ان كانت شهرته تأتي من فن النحت الذي باشره في صباه، لكن الفنان فؤاد الورهاني الذي نحت الحجر، طوع الحديد وصقله وشكل الخشب، لم يكتفي بذلك، لكنه دخل عالم الكتابة حيث أجاد وتجاوز وعورة اللغة، فكانت تجربته في كتاب ضيعتي مختلفة، فكتب تجربة الحياة في ضيعته "الكارس" وجوارها من ألفها الى يائها والتي تشبه تجارب القرى الأخرى سواء كانت في لبنان اوسوريا وفلسطين والتي لا يريد لها ان تدخل عالم النسيان.
يقول الكاتب: قالت لا تنسا بلادك/ لفيها تربت أجدادك/ تربة أجدادك سلام/ ملياني عظام وأقلام/ معليش تمشي لقدام/ بس خلي الرجعا بالك…(ص124)
يصور الورهاني بكلماته وباللهجة المحكية التجارب الزراعية والأجتماعية والثقافية ولا يغيب البعد التاريخي حيث يشرح الكاتب تاريخ وأسماء المواقع والقبائل والشعوب والدول التي حلت في المنطقة.
في 142 صفحة، و73 قصيدة، يسرد الكاتب قصصه وذكرياته كأنه ما زال يعيشها، فرغم غربته البعيدة (أستراليا) استطاع الورهاني الإقامة بين التفاصيل التي نقلها بأمانة شارحاً ومفسراً التعابير القروية وأسماء المعدات الزراعية وعادت قروية( أفراح، أحزان، علاقات أسرية، مواسم زراعة وحصاد...) حتى يسهل على قارئه وجذبه الى عالمه واشراكه في هذا العالم الخاص، الذي يجد فيه صفاء النفس واشتياق الروح الى أيام وذكريات، تتنفس في كلمات قصائده مبعوثة حية حتى تجعل القارئ منصتاً للصراخ، للهمسات، للآهات والوشوات الصاعدة مع اصوات أهل الضيعة ومعاناتهم وعنفوانهم وكرمهم حيث الضيافة والمضافة ركن من أركان البيت ويقول الكاتب: (ص 85) جدي كان ب فروتو ملفوف/ لخيطها من جلد لخروف/ ولبرد كان ليلي مش مألوف/ عتازوا فُرش لضيوف (1)/ علمطوا كان مصفوف/ وغطونا بلحف الصوف ويشرح الكاتب (فرش الضيوف، كما كان البيت يضع ميزانية إطعام الضيف، كذلك فراش وأغطية الضيف دائماً موجودة بالمضافي، وانت قد تضاف بأي لحظة في الليل او النهار).
ويصف عادات الزواج (ص119) عقدو عليها العقد ولفاتحا نقرت/ ومهرها تحدد مثل ما لبعادي جرت/ مأخر مقدم مقدم حقوقها كلا سَرَت/ بحيث لشيوخ لوحدا بلقصة نبرت/ وقصو جهازا وحتى ميقولوا فترت/ بنتن تنقي والعريس أمو شترت…
وعن عنفوان أهل القرية يؤرخ لقصة يرويها كما حدثت عندما حاول الفرنسيون شق طريق بمحاذاة قرية (العانات) والتي كان اهالي القرية يرفضونها لان الطرقات كما يقول الكاتب كانت تجلب معها القلق للناس على مزروعاتهم ومواشيهم وغيرها ويقول: جدك عرف بس حركو اللألات/ ونهارا عندو دور برديي/ خاف العساكر يطفشو الزرعات/ ولا همجهن ينزع الميي/ نزل البطل والدنيا صبحيات/ وكانت عئيدي عمتك هديي/ وقلوا(لليوطنان) بو نجمات/ والسيف بئيد وبئيد شبريي/ والله ما بتمرق بهالأرضات/ الا مجيشك يمرق عليي..( ص139).
وفي الصفحة 130 يعرض الكاتب وبأسلوب مشوق لمرحلة الطفولة وكيف كانت أمه تحرص على تنشئته حتى كبر وكما يقول: كبرنا وصرنا نتغير/ وتغير عليي لعدان/وصرت مش لازم أسمع حكي لنسوان/ وتبعثني تا روح إسهر / بلمضافي مع ليشبان/ وتنهيني بفلفل أحمر/ عن لخمرا ولدخان..ويتحصر على تلك الأيام قائلاً: يسقا لله أيام زمان/ أنا بإمي بفخر/ ريتنا بحب وحنان (ص131).
وبما ان الرسم هي الموهبة الأخرى التى يتمتع بها الكاتب الى جانب النحت، فقد حرص على يتضمن الكتاب بعض من رسومه التي وزعها بين ثنايا الكتاب مثل (المنشل، الطبق والمنسف، أبريق القهوة، الجلسة العربية ودق المهباج، سيدة مع الجاروشة، رسم للضيعة، رسم لفلاح على ظهر حماره وفلاح آخر يحرث الأرض بالفدان وغيرها من الرسوم ذات الدلالات والذكريات.
ويختم الكاتب كتابه بالتدليل على مدى تعلقه بداره ومحتوياته وحزنه بسبب الفراق ويقول:
دارنا ما أجملا/ بقصر لملك ما ببدلا/ فيها مضافي بئولا/ فيها كواير حب لك لنواع/ وكل وحدي بتوعي شي عشرين صاع / هذي قصص من ضيعتي/ عا فرقتا يا ليعتي…(ص 140).
أخيراً، يشكل كتاب "ضيعتي" مرجعية وتأريخ لمرحلة من حياة الضيعة وعاداتها وقيمها والتي أتت عليها المدنية والنزعة المادية. خصوصاً وان الكتاب من نوع الشعر الشعبي والذي يلبي الحاجة الثقافية وألإنسانية والتي تتفاعل مع واقع الناس المعيوش وبدون رتوش وتعبر بصدق عن أقوالهم وافعالهم وأحاسيسهم وانفعالاتهم وما يعتمر في قلوبهم فرح وحزن وشوق وحنين والورهاني بثقافته ووعيه أضاف مدماك الى مداميك الشعر الشعبي.
ضيعتي تجربة ارتسمت في فكر الورهاني ووجدانه، ولا يمكن لذكراها ان تُنسى او تُمحى فكيف بها وسيرتها العريقة موثقة في كتاب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق