للكاتب فاليرى انجل رؤية حول العنصرية الحديثة نشرت في «الثقافة العالمية» التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت عدد سبتمبر/ أكتوبر 2019 ترجمة د. أحمد إسماعيل عبدالكريم، يتحدث في مقدمتها عن كتاب «نظرية السمات الشخصية» لعالم النفس الامريكي د. جوردن البورت، الصادر عام 1954.
يقول البورت: إن العنصرية الثقافية تنشأ عندما «تعلن جماعة ما مطالبتها بتحديد القيم الثقافية للمجتمع بأسره». مثل هذا النهج لا يعني فقط الأثنية المركزية، أي اعتبار ثقافة جماعة بعينها وتراثها يمثل البؤرة والمرتكز الرئيس لهذه الجماعة، بل للكيان بأسره، ومن ثم فرض هذه الثقافة على الجماعات الأخرى، وقد أدت معارضة الشعوب «الأصلية» لـ«السكان» «غير الأصليين» استناداً إلى الحجج الثقافية، دوراً حاسماً في هذا الخطاب، وهذا يعني أن مفهوم «العرق» قد استبدل بمفهوم «الثقافة» لكن جميع عناصر النظرية العرقية الأخرى تظل كما هي دون تغيير، وهذه المشكلة بالضبط هي الأكثر حدة في أوروبا اليوم، وصارت اللحظة التي بدأ فيها العديد من السياسيين وأجزاء من المجتمع في اعتبارها صحية من الناحية السياسية، ولم يقبلوا بأنها تسبب مشكلة التمييز ضد الأقليات.
يعتقد هؤلاء الأصوليون جميعاً أن الجماعات العرقية والأثنية المختلفة ذات الرموز الثقافية المتنوعة لا تتاح لها فرصة ليلتقي بعضها مع بعض، ومن الأهمية بمكان – كما يشير انجل – لابد أن ندرك أنه خلافاً لما يحدث في امريكا وفي أوروبا وأجزاء من آسيا وافريقيا، فإن المفاهيم الشعبية لـ «العرق» و«المجموعة العرقية» غالباً ما تندمج ولا يميز العنصريون المحليون بين الاثنين.
وفي هذه الظروف يمكن أن تندمج العنصرية تماماً مع النزعة القومية الأثنية، ومن ثم تؤدي إلى تجريد «الآخرين» من هوياتهم الثقافية المتنوعة، وسلبهم إنسانيتهم وحتى محاولة تطهير عرقياً، كما حدث في التسعينات من القرن العشرين في يوغوسلافيا السابقة.
ويرى في خطاب العنصرية الحديثة، التسليم بضرورة الحد من تأثير ثقافة الأقلية على ثقافة الأغلبية الأصلية بوجه عام، حيث يشيع استخدام طرق لتنفيذ ذلك من بينها: تقيد تدفق الأشخاص من الثقافات الأخرى إلى البلاد بما في ذلك تقييد الهجرة من أجل الحد من التأثير الثقافي للأقلية، وكذلك الحد من وجود ممثلي لثقافة أخرى في البلاد، ويتخذ لهذا الغرض مجموعة متنوعة من الإجراءات الاقتصادية أو السياسية او الثقافية – التعليمية، ما يفرض على الأشخاص غير المرغوب فيهم من الثقافة أخرى على مغادرة البلد، ومن بينها ايضاً الاستيعاب الثقافي للأقليات، ويعد هذا الأمر استحقاقاً للأقلية الوطنية المعنية، ليحل بصورة متزايدة محل مصطلح «الاندماج» وعلى الرغم من أن الاندماج هو طريق ذو اتجاهين، إلا أن الاستيعاب يمثل دائماً حركة في اتجاه واحد – نحو الأغلبية.
في هذا المقال يناقش انجل أهمية التمييز بين الاستعياب الطوعي والادماج القسري إذ يرى أن الاستيعاب الطوعي لا يمكن اعتبار كلامه على العنصرية الحديثة، لأنه يعتمد على الحق في الاختيار.
ومن الطبيعي تماماً أن يكون للأشخاص الحق في اختيار هويتهم الثقافية في حين الادماج القسري، يشكل علامة على العنصرية، باتخاذ السياسات الرامية إلى التغيير غير الطوعي للهوية. ويشمل ذلك حرمان الأقليات القومية من حق الاختيار في المسائل المتعلقة بتعليمها وثقافتها، وينبغي ألا يكون هناك إنفاذ لثقافة الأغلبية على حساب الأقليات، بتدمير الهياكل الأساسية التعليمية للأقليات القومية، بما في ذلك المدارس الخاصة والجامعات، مصحوبة بحظر تام على التعليم بلغات الأقليات القومية من الاتصال بالسلطات وحتى في الحياة اليومية.
وعلى إثر ذلك، فإن العنصرية الحديثة تنطوي على أعمال عنف تهدف إلى الحد من تأثير ثقافة أخرى، فتمثل عواقب مثل هذه الاجراءات في أنها تضطر الأقليات إلى التخلي عن ثقافتها، وترغمها على الولوج في ثقافة الأغلبية، قد يكون هذا بمنزلة نعمة للأقليات، ولكن حق الاختيار لا يمنح لهم في هذه الحالة، باستثناء شيء واحد وهو – مغادرة بلدهم.
لماذا الآن؟ من المسلم به أنه من المعتاد تماماً أن يكون لدى الدول راديكاليون يمينيون في إئتلافهم الحاكم، لكن عدد هذه الدول آخذ في الازدياد، فلماذا تقوم الأنظمة اليمينية بإدخال هذه العناصر من العنصرية الحديثة في سياساتها؟
لأنهم – على حد تعبيره – يخشون الأقليات الكبيرة، التي يرغبون في إدماجها، او إجبارها على الهجرة، بالاضافة إلى ذلك، فإن عدد النازحين القوميين، الذين توجسوا من عمليات الهجرة يزداد بسرعة، وهذه أصوات مهمة، وغالباً ما يعضدون أفعالهم بالاستشهاد بالانتقام من شر اقترفوه، وفقاً للتقاليد القومية، ضد الأغلبية منذ عشرات او حتى مئات السنين، او الانتقام من الموطن التاريخي لبعض الأقليات.
لقد ثبت منذ فترة طويلة إن الزيادات الحادة في معاداة السامية، التي بدأت في أوروبا ترتبط بأي تفاقم في الصراع العربي الاسرائيلي، مع النشاط الارهابي للاسلام السياسي وفي مقدمتها تنظيم داعش، وهكذا تصير الأقليات رهينة للظروف الخارجية التي لا يمكن أن يكون لها فيها أي تأثير.
ثمة مجموعة من المخاطر الجديدة، ولكنها في الواقع قديمة متراكمة يستخلصها الكاتب منها المخاطر السياسية وتتمثل في عودة العنصرية في الخطاب السياسي وإن كان ذلك بشكل مختلف.
ويليها في الصراع بين القيم الديمقراطية مثل حرية الاختيار والتنوع ومصالح المجتمع الآحادي في البلدان المتأثرة بالعنصرية الحديثة، تفوز المصالح تدريجياً، وهذا يؤدي إلى تحول سلس للمجتمعات الديمقراطية إلى «دول عالمية»، أما البلدان، التي تنزع إلى السيطرة على جميع مجالات المجتمع، فإنها تعجز عن التحول إلى الديمقراطية.
وأخيراً، تزداد مخاطر الصراعات بين الأعراق والأثنيات زيادة كبيرة في البلدان التي تفرض بالقوة ثقافة الأغلبية على أقلية ما، بالاضافة إلى ذلك، فإن حوالي 30 في المائة من المهاجرين المسلمين في أوروبا، و85 في المائة من مواطني أوروبا الشرقية، في لاتفيا Latvia، على سبيل المثال، لا يرغبون في الاندماج، وفي هذه البيئة على وجه التحديد، تصبح المنظمات الراديكالية هي الأكثر فعالية، حيث تملأ الفراغ الذي نشأ بعد رفض الدول المشاركة في القضايا التعليمية بما في ذلك الدينية وثقافة الأقليات.
وفي مقابل هذه المخاطر ثمة مخاطر اجتماعية – ثقافية يقف عندها وتكمن في خطر انخفاض شديد في جودة التعليم بين أفراد الأقليات، مع عدم توافر فرص متساوية للطفل الذي يدرس بلغته الأم والآخر الذي يدرس بلغة أجنبية بالنسبة له، ولا سيما في أماكن العمل المنعزلة، التي لا يتمتع أطفالها بخبرة في التواصل اليومي بلغات أخرى، ووفقاً لذلك هناك خطر من عدم تكافؤ الفرص في سوق العمل بين خريجي الأقلية الأثنية والأغلبية، الذين تلقوا تعليمهم بلغتهم الأصلية، ومن الواضح أن الأشخاص ذوي المستويات التعليمية المختلفة قد لا تتاح لهم الفرصة نفسها للحصول على وظيفة مناسبة، وبالاضافة إلى ذلك خطر زعزعة الاستقرار الذهني وتهميش الأطفال المنتمين إلى أسر الأقليات، لكن مثل هذا التدخل السافر في العملية التعليمية، حيث يتم تدريس نصف المواد في المدرسة الابتدائية فعلياً بلغة غير لغة الطفل الأصلية، ما يؤدي إلى إحداث قصور بتطور شخصية الطفل.
وقد كتب انجل في سياق اعتراضه على ذلك، ينبغي للمنظمات الدولية أن تولي اهتماماً خاصاً لمشكلة العنصرية الجديدة بكل صورها واتجاهاتها، ومن الضروري بذل الجهد والبحث في هذا المجال من أجل وضع وثائق دولية جديدة – أو مراجعة قديمها – غايتها مكافحة العنصرية لحماية حقوق الأقليات القومية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق