراء"
بين "الحاء" و "الباء"!
بلى والله ما أحلاها 
لو لم تكن دمعة 
 في مآقي الفؤاد
فبين حُبّها وحَرْبها
كُنَّا أضحيةً  وقرابينَ
 نعَتنا صَلاة الجمعة
 وقدّاديس الآحاد! 
....
استنشقتُ شهيقًا عميقًا
ولم يَنْفَذ أريج البحر
إلى رئتي المليئة
 بالتبوغِ المُتَرَسِّبةِ
فعاتبني الحوت: 
وما ذنب البحار
إذا مَزْكُوم الفرات
لم يشمّ أريجها؟
تجاهلتهُ وسَرَتُ سارحًا 
بصمتٍ وسَّكينة
فالصّمتُ نورٌ وبنورهِ
 تستنير الصّلاة
 التأمّلات والحياة
الأحاديث والأفعال.
.....
مشيتُ على السَواحِلِ النَّديّة
اتتبّعُ خُطاي
واقتَفي أثري 
على خريطةِ الليل
 أنصَتُ لموسيقى الأمواج  
وكأنها معزوفة كمان
فأصوات تلك الأمواج
 غَرَست الأمل  في روحي
لاسرقُ النظر 
تارةً إلى الصخور 
وما التصق بها
من قواقعِ ومَحَار
وتارةً أخرى 
أرمقُ نفسي بنظرةٍ
لأجوسُ بها  ملامح ظلّي
وأمعنُ النَّظَر
 في مرآة الليل
إلى عينيَّ المُحمَرّة
عَليَّ أتذكر 
أين رأيت هذا الوجه اللمّاح!
.....
هبّت الرّيحُ
فتَشَابكَت أغصان الشَّجر
واندفعت الأمواج وارتفعت
فنفَذَ أريج البحر
إلى أنفي هذه المرّة
لتغتسل الرَّمال
من آثار خُطاي!!
.....
سمعتُ خطى الشرود
تنسحبُ الواحدة تلو الأخرى 
من شوارع ذهني
فقلتُ لنفسي:
أنا أعرفُ
 ذلك المغترب البغدادي
الذي طالت به 
مسافات النَّوَى واتَّسعت
وأعرفُ ذلك الرَّجُل 
الذي تتبّعت خُطى صَلوَاته
 وتعقَّبتُ أثر ترحاله وأحلامه 
وأكادُ أعدُّ عليه أنفاسه
منذ أربعين عامًا.
أوَليس هو نورسٌ حلّقَ 
 في كلِّ البلدان
ليجدَ بحرًا 
يحطُّ به الرحال
ولكلِّ بحرٍ قال:
يومًا سأعود لشواطئ دجلة
لاصلّي على ضفاف الفرات
وأراقّصُ شُمُوس بغداد 
حتّى آخرِ ومضة؟.
ولكَن كَم
 من يومٍ مضى وأتى
وكَم جاءت بعده أيام
ليعلّق على جدران السَواحِل
 كَوَابِيسًا إِنْتحَلَت صفة الأحلام!!
.....
 قبل أن يلتقي 
عقربا الساعة ويتعانقا
بوداعِ عامٍ واِستقبال آخر
سأعتبر الغربة  عابر سبيل!
بيد أنّ 
على طاولةِ العمرِ
كَؤوسًا كثيرة 
ذقتُ بها لوعة الاغتراب
حتّى الثُّمالَةِ والسَّكَرِ
 لكنّي في هذا العام
 سأبتسمُ مرّةٍ أُخرى 
بوجه حزني الشاهد عَليَّ
فلستُ العراقي الوحيد
الذي لسعته الغربة
ولا أجمل
من أن تتركَ في دَرْوبِ الحياة
صدى ابتسامتكَ
وآثار خطاكَ!
....
في محطاتٍ بِلا قطار
وقفتُ على رصيفِ الانتظار
أرقَبُ حلمًا تناستهُ الأعوام
لكنّني لن أُطيلُ البقاء 
 على قَيْدِ الانتظار 
 بل سأكون كعّداءٍ  
يركضُ على الجمرِ
أو كحصانٍ يسابق نفسه
في طرقاتٍ
 لا نقطة وصول إليها
لاطارد حلم الوصول للديار
فالوطن دَرْبهُ طويل 
وعمري على ما يبدو
 سنواته قصار!
....
سنة ستمضي بِلا رجعة
وسنة أخرى ستأتي 
بشتى الأحزان والأفراح
 دفعة تلو الدفعة
آمل أن يتلاشى فيها
عدد الموتى في الأضّرِحة 
وتنعَّم القُلُوب بالراحة
والعقول بالرجاحة
فيغدو السلام غِنْوةً صدّاحةً
وأن يكون للفرحة فُسْحَة 
وأن ينسج الله لجميعنا
ثوب صحة لا يبلى.
ولأننا كبشر تعودنا
أن نبني الكثير من الجدران
وقليل من الجسور
آمل أن نُقَلّم أحكامنا
ونُشّذَب أحادّيثنا
لتعمّ الفائدة وتسود المُتعة
لتحلّ المصافحة
 وتتفشى لغة المُسامحة والمُصالحة
فنعطّر حياتنا 
برائحةِ  المحبة الفَوّاحة؛
إذ نظرتنا للحياة
تنبع من عمق ونوعية اكتشافنا لها
لذا كنتُ ومازلتُ من المؤمنين
بإنَّ الحياة جميلة  وتستحق العناق 
وأن نأخذها بالأحضان
رغم مفأجاتها اللافحة
 وخسائرنا الفادحة!
....
سنةٌ جديدةٌ أُخرى
 تُضاف إلى عدادِ العمر
نرجو أن تزيلَ 
من أرواحنا التَجَاعِيد
ومن قَلوبنا الهالات السوداء
فهنالكَ بشر يحتاجون
إلى عمليات تجميل داخليّة
مثل تكبير القلب
توسيع العقل
شفط الحقد
تنظيف الضمير
إستِصَال الكذب
بَتْر النفاق
تنَّحِيف الخداع
نفخ الصدق 
تكسير خلايا الشرّ
ريحيم للسان
الحقن بالروحانيّات
زرع الروح بالعفة
ووغرسها بإنسانيّة الوفاء 
ليطلّوا على الآخرين 
من شُرْفةِ الحياة
بِلا تَصَنّعٍ ومساحيق 
أو عمليات تجميل خارجيّة!
......
إن أهدتني الحياة
عامًا جديدًا
سأحتفلُ مع الله أوّلاً
لأشكرهُ على سنةٍ مضت 
بحلوها ومرّها
وأضعُ العام الجديد 
بين يديه
لأني آلفتُ الإتّكال عليه 
ثَمَّ أرسلُ النورس
 ليمضي مع الليلِ
إلى بلدٍ 
يولد فيه الفجر 
من رحمِ الظلمات
 فهو في كلِّ مرّةٍ 
يتركُ لي قسمًا بالعودةِ
 بغصنِ زيتون وعذقِ نخيل
من بساتين بغداد 
ولا يفعل!!
فهل سيَفَي بقَسَمهِ هذا العام ؟!
....
أخيرًا...
في آخرِ ليلةٍ
من كلِّ عام
 اعتدتُ النوم باكرًا
لأحلم بعراقٍ
خالٍ من السرّاق والظلاّم
ببلدٍ يخلو 
من المليشيات وفساد الأحزاب،
من ضجيج البرلمان 
وعَنتَريّات الحكّام
وعصابات إيران.
فهل تصَدَقُ الأمنيات
وتتحقق أحلام المنام
في مُسْتَهَلِّ هذا العام؟
قولوا معي: آمين.

امستردام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق