چدعون چيتاي ١٩٤٠-٢٠١٩/ حسيب شحادة

رحل عن هذه الفانيةا في بيته في هلسنكي، صديقي چدعون چيتاي (ڤاينراوب في الأصل) في الخامس والعشرين من شهر تشرين ثانٍ في العام الفائت، إثرَ صراع مع مرض السرطان في الجلد. لفظ جدعون أنفاسه الأخيرة، كما أبلغتني زوجته، بسلام وهدوء، وبجانبه كانت ابنته ياعيل وزوجته الفنلندية البروفيسورة في علم النفس في جامعة تامپري. يبدو أنّ المرحوم، كان قد أحسّ باقتراب نهاية أجله، قلب الإنسان دليله، فسافر في شهر تموز ٢٠١٩ إلى حيفا مصطحبًا زوجته، وقد قال لأصدقاء له هناك  بأنّه يشعر كأنّه يقول وداعًا لمسقط رأسه المثير للجدل. دُفن چدعون في المقبرة اليهودية في هلسنكي وشقيقه الأصغر الشهير عاموس، منتج أفلام أيضًا، تلا صلاة الموتى عليه (قديش)، وممّا ذكره عاموس في كلمته بعد انتهاء مراسم الدفن: شقيقي لم يكن مؤمنًا إلا أنّه ظلّ يهوديًا وحافظ على العادات والتقاليد اليهودية التي من ضمنها البحث عن الحقيقة والتمرّد. 

چدعون وُلد في مدينة العفولة في فلسطين، وعاش في حيفا، قبل أن يغادرها إلى فنلندا في العام ١٩٦٥ وحصل على الجنسية الفنلندية. والداه ولدا في فلسطين في عهد الحكم التركي، وكان والده الذي درس هندسة البناء في ألمانيا، قد هرب من الحكم النازي في ثلاثينات القرن العشرين.  نوى چدعون السير في أعقاب أبيه فالتحق بجامعة زيوريخ التكنولوجية، ولكنّه توقّف عن تلك الدراسة وشرع بانتاج الأفلام، لا سيّما الوثائقية Gig Films Oy: يوميات جندي في التعبئة، ١٩٨٧؛ أُوم شموم سبع ساعات حتى الموت، ٢٠١١، باسم الله، لقاءات موسيقية. زاول المرحوم  مهام عدّة في التصوير والإنتاج والتحرير والإخراج؛ لم يكن المرحوم  عضوًا في الحزب الشيوعي ولكنّه كان قريبًا في  آرائه السياسية والاجتماعية والاقتصادية من مبادىء الحزب الشيوعي في البلاد وعمِل مصوّرًا في صحيفة الاتّحاد الحيفاوية الشيوعية وأسّس أرشيف الصور فيها. تكلّم چدعون عدّة لغات بطلاقة، إضافة للعبرية، لغة أّمّه، مثل: السويدية والفنلندية والإنجليزية والألمانية والفرنسية وقليلًا من العربية الفلسطينية. 

مواقفه السياسية كانت واضحة وحازمة، عارض العسكرة والحرب والعنصرية والتمييز بكل أشكاله، وكل ذلك يتجلّى في أفلامه مثل: يوميات الجندي والعنف الأبيض اللذين يعالجان الأبارتهايد في جنوب إفريقيا. ويذكر أنّ چيتاي كان قد أجرى مقابلة مع إسحق رابين للراديو الفنلندي بشأن السلاح الإسرائيلي في جنوب إفريقيا ذات الحكومة العنصرية. كلّ من عرف چدعون، وكنت قد التقيت به في هلسنكي للمرّة الأولى في منتصف تسعينات القرن العشرين عن طريق صديق سويدي مشترك، يعلم يقينًا مدى حساسيته للعدل والحرية والأخلاق النبيلة، والدفاع عنها، كان عفويًا، عصبيّ المزاج، يقول ما يفكّر به بدون رتوش، ويستمع لآراء الآخرين، كان يغرّد خارج السرب. دافع دومًا عن الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني الذي ما زال يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، أطول احتلال في العصر الراهن. كان ذا قلب واسع لا يحقد على أحد. قاسى الأمرّين في مسقط رأسه في إسرائيل في كلّ مرّة زارها، حيث يتمّ اضطهاد الفلسطينيين وحتّى جرائم حرب، كان جريئًا لا يخشى أحدا. وكان چدعون يكتب مقالاتٍ في الصحيفة العبرية الإلكترونية ”الضفّة اليسارية“ وينظر في:

وأورد في ما يلي مقتطفات مما ورد في هذا الموقع: 

”حان الوقت للكشف: قبل ٣٨ عامًا صوّرتُ المرأة التي بكت على خراب بيتها، بعد أن هدم الجيش  الإسرائيلي الذي خدم فيه زوجها البيتَ في منطقة عسكرية ٩، ثمّة سكن بدو من قبيلة عرب السواعد. ظهرت الصورة على ملصَق/پوستر دعا للقيام بإضراب في يوم الأرض في الثلاثين من آذار عام ١٩٧٦. وبعد تطهير المنطقة العسكرية ٩ من العرب، أصبح المكان يحمل الاسم ”چوش سيچڤ“ لليهود فقط. يبدو أنّّه ليس كافيًا أنّ أوامر حكومات الدولة اليهودية تُدخل الشاباك، ذراع الأمني العامّ، في عرب إسرائيل لتدميرهم ولتهويد الجليل؛ ولذلك يغرس الشاباك متعاونين (مشتاپيم) معه لأنه يرمي إلى جعل أبناء البلاد أعداء ويضاعف البغضاء التي ستؤدي إلى الترحيل/ الترانسفير، ومنذ ذلك الوقت إلى الآن أقيم في الدولة اليهودية نظام حكم أبرتهايدي صهيوني، حكم العنف تجاه العرب الفلسطينيين، الذي يخلّف ندوبًا لدى الجنود والمواطنين الإسرائيليين أيضًا، وهو الذي أدّى في نهاية المطاف إلى اغتيال رئيس الحكومة … في نابلس كسرنا بالقوة وبالعقل الانتفاضة ... “. 

دأب چدعون وزوجته على زيارة إسرائيل/فلسطين مرارًا وبحثت زوجته تأثير صدمات الحرب والعنف على الأولاد الفلسطينيين، لا سيّما في غزّة. ويذكر أن چدعون كان قد تخلّى عن جنسيته الإسرائيلية بعد حرب العام ١٩٦٧. بمقدار النقد اللاذع الذي كان چدعون يوجّهه لسياسة إسرائيل العنصرية كان مقدار حبّه للغة العبرية، لغته الأولى، الثقافة اليهودية والبلاد والشعب هناك. حبّه للتحدّث بالعبرية السليمة الثرية وشغفه لسبر أعماق أصول الكلمات وتشعّب الدلالات، بدا لي واضحًا منذ اللقاء الأوّل بيننا، ثم استمرّ سنين طويلة. ذلك الحبّ للعبرية زرعته في روح چدعون والدته إفرتية مرچليت المثقفة، القاصّة والمعلّمة.  

چدعون أحبّ الحياة، وكان حُلمه في الآخرة أن يُصبح لغويّا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق