حول انتفاضات الشعوب / فهد المضحكي

6 يناير 2020

تنتفض الشعوب، بكل مكان عبر العالم، في كل القارات تقريبًا وفي أكثر من اثني عشر بلدًا، في أثناء الأشهر الستة الأخيرة، جرت انتفاضة في الجزائر، وفي كاتالونيا، وفي تشلي، وفي إيران وفي الإكوادور، وفي فرنسا، وفي هايتي، وفي هندوراس، وفي هونغ كونغ، وفي العراق، وفي لبنان، وفي نيكاراغوا وفي بورتوريكو، وفي السودان، اتسمت هذه الانتفاضات بوجه عام بطابع شعبي يساري بالأحرى، ونضالي وتعبِّر عن الكثير من الغضب والتحديات وتتمثل خاصيتها المشتركة في كونها تمردات للطبقة الوسطى الدنيا، وللطبقة العاملة والفقراء.

وقد تجاوزت مختلف هذه الحركات حدود النظام السياسي، وفي كل مكان يطعن من ينزلون إلى الشارع في النظام، أيًا كان اسم هذا النظام الذي يعيشون فيه، وعندما حاولت الحكومات سحق هذه الحركات، رد المواطنون، رافضين إخلاء الشارع، ماذا يكمن خلف هذه الانتفاضات؟ وما أسبابها؟ وإلى أين تسير؟.

هذا الكلام للكاتب الأمركي دان لابوتز «Dan La Botz» الذي يرى – نقلاً عن جريدة «المناضل - المغربية 7 نوفمبر 2019» إن ثمة عناصر مشتركة بين هذه الانتفاضات: التفاوت الاقتصادي، والتقشف المفروض وشطط السلطة من قبل الحكومات، الشعور هو أنهم لا يكترثون بنا، وفي عدد مهم من هذه البلدان، فقدت الدولة مشروعيتها ولم يعد المواطنون يثقون في الأحزاب السياسية التاريخية، لكن بوجه عام ليس بوسع أي حزب يقدم برنامجًا سياسيًا بديلًا أو قيادةً سياسية جديدة، مع ذلك، زعزعت الانتفاضات السلطات القائمة في كل بلد، وبثت موجة صدم قوية في النظام السياسي الدولي.

تحرك تمردات اليوم، بكل البلدان التي أتينا على ذكرها، قوى عديدة إعادة تحديد توازن السلطات بين الدول – الأمم، وكذا الطبقات الاجتماعية – داخل تلك الدول، وأدت في آنٍ واحد إلى أزمة النظام النيوليبرالي إلى الانهيار النهائي الأهم للنظام المشيد بعد الحرب العالمية الثانية، ويمثل تحويل الصين إلى رأسمالي عالي الأداء وانهيار الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية في سنوات 1990، ثم الانحسار الاقتصادي 2008، إلى عناصر محت تقريبًا قسمة العالم القديمة بين أمم أو معسكرين، أو بين بلدان عالم ثالث وآخر متطور، نعيش حاليًا في عالم يتميز بفسيفساء أقصى اغتناء وفقر غير مبرر في كل البلدان تقريبًا.

القوى المحركة الكامنة في هذه التطورات – بعضها مرئي بالكاد في اللحظة الراهنة بسبب القصف بخراطيم المياه وسحب الغازات المسيلة للدموع والرصاص الحي – ستوجد مستقبلاً في إعادة تنظيم الاقتصاد العالمي الذي يقودها الرأسماليون الماليون بحفز من السعي إلى الربح والتحكم الاقتصادي، قام كبار أثرياء المالية وأرباب العمل في الخمسين سنة الأخيرة، وبسرعة متزايدة في 20 سنة الأخيرة – بتطوير الصناعة مع الأقمار الصناعية والشرائح الإلكترونية والحواسيب والأتمتة وأشكال جديدة من التنظيم التدبيري لليد العاملة وبخلق رقابة إلكترونية بأماكن العمل.

وتنامت بشكل هائل التفاوتات الاقتصادية بسبب تزايد الإنتاج المذهل في العالم برمته في إطار اقتصاد نيوليبرالي – من استخراج المعادن إلى التصنيع مرورًا بالخدمات – وهذا كله بفضل اتفاقات تجارية عالمية وبفضل النقل بالصناعة اللوجيستية بمستودعاتها وحاوياتها البحرية، واغتنت الطبقة الرأسمالية وشركاؤها السياسيون بكل مكان على حساب الطبقة العاملة والمفقرين.

وأثار هذا كله حقدًا هائلاً ومبررًا جدًا لدى أغلبية سكان العالم.

لا ريب إننا دخلنا بعيد انحسار 2008 الاقتصادي الكبير، حقبة سياسية جديدة، حيث التمرد والقمع يتناوبان.

بدأ هذا في العالم 2011 مع حركة الميادين في اسبانيا، ومع حركة احتلت وول ستريت في الولايات المتحدة الأمريكية والربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، كما أدت الأزمة الاقتصادية إلى ميلاد أحزاب جديدة وشخصيات سياسية بنزعة قومية: عصبة الشمال في ايطاليا، والبديل لأجل ألمانيا، وبوريس جونسون في انجلترا، ودونالد ترامب بالولايات المتحدة، ولا تزال عواقب الأزمة مستمرة بكل مكان في كل الانتفاضات الحديثة نرى الطبقة العاملة والفقراء ينهضون ويتحركون خارج – وحتى ضد – المنظمات والمؤسسات الاجتماعية، من نقابات وأحزاب سياسية كما حدث بأماكن عديدة، التف العمال على تلك المؤسسات، وحالوا إرغامها على التحرك وأجهدوا لطرد قادتهم وتغيير سياساتهم.

وبدون أحزاب سياسية خاصة بهم، لم يتمكن العمال من صياغة برنامج واضح، لكن تحركاتهم النضالية وشعاراتهم أبرزت أنهم يطالبون بمجتمع مغاير كليًا، مجتمع حيث سيكون صوت العمال /‏ آتٍ مسموعًا وحاجاتهم ملباة.

إن لهذه الانتفاضات المتزامنة سمات متباينة، ففي فرنسا تتكون حركة السترات الصفر، التي دامت شهورًا وأوقفت تجارة البلد وتظاهرت في أغنى أحياء باريس، من عمال بلا نقابات، من الحلاق إلى الرجل الصالح لكل شيء، وفي تشيلي أشعل الطلاب الاحتجاجات برفض تسعيرة المترو، وبالقفز على مزاليجه، لكن عندما أنزلت الحكومة دبابات إلى الشارع لأول مرة منذ ديكتاتورية الجنرال أوغستوبينوشيه أضرب العمال الشيليون، وانضم الجميع في هونغ كونغ إلى المظاهرات، من عاملات الطبخ إلى المبرمجين، وانضم الطلاب في نيكاراغوا إلى المسنين، وتبعهم مجموعة من السكان الذين نصبوا المتاريس.

ردت الحكومات في كل مكان تقريبًا بمحاولة قمع الحركة، مستعملة شرطة محاربة الشغب، وخراطيم المياه، وغاز إسالة الدموع، والهراوات والاعتقالات، وبكل مكان سقط قتلى وجرحى مثل العراق وهونغ كونغ ونيكارغوا وتشلي وإيران عندما يتعاطف قسم كبير من السكان مع الاحتجاجات أو ينضم إليها، تصبح تمردات شعبية، أي تمردات لمجمل السكان، ومن ثمة يمكن لطابعها الطبقي أن يكون مبهمًا وغير محدد، وإن كان العمال محركها إلى الأمام، كما أن مطالبها بالديمقراطية تأتي أحيانًا ناقصة الوضوح وغير مُطورة ويمكن لمطالبها من أجل الديمقراطية أن تطمس التناقضات الملازمة بين من يسعون إلى دولة ليبرالية وديمقراطية برلمانية - تسيطر فيها البنوك والمقاولات - ومن يسعون الى شكل من ديمقراطية الطبقة العاملة حيث للجميع نفس الصوت ونفس التصويت، ولأنها بالضبط انتفاضات جماهيرية، نراها مكونة من مجموعة اجتماعية عديدة، وثمة أفكار عديدة متباينة، وسجالات ونقاشات – وهو الأمر الضروري والإيجابي جدًا.

إن التمردات الشعبية الجماهيرية تدخل طور بحث سياسي عن برنامج وعن قادة، لقد علمنا التاريخ أنه عندما تصبح التمردات الاجتماعية سياسية يخضع القادة والأحزاب والبرامج للامتحان في النضال ضد النظام القديم وفي الصراع بين مختلف اتجاهات الحركة من أجل إرساء نظام جديد، وتحتاج الحركات إلى وقت كي تبلور وجهة نظرها، وربما كي تنقسم إلى مواقف مختلفة ومتنافسة، وكي يتاح لها هذا الوقت، تحتاج إلى التضامن والدعم لأن كل هذه الانتفاضات والتمردات تجري في سياق أنظمة استبداد راسخة الجذور وحكومات طاغية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق