العوالم العلوية وتجدّد المعنى: قراءة في نصّ للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي/ مادونا عسكر

- النّص:
أثمرتني شجرة
في ركن أصفى
من السّماء
..
وضعني الغيم
في يد الفاتحة
يد الفاتحة أفاضتني
..
الأرض مادتْ
عباءة الكون تجلّدَتْ
الرّحم أحاط
- القراءة:
يدور هذا النّصّ في العوالم العلويّة إذ يستهلّ الشّاعر نصّه بعنصرين أساسيّين يوجّهان النّصّ إلى ما قبل الخلق، أو بمعنى أصحّ يكشفان عن تأمّل الشّاعر الشّخصيّ في مصدر وجوده، (شجرة/ السّماء). لذلك ينبغي أن يتنبّه القارئ إلى رمزيّة الشّجرة الرّوحيّة في هذا النّصّ الّتي تتّخذ معنى أعمق وأبعد من الدّلالة اللّفظيّة. فالشّاعر جعل الشّجرة في ركن أصفى من السّماء. وبذلك يكون قد تخطّى دلالة السّماء بالمعنى الكتابيّ المراد به ما بعد الموت، أو الحالة الّتي سيؤول إليها المؤمنين إلى ما هو أصفى من السّماء التّي هي صافية. ولا ريب أنّ الشّاعر أراد بالقول (أصفى من السّماء) قلب الله أو الدّائرة الإلهيّة المطلقة. 
ولئن اتّخذت الشّجرة رمزيّة روحيّة، استخدمها الشّاعر بصيغة النّكرة من باب المطلق للإشارة إلى شجرة فريدة متفرّدة Unique لا مثيل لها، أو لا يشبهها شيء في العالم الحسّيّ. ولعلّ استخدام الفعل (أثمر) في صيغة الماضي دلّ على تجدّد الشّاعر نفسه. فكأنّه يشير إلى تجدّد الخلق وتجدّد ذاته الحاضرة في قلب الله. 
(أثمرتني شجرة/ في ركن أصفى من السّماء) حالة خارجة عن الزّمان والمكان، حاضرة قبل الوجود، لكنّها حاضرة كذلك في ذهن الشّاعر وفي عمقه الإنسانيّ. وكأنّي بالفعل (أثمر) يستعيد ذهنيّاً وروحيّاً هذه الحالة المتمدّدة في الوجود بأسره. فوجوده وكينونته امتداد لهذه الشّجرة الّتي أثمرته وما زالت تثمره في ركن أصفى من السّماء.  
الشّجرة تخرج من الأرض، لكنّ شجرة الشّاعر في ركن أصفى من السّماء، فهي خارجة من ذلك الرّكن الأصفى إن جاز التّعبير، وبالتّالي فالشّاعر خارج من الشّجرة كما هي خارجة من السّماء. وإذ اعتمد الشّاعر الفعل (أثمر) فللدّلالة على انبثاق كانبثاق النّور من النّور الأعظم. فيحيلنا إلى الآية 35 في سورة النّور "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ". وفي هذه الآية السّماويّة النّورانيّة يتجلّى فعل النّور الإلهيّ وتفاعله مع المنجذب إلى هذا النّور، الإنسان. فالله يوقد من شجرة مباركة زيتونة يكاد زيتها يضيء. وما الزّيتونة إلّا بعد من أبعاد النّور الإلهيّ الّتي يكاد يضيئ زيتها وذلك بحكم المتفاعل مع هذا النّور. فبقدر ما يتفاعل الإنسان مع النّور يقترب ويبصر. وما الشّجرة المباركة إلّا عنصر من عناصر النّور الإلهيّ. ولعلّ الشّاعر في قوله (أثمرتني شجرة في ركن أصفى من الصّفاء) أراد أن يشير بشكل أو بآخر إلى عنصر النّور الّذي أثمره، أو أوجده. وقد يمكننا القول إنّ الشّاعر يدرك بدرجة ما في عمق ذاته بعضاً من تجليّات النّور الّذي يملأ الوجود. فالله نور السّماوات والأرض متغلغل في الوجود وما بعده، وتلمّس نوره فيض يتجلّى في نفس الإنسان، كلّ بحسب قدرته. 
عنصران آخران في القسم الثّاني من النّصّ يحدّدان أكثر عمق المعنى السّماويّ للنّصّ (الغيم/ الفاتحة). في غالب الظّنّ يرمز الغيم إلى الحضور الإلهيّ الّذي تقف أمام نوره نفس الشّاعر. والفاتحة الّتي كنيت بأمّ الكتاب والرّكن الأعظم من أركان الصّلاة أفاضت الشّاعر. وما هذا المعنى إلّا بعد إيمانيّ  اختباريّ خاصّ وحميميّ لدى الشّاعر يعبّر عن تلمّس حقيقة ما تعيد تفسير الخلق في فكر الشّاعر وروحه انطلاقاً من تأمّل فلسفيّ وإيمانيّ على حدّ سواء. ما أغرق الشّاعر في عمق النّور الإلهيّ المشار إليه في القسم الأخير من النّصّ (الرّحم أحاط) 
الأرض مادتْ
عباءة الكون تجلّدَتْ
الرّحم أحاط 
الأرض التّي يتحدّث عنها الشّاعر أرض جديدة، أو سماويّة، لا علاقة لها بالعالم الأرضيّ. ولبس الكون عباءة الحضور الإلهيّ النّور. الأرض أرض الله والكون كونه، وما الرّحم الّذي أحاط الشّاعر وكونه إلّا هذا الحضور النّور الّذي يجذب إليه الله من يشاء. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق