فؤاد زكريا/ فهد المضحكي

28 ديسمبر 2019

فؤاد زكريا (1927 – 2010) واحد من أهم الفلاسفة والمفكرين العرب في العصر الحديث، كتب الأكاديمي المصري أحمد سالم أن المفكر المصري زكريا حاول أن يقيم حوارًا فعالاً مع توجهات الاسلام السياسي في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وتحديد الأسباب التي أدت إلى تنامي وتصاعد حدة تواجده في تلك الفترة وفي سعيه إلى تفكيك فكرة أرجع انتشاره إلى «واقع التخلف الذي يعيشه العالم الاسلامي» وانتشار الاسلام الطقوسي الذي يهتم بالمظهر والفصل بين الرجل والمرأة، والتحريمات، والمخاوف الجنسية، بغض النظر عن المضمون السلوكي والاجتماعي الكامن وراءه.

يرى فؤاد زكريا إن ثقافة هذه الجماعات التراثية الجامدة وعجزها عن توظيف التراث بشكلٍ مستنير أدت إلى تعطيل ملكات العقل والنقد لديهم، ما جعل بعضها تسلك سلوكًا متطرفًا، استخدمت فيه العصا وقبضة اليد، أكثر مما استخدمت العقل والمنطق، وهو ما أدى إلى إثارة القلاقل في العالم العربي!.

وبالإضافة إلى ذلك يعتقد أن العنف ليس ظاهرة طارئة على هذه الجماعات المتطرفة، وإنما هو شيء ينتمي إلى تركيبها ذاته، وهو جزء لا يتجزأ من تكوينها النفسي والذهني، وهو وسيلتها الوحيدة لتحقيق أهدافها.

عندما ناقش المرتكزات – كما يوضح الكاتب في موقع حفريات – التي تقوم عليها دعوة الاسلام السياسي للجمع بين الدين والسياسة تبين أن هذه الدعوة يستند فيها الداعون إلى الجمع بين الدين والدنيا، ومن ثم بين العقيدة السياسة على مبدأ صلاحية النص الديني لكل زمان ومكان، وهذا المبدأ ذاته يولد تناقضًا أساسيًا، هو أن الدنيا متطورة والنص ثابت، والمخرج الوحيد من هذا التناقض هو الاقتصار على تأكيد الجوانب العامة فقط في النصوص الدينية، وترك التفاصيل لاجتهادات كل عصر، وفي إطار هذه الكليات العامة يظهر النص الديني في حاجة دائمة إلى البشر كي يصبح حقيقة واقعة ويطبق في مجال إنساني ملموس، وهكذا يبدو من الضروري وجود توسط بشري من نوع ما بين النص والواقع، وفي عملية التوسط تظهر التحيزات ويتجلّى مدى الصراع على ملكية حقيقة الدين.

وينظر فؤاد زكريا إلى دعوة الاسلام السياسي للجمع بين الدين والدولة، بأنها رؤية لا تاريخية تؤدي إلى اغتراب الإنسان عن الزمان والمكان الذي يعيش فيهما، فالاسلام السياسي ينظر إلى التاريخ نظرة دائرية ارتدادية، ترى أن المستقبل لا يتحقق إلا بالماضي المجيد، في حين إن النظرة التقدمية للتاريخ والزمن تركز على كون التاريخ يسير في خط مستقيم، ولهذا كان من الضروري مراعاة المستجدات التي تحدث في المجتمع، والتعايش مع هذه المستجدات بأطروحات مستقبلية، لا أطروحات ماضوية ارتدادية، ولهذا يقول: إن دعوة الاسلام السياسي للجمع بين الدين الدولة، يسود فيها نوع من الشمولية المتزمتة، التي تجمد التاريخ عند مرحلة واحدة من مراحله، وتصم آذانها عن هدير الإنجازات الباهرة، التي تتلاحق يومًا بعد يوم، في العصر الذي نعيش فيه، وتعتمد حركات الاسلام السياسي على رسم صورة للماضي، مشتقة من النصوص، دون تقديم اجتهاد حقيقي، أو برنامج عمل متكامل، تراعي فيه التطور الذي يحدث في حركة التاريخ ومصالح البشر المتغيرة في الاجتماع.

إذا كان – كما يقول الكاتب إيهاب سيد أحمد من موقع «العين الإخبارية» – إن في ذاكرة السابعة إعادة مكتبة الأسرة المصرية إصدار طبعة جديدة من كتابه المرجعي «التفكير العلمي» الذي صدر في سلسلة عالم المعرفة الكويتية للمرة الأولى عام 1978 ومنذ ذلك التاريخ لم يظهر كتاب في البلدان العربية في موضوعه استطاع أن يزاحمه او يزحزح من مكانته وقيمته الكبرى في الثقافة العربية المعاصرة، فإن ذلك يرجع إلى احتراف زكريا الفلسفة لما يزيد على نصف قرن، مفكر عقلاني من طراز فريد، وكان علمًا على مدرسة فلسفية عقلانية نقدية تعتمد النظر النقدي وفعل المساءلة في كل ما يتعرض له من مشكلات او بحوث.

عندما أصدر كتابه القيِّم «التفكير العلمي» ظل هذا الكتاب فريدًا في بابه، ولم يكتب مثله في دقة التحليل وعمق التناول وبساطة العرض، وكذلك في كتابه الآخر عن الفيلسوف «اسبنيوزا» الذي نال عنه جائزة الدولة التشجيعية في مصر عام 1962، وظل هذا رأيه في كل ما كتب من بحوث ومؤلفات، وكتب: «نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان»، و«الإنسان والحضارة» و«خطاب إلى العقل العربي» و«آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة» وغيرها من الأعمال والمؤلفات التي تشهد بأنه كان غزير المعرفة عميق التأمل يتمتع بعقلية نقدية ومنهج صارم طبقه دائمًا ومارسه باستمرار ما جعله أحد أهم المفكرين في العالم العربي.

ساهم فؤاد زكريا بجهدٍ ثقافيٍ رفيع من خلال ترؤسه لتحرير مجلتين دوريتين من أهم المجلات الفكرية والثقافية التي صدرت في القرن العشرين وهما مجلتا (الفكر المعاصر) و(تراث الإنسانية) اللتان كانتا تصدران في الستينات والسبعينات من القرن الفائت، بالاضافة إلى تأسيسه وعمله كمستشار (عالم المعرفة) الكويتية (كانت تصدر عن المجلس الوطني للفنون والآداب والعلوم) منذ يناير 1978.

كان يحذر في كتاباته من ازدواجية الفكر والوقوع في أسر الجمود والحنين إلى الماضي، وكان حريصًا على التأكيد في حواراته ولقاءاته على أهمية بناء العقول وإعادة تشكيلها، جازمًا إن ذلك لا يمكن أن يتم بقرار فوقي، بل بصناعة محيط ثقافي يسهم في خلق ثقافة تحترم العقل وحرية التفكير والإرادة الحرة، وفي رؤية فلسفية لا تخلو من المعاني العميقة، مفرقًا بين معرفة الطريق الذي سنسير فيه والطريق الذي يجب أن نتجنبه او نبتعد عنه، وعلينا أن نعرف الفرق أولاً، ثم نختار أي طريق نسلك.

ومنذ اشتغاله بالفكر والفلسفة والثقافة كانت رسالته الوحيدة بل همه الوحيد هو إحياء العقل النقدي، واستقلال فكر الإنسان وعدم خضوعه لسلطة تحد أو تمنع انطلاقه في النقد والتفكير بحرية، كان دائمًا يدعو إلى تأسيس «ثقافة مصرية وعربية» جديدة تهدف إلى تحديث المجتمع، بفهمٍ جديدٍ للواقع والتصدي لمصادرة حق النقد والتفكير والإبداع، مع تحرير العقل من التعصب وإقصاء الآخر، مع عدم الالتزام بالمسلمات والرؤية الحادة التي تحاصر الفكر والتفكير، بمقولات ثابتة وجامدة، مع التمسك بالتفكير العلمي والمعرفة والتسلح بالنظرة العلمية في الأسلوب والتخطيط والعمل، باعتبار ذلك من ضروريات النهضة الحضارية.

باختصار، ظل مشروعه الثقافي والفكري ينطلق مع أهمية احترام عقل الإنسان تحريره من كل قيود مع حقه في النقد والرفض لكل المسلمات والقوالب التي تنتقل عبر أجيال دون أي محاولات لغربلتها وفحصها والتعرف على أصولها وماهيتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق