الاطمئنان يصنع الإجابات على الأسئلة المربكة/ مادونا عسكر

الاطمئنان سرّ من أسرار الحبّ الكبيرة لا يصله الكلّ ولا يبلغه إلّا من اتّحد بالعالم العلويّ، فأصبح هذا العالم بالنّسبة له غير موجود أو غير مرئيّ أو لا يعنيه بشكل من الأشكال. والاطمئنان سرّ محجوب عن أؤلئك الّذين لا يتأمّلون بالحبّ نفسه كقوّة خالقة ومحيية. بل يقفون عند حافّة العاطفة المتقلّبة والواقع المربك. 
بالنّظر إلى حالة المتصوّفة  وعمق تفاعلهم مع العالم العلويّ نكتشف أنّ الاطمئنان هو العنصر الأهم في علاقتهم مع الله. فلم نقرأ عن متصوّف أربكه واقع مرير أو ألم أو كارثة، وإنّما نراهم مطمئنّين حيال أيّ واقع مهما اشتدّت قسوته. وما هذا الاطمئنان إلّا حضورهم في الدّائرة الإلهيّة وإن ما برحوا في هذا العالم. هم مأخوذون إلى أبعد حدّ بالنّور والجمال الإلهيّ حسّيّاً وروحيّاً، فيمسي التّعاطي مع الحياة اليوميّة ومع الواقع انطلاقاً من النّور والجمال. 
لكنّ هذا الانجذاب لا يمنع الإنسان من خوض غمار الحياة، وهو على غير ما يُظنّ أنّ المتصوّف المنشغل بما فوق يهمل الحياة. وإنّما بدافع الاطمئنان يسير قدماً ويحتمل تلقائيّاً واقعه ومشاكله المختلفة، لأنّه متيقّن أنّ كلّ الأمور تعمل للخير الّذي يريده الله. وفي هذا القول التباس عند الّذين لم يصلوا إلى الاطمئنان السّرّ، لأنّهم يعتقدون أنّ الله يدير واقعهم بما يحمل من خير وشرّ، في حين أنّ الواقع بما يحمل من خير وشرّ غير متعلّق بالإرادة الإلهيّة، وإلّا أصبح الإنسان مجرّد دمية في يدّ الله يحرّكها كيفما يشاء. وإذا ثبت أنّ الله يتحكّم بالإنسان ويستعبده فما معنى حضوره؟ وما الحاجة إليه؟ ذاك لا يعني أنّ الله منفصل عن الواقع الإنسانيّ، وإنّما مراد القول إنّ حضور الله في الوجود بأسره غير معنيّ بما ينتج عن التّفكير الإنسانيّ. فإذا اعتبر الإنسان أنّ الله يخلق واقع الخير والشّرّ عبّر عن تناقض في الإرادة الإلهيّة بل كوّن فكرة مغايرة عن الله، لأنّه أسقط عليه فهماً بشريّاً بحتاًـ فأعاد كلّ غموض أو عدم دراية في إدارة الواقع إلى إرادة الله في ذلك. ما يخلق استسلاماً مقيتاً يدفع الإنسان إلى الغرق والإذعان للواقع بحجّة الإرادة الإلهيّة. وأمّا الاطمئنان فهو الثّقة بأنّ الله الحبّ يدبّر كلّ شيء. وهذه الثّقة بالتّدبير الإلهيّ تعزيز للإرادة الإنسانيّة المعتمدة على الحبّ كقوّة تنير العقل وتكوّن لديه القدرة على مواجهة أي واقع بحكمة واتّزان. فالّذي وصل إلى حالة الاطمئنان يعلم أنّ هذه الحياة مرحلة ضروريّة يتعرّف فيها على الحبّ الإلهيّ ويتأمّله ويرتبط به ليكون في حالة حياة مع الله منذ الآن. وبالتّالي فمهما كان الواقع كارثيّاً ومؤلماً، يبقى الاهتمام بما فوق والاطمئنان السّرّ عاملين أساسيّين لما نسمّيه احتمالاً. بيد أنّه عند المطمئنّ ليس احتمالاً بالمعنى البشريّ الحسّيّ، بل هو اطمئنان إلهيّ في الدّاخل الإنسانيّ. فقوّة الحبّ المتجذّرة في العمق الإنسانيّ تمنح الإنسان قدرة على رؤية الأمور بطريقة مختلفة، بعيداً عن ضجيج العقل وارتباك الرّوح. 
الاطمئنان السّرّ يلغي من فكر المطمئن الكيف واللماذا، فالحضور الإلهيّ أقوى من البحث عن إجابات غير موجودة، وقوّة الحبّ الفاعلة عميقاً في قلب الإنسان تغنيه عن السّؤال بهدف عدم تضييع الوقت أو إهداره في أسئلة لا إجابات عليها. والفرق شاسع بين الاستغناء عن الأسئلة والتّوقف عن التّأمّل في سرّ الوجود وسرّ الحبّ الإلهيّ. فالأوّل وصول إلى نقطة اتّحاد بالحبّ الإلهيّ يحصل الإنسان من خلاله على إجابات داخليّة خاصة به، وأمّا الثّاني فاستسلام بفعل النّقمة على الواقع غير المفهوم.
الاطمئنان السّرّ يجيب بقوّة على السّؤال الّذي يشغل بال الإنسانيّة الماضية نحو المجهول: ماذا ينتظرنا؟ والجواب بسيط للمطمئنين؛ من ينجذب للحبّ يلقَ حضوره أينما كان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق