في تأمّل تجربة الكتابة: على كلّ حالٍ هذا أنا/ فراس حج محمد

في أحيان كثيرة يظلم الإنسان نفسه، بل كثيرا ما يقوم بذلك، بهذه الحكمة المزعومة أنهيتُ رسالة إلى صديق كاتب، بعث إليّ يسألني رأيي في مسودة ديوانٍ شعريّ له. كتب صديقي لديوانه المخطوط مقدّمة لا يرى نفسه فيها شاعرا، ولكنه كتب هذه النصوص كحالة استثنائية هروبا أو استراحة من القصة القصيرة التي يكتبها وأحرز فيها بعضا من الإنجازات، وأصدر عدة مجموعات قصصية.
أنا كثيرا ما اتخذت الموقف ذاته تجاه ما أكتب، عبرت عن ذلك في بعض رسائلي إلى شاعرة عربية، إلى الحد الذي عنونت فيه الرسالة التاسعة بـ "لست شاعرا جديرا بالقراءة أو أن أعد في الشعراء"، وفي شهادة أخرى من هذه السلسلة "في تأمّل تجربة الكتابة". أحيانا أشكّ في مقدرتي اللغوية وأدواتي الأدبية، ولا أراني كفُؤا لأزاحم الكتّاب في مجالسهم، أو في أماكن نشرهم في الصحف والمجلات، وامتنعت عن إزعاج الناشرين بإرسال مسوّدات كتبي. أصبح لدي قناعة أنها هراء لا يفيد أحدا، وعدم طباعتها أفضل من أن تمدّ رفوف المكتبات بالكثير من العبث والرداءة.
قلت ذلك مرارا، ولم أشعر يوما أن الكتابة يمكن لها أن تكون جيدة وهي تتجسد في أوراقي. الغريب أو ربما هي الصدفة المحضة تلك التي جعلتني أقرأ عن الكاتب والمفكر والفيلسوف المصري زكي نجيب محمود، إذ كان ينظر إلى نفسه بتواضع في تقدير ملكاته الكتابية. هذه النظرة ليست تواضع الكبير، بل إنها حقيقة ما يرى الشخص نفسه بهذه الكيفية وفي هذا المستوى، فرحم الله من عرف قدر نفسه، فأوقفها عند حدها.
لم أقل يوما عن نفسي أنني كاتب جيد، ولم تصبني شهوة الغرور بدائها، بل إنني ما زلت أحاول. أكتشف أنني كل يوم أزيل عن لغتي بعض أشواكها، وأفتح لها فسحة جديدة ليكون سريانها في تربة النص أفضل من قبل. أحاول أن تكون جملة كالفراشة تطير برهافة وتقول بإيحاء ما تريد قوله.
ربما كنا مخطئين أنا وصديقي الكاتب ومن قبلنا المفكر اليساري زكي نجيب محمود وظلمنا أنفسنا في تسويق فكرة متواضعة عنا وعن مقدرتنا الكتابية. 
في الموجة الثانية من الانتشار على الفيسبوك أكسب ود صداقات جديدة. شعراء ومثقفون، يمدحون ويغالون في المدح. أفكر ثانية بالخروج مرة أخرى من هذا النفخ المستبدّ بي، أعود إلى حيث كنت أسمع نفسي، وأنمو بهدوء. لا أريد أن يكون النفخ وَرَماً مرَضياً مزمنا وخطيراً، يسبب عمى البصيرة.
صديقتي المثقفة والمحاضرة الجامعية تكاد لا تسيطر على نفسها وهي تمدحني عندما تقرأ لي نصا أعجبها، تذكّرني بفتاة "ثرثرة الشفاه"، لا أدري من أين لها تلك اللغة الإنشائية، ومن أين تستحضر تلك التعبيرات. ومن أي نبْع تستقي أفكارها لأحاكم على الملأ لأنني شاعر حقيقي، تُسْكِر قصائده النساء وتكفّر المعتكفين في المسجد. إنها قالت أكثر من ذلك وبانفعال واضح، وحتى لا أنزلق في وهم مدح الذات بطريقة لا مباشرة أكتفي بذلك.
صديق ثانٍ يرى أنه لا ينقصني سوى الإعلام والمنصة التي تحملني إلى الناس، مع أن كثيراً من المنصات يصلها ما أكتبه وتتجاهله، بل ما زالت بعض الصحف تنشر ما أرسله لهم في باب "رسائل القراء" أو "بريد القرّاء"، ولم تفلح الثمانية عشر كتابا التي اقترفت جريمة تأليفها أن تجعل لي مكانا بين الكتّاب الآخرين، كأنها تصرّ على أن تجعلني في خانة المحاولة ليس أكثر. هل أكون مسرورا لو جعل مني الإعلام هالة معبأة بثاني أكسيد الكتابة؟ هناك إذن من يراني كما أرى نفسي. متواضع، أحاول، وأجتهد، كما كتب الدكتور عادل الأسطة تعليقا على موضوع "اكتب لتكون إلها": "الاجتهاد ضرورة"، فلم أدر هل كان يمدح أم كان يذم، أم أنها فقط مجرد محاولة لا أكثر. أو ربما لم تعجبه الفكرة. أتخيّل موقف الدكتور الأسطة لو كانت الفكرة قادمة من الثقافة الفرنسية أو الألمانية أو الأمريكية. هل سيقول ما قال؟
صديقتي التي أحبّها جدا، الشاعرة العربية التي كتبت لها كثيرا من الرسائل عام 2018، وبداية عام 2019، تعاتبني على هذا الانتقاص من نفسي، عندما فسّرتُ موقف دار نشر نشرت لي واحدا من كتبي الراكدة الكاسدة، أنهم يعاملوني بدونيّة واضحة وعدم اهتمام، ولا يرون فيّ غير مموّل، أعبئُ فراغا في برنامجهم الشهري ليكون التوقيع مجرد نشاط ملحق، وليس احتفالية مهيبة أسوة بكتّابهم الآخرين، تغضب مني بشدة وتقول هناك كثيرون لم يقدّموا شيئا ويصرّون على أنهم ناجحون، ولكنها في نهاية المطاف تصفعني بقولها: "ما حدا أجبرك". صديقتي هذه أيضا لم تفهمني، وربما هي تفهم قولي وترى فيّ ما يراه الآخرون الذين يحشرونني في زاوية المحاولة ليس أكثر.
ربما كثير من الكتّاب تحدّثهم أنفسهم الحديث نفسه، لكنني أؤكد أنني لم أبغِ إلا القول المباشر وليس العكس، فأنا مريض من جهة القناعة بما أكتب، ولكنني لا أدري لماذا أصرّ على الكتابة. إنها إدمان، ولكنه إدمان المرض وركوب مطيّة المعاصي التي لا تُغتفر.
على كل حال، عليّ أن أتابع وأكتب، وأركب رأسي حتى نهاية الشوط، وأشرب كل أقداحي، فإما أن أموت ثمِلا أو أسكر في نشوة عابرة، محاولا تناسي كل عوامل الإحباط الذاتية التي هي في لحظة صدق مع الذات عوامل موضوعية جدا، كأن يظلّ رئيسك في العمل يلمزك من طرف خفيّ أنك تنشغل أحيانا بأمور الكتابة خلال ساعات العمل الرسمي، ويبدي عدم ارتياحه إن زارك أحد الأصدقاء، ولا ينزعج إن قضى كثير من الزملاء ساعات العمل في سماع الأغاني أو متابعة الفيسبوك، مع أنه لا يسلم من ذلك وإن كان بطريقة غير مباشرة. ولكنها لعنة سوء الحظ التي تختار جمهورها وأصحابها بعناية فائقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق