يشتمل كتاب الدكتور نبيل طنّوس "اقتفاء أثر الفراشة- دراسات في شعر محمود درويش" على ثماني مقالات، تناولت قضايا في شعر الراحل محمود درويش أو تناولت بالدراسة والتعليق قصائد مختارة. صدر الكتاب عن مؤسسة محمود درويش للإبداع، الجليل، كفر ياسيف، 2019، ويقع في (196) صفحة من القطع المتوسط، وضمت دفّتا الكتاب غير الدراسات الثمانية مدخلا لمدير عام مؤسسة محمود درويش للإبداع عصام خوري، وتوطئة للمؤلف يبيّن فيها ملامح الكتاب ومما يتكون، وجاءت المقدمة قصيرة ومعرّفة بالكتاب بشكل مجمل.
سبق للباحث أن نشر هذه المقالات التي يضمها الكتاب في صحف ومجلات، وقد أنجزت جميعها بعد رحيل الشاعر محمود درويش إن سلّم القارئ بأن تاريخ نشرها هو تاريخ إنجازها/ كتابتها، وتراوح تاريخ نشرها بين عامي 2014 و2018، وجاءت واحدة من تلك الدراسات مشتركة مع الدكتورة راوية جرجورة بربارة. وجاءت المقالات بالمجمل متقاربة في المساحة التي احتلتها في الكتاب، عدا قراءة الباحث في قصيدة "لو ولدت" فقد جاءت أقصر من بقية المقالات، وكذلك كانت الدراسة المشتركة مع الدكتورة بربارة أطول تلك المقالات، كما أن هذه الدراسة تناولت قصيدة غير منشورة للشاعر في أي ديوان من دواوينه، وهي قصيدة "يأس الليلك"، مع أن هذه القصيدة لم تكن هي القصيدة الوحيدة التي لم تدرج في أي ديوان من دواوين الشاعر، وكنت قد تتبعت ذلك وجمعت ثلاث قصائد أخرى للشاعر محمود درويش، لتكون ضمن كتابٍ جديد أعمل عليه، جمعت فيه قصائد لم تنشر لشعراء غير درويش أيضا.
يفتح كتاب الدكتور طنّوس شهية الحديث حول الشاعر وشعره وما أنجز عنه من دراسات، وما سينجز عنه في المستقبل، إذ ما زال الشاعر درويش أكثر الشعراء حضورا نقديا، وخاصة بعد وفاته، فمنذ توفي والكتّاب لا ينفكّون يكتبون فيه وفي شعره المقالات والدراسات ويصدرون الكتب، فقد سبق لي مثلا أن احتفيت بذكرى ميلاده في الثالث عشر من آذار بإصدار كتاب "في ذكرى محمود درويش" عام 2016، وقد اتخذت السلطة الفلسطينية هذا اليوم يوما للثقافة الفلسطينية، ومن بين تلك الكتب أيضا كتاب "هكذا تكلم محمود درويش- دراسات في ذكرى رحيله"، 2009، حرره عبد الإله بلقزيز واشترك فيه غير المحرر سبعة من الباحثين، وكتاب خليل قطناني "شعرية المكان في ديوان محمود درويش"، 2012، وكتاب سليمان جبران "نظم كأنه نثر" 2017، ويناقش فيه الإيقاع في شعر محمود درويش، وكتاب الدكتور إبراهيم السعافين "شعر محمود درويش تحولات الرؤية تحولات اللغة"، 2018، وغيرها الكثير، عدا ما أنجزه الباحثون والدارسون ونشر في المجلات المحكمة والصحف والمواقع الإلكترونية.
وبالإضافة إلى هذا الجهد البحثي المهم، أود الإشارة إلى ما كُتب عن محمود درويش، خارج نطاق الدراسات النقدية، ومن ذلك كتاب نبيل عمرو "محمود درويش .. حكايات شخصية"، 2014، وكتاب امتياز دياب "ميلاد الكلمات"، هذا الكتاب الذي جمعت فيه وثائق الشاعر الراحل وصدر عن وزارة الثقافة، وكتاب "محمود درويش: مقالات اليوم السابع" للكاتب حسن خضر، وكتاب زياد عبد الفتاح "صاقل الماس"، وكتاب "محمود درويش يتذكر في أوراقي- أكتب لأنني سأعيش" للشاعر والناقد اللبناني شربل داغر. وقد صدرت كل تلك الكتب في عام 2019.
هذا الحضور النقدي والاحتفالي للشاعر قلما يحظى به شاعر آخر، فهو بحق "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، عدا كل ذلك، فإن القارئ سيجد مقتبسات من شعر درويش في مقالة سياسية أو اجتماعية أو نقدية أو أدبية. في هذا السياق من الحضور النقدي والمعرفي لدرويش يمكن إدراج كتاب الدكتور طنّوس ضمن هذه الشبكة من استحضار الشاعر رغما عن الغياب الذي لم يكن غيابا بالمعنى الكامل، بل إنه يحقق حضوره يوميا في الحركة الثقافية، شعرا ونقدا على السواء، ويصدق في حق الشاعر ما قالته الشاعرة فدوى طوقان: "درويش يمتاز بالنجومية، وهو أحادي الانفراد في أجواء الشعر. درويش طور شعره وفاق كل التصورات. ولا يوجد شاعر استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه درويش من حداثة وتطور، فقد وصل إلى حد العبقرية". (حوارات فدوى، يوسف بكّار، ص 81)
يحمل كل كتاب وجهة نظر يريد الكاتب أن يوصلها إلى القارئ، فضلا عن التعريف بالمكتوب عنه، ولا يتضح الهدف من الكتاب فيما كتبه عصام خوري، ولا فيما كتبه الباحث نفسه من "التوطئة" عدا أن هذه الدراسات والمقالات يجمعها موضوع واحد؛ وهو البحث في شعر درويش، وارتأى الباحث أن يصدرها في كتاب. وهنا من حق القارئ أن يسأل ما الإضافة التي قدمتها تلك المقالات، وتشكل إضافة نوعية لمكتبة درويش البحثية والنقدية؟
يجب أن يحمل كل كتاب جديدا في موضوعه، أو منهجيته البحثية، وأظن أن هذا الكتاب "اقتفاء أثر الفراشة" لا يخلو من بصمة خاصة لمؤلفه، بدءا من جمع تلك المقالات والدراسات في مؤلف واحد لتكون في متناول الباحثين والدارسين، لاسيما أن تلك المقالات منشورة في تواريخ متباعدة وفي صحف ومجلات قد يصعب على الباحثين العودة إليها لو بقيت متناثرة، وهذه خدمة جُلّى يقدمها الباحث للباحثين الآخرين الذين قد لا يلتفتون إليها وهي غير مجموعة في كتاب، وأيضا يشكّل جمعها خدمة للباحث نفسه الذي جعل منها مادة متناسقة بين دفتي كتاب، يضاف إلى منجزه البحثي والنقدي.
يثبت الباحث في نهاية كل دراسة ومقالة مجموعة من المصادر والمراجع، ومنها ما يتصل بدراسات حول الشاعر وشعره، وتساهم في تعميق البحوث الآتية، وقد تنوعت مصادره ومراجعه، وتكشف تلك المراجع والمصادر تنوع المصادر والدراسات التي كان الباحث يقتبس منها ويعتمد عليها في التحليل، سواء أكانت دراسات نقدية سابقة أم مصادر مساعدة لفهم شعر الشاعر من نصوص دينية وأدبية وأسطورية.
لقد تنوعت دراسات الكتاب ومقالاته ما بين البحث المنهجي وما بين القراءة الانطباعية، ومال أحيانا إلى الشرح المدرسي البسيط الذي يشرح فيها النص جملة جملة، ويبين رأيه فيها، كما أن أسلوبه هذا جعله يتعامل مع بعض القصائد وحدات منفصلة، يشرحها مستقلة عن بقية المقاطع دون أن يربطها معا في الرؤية التحليلية المتكاملة، حدث ذلك ثلاث مرات؛ عندما تناول بحث الصورة الشعرية في المقال الثالث، وقصيدة "أيام الحب السبعة"، وكذلك قصيدة "رباعيات".
تنبغي الإشارة إلى أن كتاب "اقتفاء أثر الفراشة" ليس الكتاب الوحيد الذي يجمع فيه صاحبه مقالات منشورة، فقد كانت هناك كثير من الكتب الذي قام فيها أصحابها بجمع مقالاتهم ذات الموضوع الواحد في كتاب، كما حدث مع كتب إدوارد سعيد مثلا الذي لم يؤلّف إلا كتابا واحدا خارج هذه المنهجية، وهو كتاب "الاستشراق"، وكما فعل أيضا طه حسين في كتابه "حديث الأربعاء" بأجزائه الثلاثة، ولم يكن المؤلفون العرب وحدهم في ذلك، فثمة كتب أيضا لمؤلفين غربيين فعلوا ذلك، كجورج أرويل وكتابه "لماذا أكتب"، وكتاب "كيف تكتب الرواية" لماركيز، وكتاب "القارئ في الحكاية- التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية" للكاتب والروائي أمبرتو إيكو، وغيرها الكثير، وبعض الكتب السابقة عن الشاعر درويش أيضا، تتألف مادتها من مقالات سبق أصحابها نشروها قبل أن تضمها دفّتا كل كتاب من تلك الكتب.
إن هذا قد يوقع الكتّاب أحيانا في فخّ التكرار، بحكم أن المقالات أنجزت على فترات متباعدة، كما حدث مع الباحث في هذا الكتاب، فكان يكرر فقرات طويلة في مقالات متعددة، ولم يكن الدكتور طنوس أول من وقع بمثل هذا، فقد سبق أن وقع فيه على سبيل المثال الدكتور جابر عصفور عندما جمع مجموعة من المقالات حول مسيرته العلمية في كتاب "زمن جميل مضى"، وكان قد نشر مقالاته في صحف ومجلات متعددة، وقد أشرت إلى ذلك عندما كتبت عن الكتاب مقالة بعنوان "ساعة مع كتاب زمن جميل مضى"، ونشرتها في كتابي "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، والصادر عن مؤسسة أنصار الضاد، في أم الفحم، 2019. وقد أشار الباحث سليمان جبران في كتابه "نظم كأنه نثر" إلى هذه المسألة، فكتب: "إلى القارئ الكريم: واضح أنّ المقالات في الكتاب لم تُكتب كلّها في الوقت ذاته، وفي نفَس واحد. لذا، قد يجد القارئ تكرارا للفكرة ذاتها في أكثر من موضع أحيانا. المعذرة سلفا! "في الإعادة إفادة"؟! (ص 9)
وهنا لا بد من أن يكون الباحث طنّوس قد انتبه إلى ضرورة إعادة تحرير هذه المقالات، ويكتفي بالإشارة إليها باختصار والإحالة عليها في موضعها من الكتاب، أو يتجرأ بحذف تلك الفقرات المكررة، ليقدم مادة متآلفة ملتحمة ذات فلسفة واحدة. كما كان من الضروري أن يعيد القارئ إلى الكتاب نفسه عندما يحتاج إلى الاستشهاد برأيه في موضوع معين سبق وذكره في موضع من الكتاب، وليس إحالة القارئ إلى المقال الأصلي في الصحيفة أو المجلة، وكان ينبغي أيضا حذف أسماء تلك المقالات من القائمة المثبتة للمراجع والمصادر عقب كل مقال أو دراسة وجدت فيها.
لقد قدم الدكتور نبيل طنوس في كتابه هذا جهدا نقديا مهما، لا يستطيع باحث منصف أن يقلل من شأنه أو الانتقاص منه، مع إمكانية الاختلاف مع الباحث فيما قدمه من رؤى وتفسيرات حول شعر الشاعر وخاصة ما جاء في المقال الثالث حول الصورة الشعرية، فكان يقدم فهمه الخاص معتمدا على تذوقه الجمالي للنص، ولا يستطيع أحد أن يقول إن الباحث هنا قد أخطأ أو أصاب، وإنما هي من مقتضيات عملية التلقي التي قد يفترق فيها المتأدبون والدارسون، ومن حق المتلقي أن يفسر النص كما يرى إن قدم تفسيرا منطقيا ومقبولا، بصرف النظر عن ملابسات النص التاريخية وزمن إنتاجه، فالشاعر محمود درويش لم يكن خاضعا خضوعا آليا للحظة الزمنية في إنتاج النصوص، وإنما كان يمنح النص كثيرا من الصنعة ليكون أشبه بالنص العام والمطلق المتحرر من زمنيته، فربط النص بلحظته التاريخية وإحكام التفسير بناء عليها يؤدي إلى أن تفقد تلك النصوص جماليتها وخلودها وإشعاعها المتجدد مع كل قارئ أو مع كل قراءة جديدة للقارئ نفسه.
وأخيرا، يبقى إصدار كتاب نقدي مهمة ليست سهلة، في ظل هذا الطوفان العارم من الكتّاب الذين يكتبون النصوص والروايات، وأغرقوا رفوف المكتبات بالكتب التي تحتاج للقراءة النقدية الواعية، للتعريف بها، والكشف عما وراءها من وهبة جادة أو ما فيها من تطفّل على صنعة الكتابة، مع أن هؤلاء الكتّاب نادرا ما يقرؤون كتابا نقديا أو دراسة نقدية جادة، وهذه مهمة الناقد الذي يجب أن يلتفت إليها أيضا دون أن يظل محصورا بأدب الكتاب الكبّار، شعراء وروائيين، فيدفع هذا الجيل من الكتّاب إلى قراءة النقد والاستفادة منه، فيكتبون النقد بعيدا عن لغة الهندسة واللوغرتمات الرياضية، فيتناولون الأعمال الأدبية بلغة مفهومة واضحة وعميقة رصينة، تقترب من الكتّاب ولا تتعالى عليهم، لتغدوَ العملية النقدية عملية محايثة ومواكبة بل ملتحمة مع العملية الإبداعية ولا تنفصم عنها أو تستقلّ بعيدا عن مداراتها المتوهجة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق