فيليب سالم رسم خطوات الثورة في كتابه الجديد/ الدكتورة روان باسيل

استشرف البروفسور فيليب سالم ثورة 17 تشرين الأول الماضي قبل ثماني سنوات من حدوثها، في حوار اجرته معه فضائية "تلي لوميارـ نور سات"، على حلقات منذ العام 2011 ، إذ أدرك أن إنتفاضة المجتمع المدني في لبنان هي خشبة الخلاص من السلطة الحاكمة المتسلطة خلافاً لأصول الحكم وللقواعد السياسية المتبعة في دول العالم ذات النظام الديمقراطي البرلماني وهو أفضل الأنظمة للبنان بتعدديته الطائفية والثقافية.
وتوقّع في مجموعة الحوارات التي جُمعت  في كتاب بعنوان " المعرفة تقودك الى الله" أن يتحرك  اللبنانيون  رفضاً للقهر والذل من أجل إصلاح النظام لا إسقاطه، لأنّ الطبقة السياسية عصية على الاصلاح، لاتريده لأنها تتبع مدرسة سياسية تقوم على المنفعة الشخصية قبل أي منفعة عامة، وطالب المجتمع المدني  " بعمل كبير يكون منظماً ودقيقاً ولا عنفيًا"، " وأن يكون حضارياً لأن العنف عائق لأي إصلاح وتقدم "، وكأن سالم كان يخطط للحراك  المدني داعياً الى ان يكون على رأسه " مجلس حكماء مشهود له بالخبرة والانتماء للوطن وأن يتحرك بشكل مدروس ومنظم".
ورأى  أنّ الشباب اللبناني تعب وهو يرى الوجوه السياسية نفسها منذ عام 1990 تتوالى على الحكم أو تتوارثه، فيما الوطن يتدهور من سيء الى أسوأ وتتراكم عليه الديون التي تبيّن أنّ نسبة كبيرة منها هي أموال منهوبة بالتوافق والتواطؤ بين الفئة الحاكمة. 
ما قاله في لقاءَاته المتعددة هو دعوة صريحة الى الثورة : " الحياة السياسية مهترئة والوضع السياسي مذل، والساسة يذهبون عكس تيار الشعب وإرادته، ويصرون على عدم رفعه من القعر الذي أوصلوه اليه، لأنهم لا يخافون منه أو من ردود فعله ، فقد اعتادوا خنوعه وأيقنوا استسلامه وانقياده لتسلطهم وارتكاباتهم". يضيف سالم : إن السياسيين في لبنان" خطفوا الدين واستعملوه أداة سياسية"، وأنشأ الزعماء المسيطرون أحزاباً طائفية ومناطق طائفية واتباعاً طائفيين ودويلات طائفية. و  " الدويلات الطائفية لايناسبها بناء وطن للجميع يكون فيه المواطن متساوياً في الحقوق والواجبات"، وكل زعيم دويلة يعتبر نفسه الدولة دون غيره من زعماء الدويلات، "وهو مستزلم لدولة في الخارج على حساب لبنان". لذلك، وفي جملة اعتراضية، يردد دائماً أن على الدولة أن تحترم نفسها، " وتلغي هرطقة ايديولوجية وسياسية" متمادية منذ تأسيس لبنان، فتعمد الى أن "تمنع كل حزب لايؤمن باستقلالية لبنان ونهائيته".
المجتمع المدني عماد  الثورة
إن السلطة السياسية بما وصفت به ، تجاوزت في فسادها وتسلطها ونهبها أموال الشعب، " جمهوريات الموز" التي وصفت بارتكاباتها وفسادها. لذلك لم يكن أمام سالم إلا أن يدعو الشعب اللبناني الى " ثورة بيضاء "، وأن يكون المجتمع المدني عماد هذه الثورة، كي تكون ثورة الفكر والعلم والثقافة والسلم، فدور المثقفين تظهير مشكلات المجتمع والتزام قضايا الشعب. وبذلك دعا الى ربيع لبناني، وكان بعض الدول العربية كتونس ومصر تشهدان تحركات شعبية كبيرة سميت " الربيع العربي" عام 2011 ،لذلك دعا المجتمع المدني الى تحركات مماثلة ضد الطبقة السياسية التي لا تقل فساداً عن مثيلتيها في تونس ومصر.
ومذ ذاك حدّد سالم خطوات يتبعها المجتمع المدني في تحركه: أولاً، أن يكون اللقاء في الساحات على أساس الولاء للبنان وحده، وأن يتجاوز المعتصمون ولاءاتهم الطائفية والحزبية والمناطقية الى الانتماء الى لبنان بكل فئاته وطوائفه وأحزابه ومناطقه، وهذا ما يحاول الثوار تنفيذه حالياً. ثانياً، العمل على تغيير الطبقة السياسية التي تواصل الوراثة السياسية، فضلاً عن مواصلتها نهب مقدرات البلاد وممارسة التسلط على الشعب واستغلال عواطفه الدينية والطائفية.و رفض سالم دائماً  " التوارث السياسي" الذي يجسّد تخلفاً لم يكن تجاوزه ممكناً بسبب تقييد النظام الديموقراطي البرلماني بالمحاصصة الطائفية و"الزعامتية"، التي "حوّلت أفضل الأنظمة في العالم الى نظام تسيّره أشباح الماضي وزعامات الطوائف فتخرجه عن صلاحه وتقضي على إصلاحه". و هو يرى ان نجاح الثورة يعتمد على جدية الثائرين ومثابرتهم واعتماد خطط "طويلة النفس" فضلاً عن حُسن التخطيط والتنفيذ.
بحث سالم عن لبنان الحقيقي المتربع على مجد عظيم، فوجده في المغتربين المنتشرين في العالم، مستدركاً أنّ هؤلاء يؤدون أدواراً متقدمة و مؤثرة في مسيرة المقيمين. إنّ لبنان بتاريخه العظيم حكمه قادة صغار وجهلة، فيما الشعب اللبناني قوي وصلب قلما تجد مثله في العالم، ولا مشكلة بين الشعب، لكن عليه أن يرتقي الى مستوى "الوطن الرسالة". وهذه مسؤولية الشعب اللبناني لا المسؤولين ولا القادة ولا الزعماء ولا السياسيين.
لم يكن سالم قاسياً عندما قال" أطمح أن أرى لبنان خارج قبره قبل أن أموت".  فقد رآى اللبنانيين  في جمودهم أشبه بموتى، لكنه كمسيحي مؤمن أدرك أنّ هذه الحال ستدفعهم الى القيامة. لذلك دعا كل لبناني مقيم ومغترب الى المشاركة في صنع لبنان الجديد.
تمجيد الحياة
بالطبع لم يقتصر الحوار ولا مضمون الكتاب على السياسة والثورة على أهميتهما، بل تناول العمق الروحي لفيليب سالم وعلاقته بالله والدين والعلم والمعرفة، وهو المؤمن المستقيم الرأي الذي بنى سيرته المهنية على التقوى والمحبة، وعلى قاعدة " أنّ الحياة هبة من الله، وإذا كنت مؤمناً ويجب أن تمجّد الله، عليك أن تمجد الحياة". إنّ دعوته الى فصل الدين عن الدولة لا تعني بأي معنى فصل الحياة عن الدين، فنحن في الشرق أبناء الإيمان الأصيل الفطري، خارج التأويلات والخلافات اللاهوتية.
أنزل الله معرفته على البشر خلال العصور الماضية، وارتفعت المعرفة الانسانية الى الله في هذا العصر. إنّ الله يسترد نعمته بالمعرفة التي أنزلها على الإنسان، إذ صار العلماء والفلاسفة يعترفون بوجوده وقدرته، علماً وفلسفة، بعدما أعترف أجدادنا القدامى بايمانهم به بالخشوع والرهبة. وهاهي المعرفة الإنسانية تنجذب الى قطبها، المعرفة المطلقة.
"ترهبن" سالم في الطب، لكنه  بعد خبرته الطويلة في عالم الطبّ و معالجة المرضى ، لا يؤمنُ بالعجائب ، بل بالعقل البشري الذي يذعن لإرادة الله . لقد " فجّر بعلمه عجائبه فوق مرضاه"( الدكتور الياس الحاج في مقدمة الكتاب ). أما الحكيم المؤمن فيقول: " كمسيحي أؤمن بمعجزات يسوع المسيح، ولكن بعد خمس وأربعين سنة من العمل أجزم أن الحالات التي شفيتها كانت ضمن إطار العلم على الرغم من أنّ البعض قد يؤمن بشفاعةٍ ما تُعينه، ومسألة ارتباط الدين بالعلم تحتاج الى بحث أطول وأعمق". لقد وُهب الحياة وأخذ على عاتقه أن يصونها لدى الآخرين، ليس واهباً ولا محيياً، لكنه يرتجي المعجزة في كل عمل يقوم به.
يعتمد سالم على قاعدة طبية تصلح في علاج كافة الأمراض، ولاسيما السرطانية، إتخذها منهجاً ودعا جميع الأطباء الى الاقتداء بها، وهي منح المحبة والأمل مع الدواء، لأنه يعالج إنساناً مصاباً بمرض ولايعالج مرضاً بذاته. تجربته الحياتية ربطت بين عظمة المحبة في عمله وعظمة الإيمان في معرفته،لذلك رأى أنّ الطب أقرب الى القداسة، إذا آمن بعظمة الحياة. وأنّ الدين يدرك عظمته في المحبة والتسامح، إذا احترم أهمية الإنسان. 
إنّ لبنان بثالوثه الماسي: الحرية والديمقراطية والتعددية الحضارية ، وبثورة شعبه القادر على التغيير، سيجدّد وجوده لمئة سنة مقبلة ، وسيبقى دولة غير دينية في الشرق ، الذي تدفع به  الطبقة السياسة الحاكمة الى الهاوية الطائفية والمذهبية.
نجح سالم في فكره بين العلم والدين ، وبين المعرفة والإيمان، وبين الشفاء والمحبة، وبين الثقافة والسياسة، وبين الوطن والمواطن، بغية تقريب الانسان من أخيه الانسان والارتقاء به الى الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق