كامل الـمُـرّ في "الفكر الوطني في مواجهة الطائفية" يتبنّـى الفكر التنويري وينتصر للعروبة وبيروت وفلسطين/ د. نجمة خليل حبيب

الفكر الوطني في مواجهة الطائفية- حصار بيروت، هو المؤلف الخامس للأديب  كامل الـمُرّ. وهو حلقة في مشروعه الانساني الذي يهدف "الى التحريض على النضال من اجل تغيير هذا العالم الموبؤ بالفساد والإرهاب والطمع والاحتراب". وبتألف الكتاب من مجموعة مقالات وكلمات ألقيت في مناسبات متنوعة تحكمها رؤية سوسيولوجية متنورة هاجسها الرئيسي إنهاض الأمة العربية من التقهقر الذي أصابها على أيدي  الظلاميين رَبيـبـي أمريكا ويعض أوروبا من جهة، وحكامها الدكتاتوريين الفاسدين من جهة أخرى. 
نعلم من تتبع مسيرة كامل المُر الحياتية انتصاره لفلسطين والتراث والعروبة. فمؤسس رابطة إحياء التراث العربي وجائزة جبران العالمية مخلص لمبادئه، ثابت على قناعاته. هو في مسيرته  كما في خطابه الأدبي والفكري، يقف مدافعاً عن هذه الثوابت يناقش بمنطقية لبقة بعيدة عن التجريح وعرض العضلات الشمشونية أعداءها والمتجنين عليها. برز ذلك أكثر ما برز في ردّه على مقالة ظهرت في العدد السادس (2003) من مجلة الجذور الاسترالية بعنوان "المنقرضون. . . وهل العرب امـّة أم قبائل، وكلام في الأمة والقبيلة والشعب والأمة" لعباس منصور. ومع أن منصور كان وقحاً  ومـتجنياً على الأمة العربية وحضارتها ونسب كل جميل في الماضي والحاضر إلى أمة المسلمين مدعياً أن العرب  كنظام حضاري ليس لهم سوى موروث القبيلة المتقوقع المحتضن للماضي وتراث الأجداد، وأن فكرة الأمة العربية فكرة استعمارية. ثم زاد قائلا: "لا أسمع أحداً ينادي بالعروبة وبالجامعة العربية إلا تيقنت أنه أحد اثنين، إما مغفل أو متآمر عميل. 
رغم هذا التجني وغيره، جاء رد مؤسس رابطة التراث العربي مهذباً ينم عن أخلاقية عالية تحترم الرأي الآخر ولا ترد على السفاهة بمثلها بل تسلك سبيل الحوار العقلاني المقنع: يقول في إحدى ردوده: الأمة العربية بمسلميها ومسيحييها التي يصب الكاتب جام غضبه عليها لعلها الأمة الوحيدة التي سلمت مقاديرها الى أمة اخرى أو انها اجبرت على ذلك باسم الدين، فَجَرَّ عليها ذلك الويلات والمحن التي لا تزال تعاني منها حتى الساعة . . . والعروبة التي انتجت هذه الأمة وقوميتها والتي يتهمها الكاتب بانها فكرة استعمارية كانت قبل الديانات وستبقى. . . (ص 81) 
ويقول في موقف آخر: أما الشيء الخطير في مقالة السيد عباس منصور "إن الأرض ملك لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين" وفي هذا القول انزلاق الى مفهوم توراتي يدعي ان اليهود هم شعب الله المختار وقد اعطاهم الله حق سكن بيوت لم يبنوها وأكل ثمار أرضٍ لم يزرعوها. ثم لو سلمنا جدلاً بمقولة عباس فمن سيحدد من هم عباد الله الصالحين وقد أجاز الشافعي ما حرمه أبو حنيفة!!... (83-84)  
في المقالة الأولى "الفكر الوطني في مواجهة الطائفية" يستعرض الكاتب تطور الفكر الديني منذ أن  بدأ الانسان يعي وجوده في هذا الكون ووقوفه مشدوها امام الظواهر الطبيعية، الى ظهور الديانات الابراهيمية (السماوية) اليهودية والمسيحية والاسلام، وكيف تشعبت كل من هذه الاديان الى مذاهب وبدع انزاحت عن المبادئ الجوهرية للدين، وجرّت ولا تزال الويل والدمار للبشرية، كما في الصراع بين البرتستانتية والكاثوليكية في أوروبا والنزاع السني الشيعي في الشرق الأوسط عموماً وفي منطقتنا العربية على وجه الخصوص. ثم توقف الكاتب عند خطر الصهيونية وكيف استخدمت الدين بالتحالف مع الاستعمار وبعض "اذنابه في منطقتنا" (حلف بغداد) للانقضاض على  كل مشاريع النهضة وعلى رأسها حركة القومية العربية المتمثلمة بزعيمها جمال عبد الناصر فينقل عن  وثيقة عبرية  مترجمة إلى الانكليزية حاء ذكرها في كتاب للأب طانيوس منعم "خطر اليهودية الصهيونية على النصرانية والاسلام فيقول: إن ابرز ما نصت عليه الوثيقة التي وضعت لاستراتيجية حرب 1956-1957 هو: إضعاف الشعوب العربية بحرمانها بترولها، وتقويض الوحدة العربية، وبذر الشقاق الديني بين العرب، وإقامة دول حديدة على اساس ديني طائفي عنصري: دولة درزية تشمل المنطقة الصحراوية وتدمر، دولة شيعية تشمل منطقة جبل عامل، ودولة مارونية في حبل لبنان وعلوية في اللاذقية واخرى كردية في شمال العراق وقبطية في مصر وما إلى ذلك. ثم يسرد بإيجاز تاريخ المنطقة من حرب السويس الى حرب الخليج- عاصفة الصحراء لينتهي مقرراً: إن العالم العربي لن يجد له سبيلا للاستقرار ما لم يفصل بحزم الدين عن الدولة  
تتغافل المقالة عن ظاهرة  مهمة في تاريخ الأمة، هي حرب الاستزاف التي بدأها جمال عبد الناصر عام 1968 التي أنهكت إسرائيل وكبدتها خسائر فادحة على مدى ثلاث سنوات. صحيح أنها انتهت باتفاقية كيسنجر المخيبة للامال، ولكنها  كانت نواة لبناء جيش مصري قوي لو قدّر له قيادة غير قيادة السادات لكان غير مسار النزاع العربي الاسرائيلي.  كما وتغافلت المقالة عن ذكر دور المظاهرات العارمة التي عمت معظم المدن العربية تطالب عبد الناصر بالرجوع عن استقالته وتنسب هذا الرجوع إلى نصيحة الرئيس الجزائري بومدين 
 في مقالته الرئسية الثانية يرى الـمـرّ أن حصار بيروت بدأ مع وعد بلفور ومعاهدة سايكس بيكو،  وأن ما جرى في بيروت عام 1982 كان قصاصاً لها لأنها وقفت مع قضايا الحق والانسان في حرب السويس وفي حرب 67 ومع الثورة الفلسطينية. يحكي الكاتب معاناة بيرروت وأهلها من الحصار الجائر إذ لم تهب لنجدتها اي من شقيقاتها الاثنتين والعشرين. ثم تحكي انطلاقة المقاومة التي بدأت منذ الأيام الأولى لاحتلال بيروت قي إشارة إلى عملية خالد علوان دون ان يسميه. وتشتد اعمال المقاومة الوطنية اللبنانية فتضطر إسرائيل الى الانكفاء الى الجنوب، ثم تمر الايام فتكون ثورة الحجارة وينتهي مؤملا ان يكون للعرب معتصماً يستجيب لصرخة بيروت والقدس وامعتصماه!. 
تجاهلت المقالة ما كان للمقاتلين الفلسطينيين من دور في دحر القوات الاسرائيلية الى الشريط الحدودي. فالمعلوم ان نصف المقاومين خرجوا من لبنان فقط، وألّف من بقوا مع المقاومة الوطنية اللبنانية فصائل سرية كانت تقوم بهجمات وتفجبرات على القوات الاسرائيلية من مواقعهم الجديدة في جبل لبنان ( بين صوفر وشتورة) وفي سهل البقاع، مما دفع بالقوات الاسرائيلية الى الانسحاب من الجبل والتراجع الى النهر الأولي، ومن بعد عادت المقاومة الى بيروت والمخبمات ورفعت وتيرة التوتر مما ادى الى الانسحاب الاسرائيلي الى الشريط الحدودي. واستطراداً نذكر، أن  كثير من القيادات الفلسطينية رجعت الى لبنان ومن بينهم الرئيس ياسر عرفات الذي أدى خلافه مع الرئيس حافظ الأسد الى طرده من البقاع، ومن بعد الى طرابلس، فركب البحر ثانية وقفل عائدا الى المنفى التونسي.   
تتميز هذه النصوص من حيث بنيتها السردية بأسلوب سلس خفيف على السمع، قريب من ذهن المتلقي. ويلجأ الكاتب إلى توشية نصه بحكاية شيقة أو نكتة ساخرة أو خاطرة حكيمة، يكسر فيها نمطية السرد من جهة، ويمهد للموضوع ويقربه من ذهن المتلقي من جهة ثانية. ففي مقالة "الفكر الوطني في مواجهة الطائفية" مثلاً، ينقل عن المفكر المصري نصر حامد أبو زيد قوله: ليس غريباً وإن كان مفاجئاً في الزمان والمكان أن يعلن احد العلماء الذي ساهموا في صياغة البيان (بيان الأزهر وبيان العلماء المعتدلين حول الحاكمية وتغيير المنكر باليد) في برنامج تلفزيوني، إنه سجد أو صلى ركعتين شكراً لله على هزيمة 67، والتعليل الذي قدمه الشيخ لا علاقة له بالشعور الديني السوي الذي يؤمن بان الله يُشكَر على الضراء كما يُشكَر على السراء، بل علل الشيخ شكره لله وصلاته له بأن الهزيمة حاقت بالشيوعيين أعداء الله والمقصود بالشيوعيين نظام الحكم العروبي في الستينيات. ومن الطبيعي من منظور الشيخ ان يكون انتصار اسرائيل أهل الكتاب على الشيوعيين الملاحدة أمراً يثير الفرح في نفس المؤمن. أو بمثل ما جاء في بداية المقالة الثانية  "حصار بيروت" التي بدأها الكاتب بالحكاية الشهيرة التي ترويها كتب التاريخ عن المرأة العربية صاحبة صرخة وآمعتصماه. يستخدم الـمْرّ هذه الحكاية التي يفاخر بها العرب على مر الأجيال لاستنهاض النخوة التي ماتت في صدور الرؤساء العرب وصمت آذانهم عن كل صرخات الاستغاثة التي أطلقتها بيروت المحاصرة براً وبحراً وجواً بقوة عسكرية شرسة تعيث في ابنائها قصفا بربرياً  استخدمت فيه أحدث الأسلحة من بوارج ودبابات وقنابل فراغية وعنقودية وجرثومية. وينجح الكاتب في استقطاب تعاطف قارئه بما وُهِبَهُ من مهارة في القص، فقد حوّل أقصوصة ترويها كتب التاريخ ببضع جمل إلى ملحمة بطولية تتضافر فيها عناصر الوصف والدراما والمسرح إضافة إلى المنولوج الداخلي الذي يكشف عما في خبايا الشخصية من أحقاد و أطماع، الأمر الذي يجعل قارئه/قارئته ينغمسون في الحدث وكأنهم جزء منه، ويقتنعون بوجه نظر الكاتب. هذا الأسلوب اللبق الشيق نلقاه في جميع المقالات، نذكر منها حكاية الأمير التي جاءت في مقالة، "المهنة خير من الإمارة"، أو في مقالة "أدب الرسالة والتبلغ والتبليغ" في نقله عن مارون عبود رأيه في الحداثة حيث يقول: نأسف أن يظل هذا الأدب لعبة يتلهى بها من يفرقعون أصابعهم ويتوهمون أنهم قذفوا قنابل تنسف الأرض فتخرج اثقالها، ثم يعجبون كيف تقول الناس "مالها".
لقد بذل الأستاذ كامل المر جهداً مشكوراً في هذا الكتاب فنبّه إلى ما يحيق بالمجتمعات العربية من أخطار، ودعا إلى نظام علماني يخرجها من مستنقع التعصب الطائفي والقبلي يؤهلها للعب دوراً فاعلاً في مسيرة  التقدم الحضاري. 

د. نجمة خليل حبيب
سدني أستراليا 
30/01/2020   
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق