يبدو السؤال مشاكسا أو حادا أو غير لبق، ولكن هذه هي الحقيقة دون تورية أو تهذيب، فالله تحدث عن امرأة العزيز حديثا كاملا تفصيليا متناولا أدق التفاصيل في سورة وصفت بأنها "أحسن القصص". فليس هناك من شيء بقي مخفيا بعد قوله تعالى: "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ"، وفي قراءة أخرى "هِئْتُ لك"، "أي تهيأت لك وتزيّنت وتحسّنت"، كما جاء في التفسير.
تشير الآية إلى كل تلك الخطوات التي قامت بها امرأة العزيز وتصميمها على الفعل؛ فقامت بكل ما يلزم من احتراس وإغلاق الباب وتهيئة الظروف والنفس والحال لهذا الفعل. وقد جمعها الله، سبحانه وتعالى، في "هَيْتَ لك"/ "هئتُ لك"، وللقارئ المؤمن أن يتصور هذه التهيئة نفسيا، وجسميا؛ ظاهرا وباطنا، وليس أقل من أنها أصبحت عارية تماما أمام النبي يوسف عليه السلام. لا شك في أن الموقف رهيب، ولكن ما بعده أشد رهبة.
لن أناقش المسألة في ما بعد هذا الفعل، ولكنني معنيٌّ بالدرجة الأولى بتأمل هذه الحالة كما جاءت في القرآن الكريم، وكيف أن الله جعلها في كتاب قرأه ويقرؤه وسيقرؤه ملايين الملايين من الناس. سأفهم المسألة في حالة الكتابة، فالقرآن "ظاهرة إبداعية" جديرة بالتأمل كما سبق وطرحت ذلك مفصلا في كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية" في باب "شعرية القرآن الكريم". لو لم يكن هذا قرآنا، ووجد ما كان فيه في كتاب آخر لقال المتحذلقون إن هذا تشهير وفضح لأعراض الناس، وأنه مجافٍ للأدب والحق، ولكنه إذ جاء في القرآن فإنه سيوزن بميزان آخر، ولحل هذا التناقض فإنني سأبحث في هذه المسألة بالتحديد، محاولا الإجابة لعلني أزيل شيئا من ذلك الالتباس وذلك الانفصام وادعاء الخلق الحميد.
لم تكن هذه الحالة هي الوحيدة في الكتب المقدسة لقد سبقها حالة أخرى في قصة "مريم المجدلية" كما وردت في الإنجيل، إننا إذن كلنا كبشر لدينا خطايا وسيئات كثيرة، وهذه الأفعال تصدر عن البشر كونهم بشرا ذوي غرائز تثور وتنتفض، وتؤدي إلى ما تؤدي إليه. وهذا يقود أيضا من باب آخر إلى مناقشة هذا الفعل وشرعية وجوده في الأعمال الأدبية، بما أن القرآن الكريم والكتب المقدسة هي أعلى النماذج الأدبية، لا تعلّم دينا فقط، وإنما أيضا في حالتها الكتابية هي حالة إبداعية شرعية لا غبار عليها، ويجب أن ينظر إليها على أنها طبيعية وغير خارجة على المألوف المقرر والمعترف به بوصفها نماذج أدبيّة عليا، تُستخلص منها قوانين الإبداع وشروطه.
هذه واحدة، أما الأمر الآخر والمهم أيضا هو مناقشة الفعل "الجرمي" إن صحّ أن يوصف بأنه "جرم"، فمثل هذا الفعل عندما يحدث من الإنسان يحدث برغبته وهو متمتع بكل قواه العقلية والجسمية، وفي هذه الحالة، فالإنسان المقترف لهذا الفعل، يقترفه وهو في واحدة من حالتين، إما أن يكون مؤمنا بوجود إله مطلع على ما يفعل، وإما أن يكون مؤمنا بعدم وجود إله، وفي كل حالة هناك اعتبارات، فلو كان مؤمنا بوجود إله ويؤمن باطلاعه على ما قام به، فالأصل فيه ألا يخاف من اطلاع الناس على تلك الأفعال، فالله أحق أن يُخشى منه، وهنا لا ضير إن يكتب عن هذه الحالة، فلو أراد السرية فلا يستطيع فالله مطلع عليه، فمن الأولى ألا يقوم بالفعل ابتداء، إذ لا معنى من سرية الفعل ومواراته عن الناس، فالله حاضر ويرى. أو كما قال الرسول الكريم: "الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس"، فإن أردت أن تعصي الله فاختر مكانا لا يراك فيه وافعل ما تشاء، وهذا ما يقوله منطق الإيمان السليم في مثل هذه الحالة.
وأما إذا كان "الفاعلُ" لا يؤمن بوجود إله فهو أهون عليه، وهو حر، غير مستعبد من شيء إطلاقا، فلا قوة عظمى إلهية تحكمه، فلماذا يخشى من الناس إذن، ويترك مجالا ليحوك الإثم في نفسه؟ فليسوا أهمّ منه ومن حريته الشخصية، ولماذا يقيّد ذاته بقيودِ رأي الآخرين فيه؟ فهو وهُمْ في مرتبة واحدة، ولا يصحّ عقلا أن يخاف بشر من بشر، وعليه فإن الكتابة وإطلاع الناس على مثل هذه القصص أمر يخصّه وحده، ويجب ألا يهمّه إطلاقا رأي الناس، وهنا يكون الإنسان ذا إرادة حرة لا تحكم إرادتَه أيُّ إرادة أقلّ منه أو مساوية له. وكل الناس متساوون حكما، ما دام أن قوانين الطبيعة البشرية تسري على الكل بالطريقة نفسها.
ومن المهم هنا ألا يفهم أنني أبرّر شيئا من "شرعية" الكتابة، فهي شرعية ابتداء عند الفريقين المؤمن وغير المؤمن كما سبق وبينت، والكاتب في كلتا الحالتين غير مجرّم دينا وقانونا وعرفا.
وتجاوزا عن هذه الإشكالية التي لم تكن في يوم ما إشكالية في حركة التأليف الأدبي إلا في المجتمعات التي يسودها قصر النظر، وضيق الرؤيا، فهي حالة موجودة في النص الديني الموجّه للبشر، وموجودة قبل النص الديني وبعده في النصوص البشرية. وعليه فإن المسألة في أساس طرحها تتوجّه نحو الهدف من هذه الكتابة. فكما يظهر في النص الديني القرآني والنصوص الدينية الأخرى فإنها ليست تشهيرية مطلقا، فالله لم يشهّر بامرأة العزيز ومريم المجدلية اللتين تداول قصتهما ما لا يحصى من المؤمنين وغير المؤمنين. إذن تتجه الكتابة في هذه الحالة نحو هدف مهم يتعلق بحياة الفرد في المجتمع، وهو "التطهير" من ثقل الفعل نفسيا، فالكتابة في مثل هذه الحالات تمثل حالة تطهير النفس من سيئاتها، كما حدث مع كلتا المرأتين، فكلتاهما (امرأة العزيز ومريم المجدلية) اعترفتا بالفعل، وتم تطهيرهما منه، فأصبحت مريم قدّيسة، ودخلت امرأة العزيز في جماعة "المؤمنين" كما تبيّن القصة القرآنية.
وعلى ذلك فالكاتب عندما يكتب قصة حياته ويعترف بما يقترفه من سيئات هو يقوم بفعل التطهير من "جرم" يراه يثقل روحه ويحوك في نفسه، ولكنه لا يخشى أن يطلع عليه الناس، أسوة بالكتابة الدينية القرآنية والإنجيلية، فالكتابة تبرّئه من الفعل؛ لأنه يدخل في باب الاعتراف، وتخلّص النفس مما يثقلها ويوجعها، والكتابة عموما لها هذه القدرة على التطهير من كل ما يثقل النفس من أوجاع وآلام، وليس مقصورا أثرها على التطهر من هذا الفعل فقط. وتجعل الفرد شخصا متوازنا صادقا مع ذاته، فمن كان من الآخرين بغير خطيئة فليرجم هؤلاء الكتّاب بحجر.
عدا أن هذا النوع من الكتابة يجعل الكاتب متحرّرا من الأسرار، فلا شيء على الإطلاق يستحقّ أن يظل سرا، حسبما بيّنت سابقا، سواء أكان في حالة الإيمان أم في الحالة الأخرى. إن الإنسان وهو يكتب ذاته ويعرّيها من كل أسرارها يصبح شخصا أقوى من الشخص الذي تستعبده أسراره، فلا أحد يستطيع أن يبتزّه أو يحطّ من كرامته، فكل ما يريده الآخرون الفضوليون ها هو بين أيديهم، فليأخذوه. إن مثل هذه الأسرار تفقد قيمتها السحرية في السيطرة على الشخص عندما تُعرَف، بل إنها تفقد تسميتها "أسرارا"، وتصبح أخبارا شائعة، عادية مع كثرة تداولها، فلا أجمل، ولا أقوى من الشخص وهو واضح ونظيف من الأسرار. إنه سيكون أقوى موقفا وأجرأ طرحا، وقد انتبه الدين لهذه المسألة عندما كان يطالب أتباعه والمؤمنين أن تكون سرائرهم كعلانيتهم، ويسعى من خلال جملة من الطقوس والعبادات الخاصة، العامة والفردية أن يتطهّر الإنسان من "الذنب"، ليعود كما ولدته أمه، نظيفا خفيفا، وجميلا.
ضمن هذه الرؤيا من الكتابة، تصبح كل كتابة مهما كانت هي كتابة شرعية، ليس لها سقف ولا يحدّها حدّ، وهذه مسألة لفتت أنظارنا إليها الكتب المقدّسة فيما طرحته من موضوعات، فلا موضوعات إذن ستوصف بالمحرّمة أو المجرّمة، وقد أعطت تلك الكتب عبر مناقشتها لموضوعاتها الموصوفة بـ "الحساسة" حرية مطلقة في الحديث عنها. ولكن يبقى هناك فريق من أدعياء "الخلق القويم"، يرون أن من يكتب في هذه الموضوعات هو كاتب موبوء وكتاباته شاذة ونجسة، ولا بد من محاربتها والقضاء عليها. هؤلاء هم المشكلة الحقيقية، وهم وحدهم من يلزمهم العلاج من قصور أفهامهم المنغلقة التي ليس لها شرعية مطلقا، وهي وحدها الخارجة عن قانون الطبيعة أو القانون الإلهي الذي وضعه الله في كتبه التي أرسلها للناس لتكون نبراسا يحتذى في كل مجالات الحياة، اجتماعية، وسياسية، وثقافية إبداعية كذلك، و"إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق