(قصّة يمكن أن يعدّلها الزمان!)
لم أتخيّل أنّ الكورونا بنت الحرام هذه، ستتدخّل يومًا تخنولوجيّا بيني وبين أحفادي هذا التدخّل السافر.
قبل سنين وحين بدأت التخنولوجيا تحطّ ظلّها ثقيلًا علينا، نحن جيل ما قبلها، ونرى ونشاهد أدواتها وتعامل أبنائنا معها ولا نجرؤ أن نقربها اللهم إلا مشاهدة، قال بعض الضالعين في علم الاجتماع: "إنّ ذلك نابع من رهبة بالغين طبيعيّة من كلّ جديد"، وكنت حين أنفرد مع نفسي مبهورًا متفكّرا، تحضرني تلك الحكاية عن ذاك المغترب ابن بلدنا، من القلّة الذين عادوا ممّن غرّبتهم تركيّا حين كانت تظبّ الشباب إبّان حرب البلقان، حين عاد أوّل مرّة يقول: "إنّ في بلاد غربته هنالك عربات تسير دون دوابّ"، فتحمّلها شيخ البلد جريًا على المقولة: "شابّ وتغرّب" ولم يرد أن يكسر في خاطره، ولكن حين عاد بعد سنوات وقال: "إنّ هنالك عربات تسير في السماء"، لم يتحمّلها الشيخ رادّا: "أول مرّة جيت تكذب أرضي بلعناها... أمّا هالمرّة جاي تكذب سماوي فهذه ثقيلة!"
كنت "لحقت حالي" ورحت أتغلّب على رهبتي وأقتحم هذا العالم، وليس قبل أن تمرّ سنوات وفقط حينما أدركت أنّي إن لم أفعل سأكون من الخاسرين، وأصدقكم القول إنّي لم اتخلّص كليّا من رهبتي في التعامل مع كلّ ما يستجدّ فيها. لكن بعد أن كنت أتباهى، وإنْ بيني وبين نفسي، إنّي ما زلت عونًا لأبنائي وأحفادي، "انقلبت الأمور" وصار عونهم لي يغلب في الكثير عوني لهم، فينتابني شعور فيه من الحسد شيء لا يلبث الحبّ أن يقلبه غبطًا فأرتاح.
ولكن أبدًا لم أتخيّل أنّ الكورونا بنت الحرام هذه، ستتدخّل يومًا تخنولوجيّا بيني وبين أحفادي هذا التدخّل السافر. ليست القضيّة إنّ حفيدتي الصغرى "كثيرة الغلبة" والتي لم تكفّ "شرّها" يومًا عنّي، غيّبتها عنّي بنت الحرام هذه جسديّا ولكنّها لم تستطع أن تغيّبها تخنولوجيّا فصارت تحادثني يوميّا وأكثر من مرّة وبالصوت والصورة، القضيّة أنّ حديثها معي وأسئلتها إيّاي وحتّى ملامحها كانت تتغيّر من مرّة إلى أخرى. صار حديثها الصغير أكبر وصارت أسئلتها الطفوليّة أصعب، والأهم ملامحها الشقيّة صارت أجدّ وعليها مسحة من حزن أو قلق، كادت الدموع تطفر من عينيّ وما منعها من الانثيال إلّا خوفي على شقيّتي، حين خرجت من بين شفتيها الصغيرتين، وفي عينها اغريراق وفي بسمتها ذبول أخذا بشدّة بتلابيب قلبي فانقبض: "اشتقتلّك..."
لملمت أنحائي وحواسي وافترّ فمي عن بسمة عريضة ليست كالبسمات، ما كنت أعرف كيف ستظهر أمامها على شاشتها وإن كانت قادرة على اكتشاف التصدّع فيها خصوصًا وأنّ الرهافة عند الصّغار لغز عصيّ، وأجبت سريعًا قدر ما أسعفني التقاط أنفاسي: "قدّيش؟!"
ردّت صاعقة إيّاي: "أكثر وأكبر من الكورونا!"
تشتّت عديّي واندثرت عدّتي، ووجدتني أعزل إن لم أسارع إلى لمّها فهزيمتي ستكون نكراء، ورغم ذلك راودتني رغبة بأن أهزم رغم إنّي أكره الهزائم لأنّي أردت لحفيدتي أن تنتصر، فرددت متكلّفا أكثر من ابتسامة: "في أكثر وأكبر من الكورونا... وأنا اشتقتلّك أكثر وأكبر من الكورونا!"
فردّت وفي نبرة صوتها نوع من الاحتجاج: "لا ما في أكبر ولا أكثر الكورونا!"
وشعرت أنّ حفيدتي تدخلني حقلا شائكًا ولا بدّ من الدخول، وجلّ ما أشغلني كيف سأحميها هي من أشواكه، ورحت وإيّاها في أخذ وردّ:
_ليه؟!
_منعتني أشوفك... قال أنا خطرة عليك!
_ ما هيّاكِ شايفيتني!
_هذا شوف؟!
وألحقتها:
_كيف أنا خطرة عليك وأنا بحبّك قدّ السما؟!
ومحاولّا أن آخذها في اتجاه آخر، رددت:
_والبحر؟!
_ ها... شفت إنها أكبر من السما والبحر؟!
في وجه هذه الهزيمة التخنولوجيّة النكراء كان يجب أن أوقف هذا الحديث التخنولوجي بيني وبين حفيدتي، خصوصًا وكان ألم يعتصر كلّ بارقة من وجهها الطفوليّ، قاتلا بريق عينيها ولطف ابتسامتها، وشقاوتها المهزومة. فحسمت:
_تيجي أو آجي؟!
_أمّي ما تقبل!
_استنيني... أنا جاي!
_تضحك عليّ؟!
باسمًا:
_لا...!
شقاوتها، ال-كانت مجبولة عادة بكلّ العبث الطفوليّ، كانت هذه المرّة "غير شكل"، كانت أشرس، ولكنّ شيئا آخر "غير شكل"، لم أحسن أن أفقه كنهه، كان فيها. كان أبوها وأمّها يرقباننا من بعيد باسمين وبعد أن حطّت على عنقي قافزة كصغير ظبْي وجِل وحطّت عنه، انطلقنا في دروب أراضي بلدنا الجبليّة الواسعة والتي كانت على موعد مع نوّار اللوز والقندول والخزيمة وشقائق النعمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق