نقلت المواقع الاخبارية الاسرائيلية ، قبل أيام، خبرًا مفاده أن يونتان بن أرتسي، وهو حفيد رئيس الحكومة الاسبق يتسحاك رابين، أثار عاصفة سياسية بعد أن اطلق تغريدة على "تويتر" تمنى فيها أن يصاب بنيامين نتنياهو بفايروس الكورونا وأن ينهي حياته مريضًا في السجن.
ولم يتأخر نشطاء حزب الليكود بالردّ على تلك التغريدة، حيث اعتبروها تحريضًا أرعن على قتل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، فطالبوا بضرورة التحقيق الجنائي مع بن ارتسي.
بعد انتشار النبأ وقبل تفاقم تداعياته قام بن أرتسي بنشر توضيح جاء فيه انّ "من يستغل كارثة انسانية، مثل وباء كورونا، لأغراضه السياسية يستحق الأصابة بالكورونا ... ابقَ سليمًا شريطة أن تمتنع عن الكذب وتتوقف عن اللعب؛ فأنا لا أتمنى أن يمرض أي شخص بالكورونا حتى ولا نتنياهو ..اعتذر عن الموضوع".
لقد اخترت أن أبدأ مقالتي بهذه الحادثة لأنها، بالمقاربة، ذات علاقة بالحالة الفلسطينية؛ ولأنها تختزن، رغم هامشيتها في المشهد العام، معالم عدة أزمات/معضلات، تكشّفت عناصرها بعد أن صُدمت البشرية من هشاشة واقعها المعيش برتابة روبوطوية ووفق مسلمات وفرضيات كانت تتحكم بسلوكيات الناس اليومية، فظهرت، بعد وضوح معالم الجائحة الكونية، على انها حالات خاطئة أو ملتبسة.
راحت منصات التواصل الاجتماعي تعج بالنقاشات النظرية وبالمناكفات السياسية وتشكو من مظاهر الاسهال الفيسبوكي؛ ونشط دعاة الاديان واستحضر اصحاب الاقلام المواقف ازاء دور الدولة وأحكام السلطان؛ كما تطرق الفلاسفة وفقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية منذ ايام افلاطون حتى جهابذة الفكر في هذه الأيام ؛ وطفت الجدالات حول الثواب والعقاب وحول الرحمة وأهمية السماء والفرق بين أصحاب القصور والفقراء.
لم يتفق "أولي الأمر" على رأي واحد بخصوص أساليب مواجهة الفايروس وكيفية القضاء عليه او مواجهته بنجاعة؛ فاكتفى بعضهم بمطالبة مواطنيهم بتوخي الحذر وباتباع أساليب وقاية شخصية صارمة، بينما قررت حكومات دول اخرى اعلان حالات الطواريء وتحديد حرية حركة المواطنين، الى جانب اخضاعهم لاجراءات احترازية متشدّدة اخرى.
ولقد سببت هذه القرارات بلبلة وقلقًا بين الناس، وفجّرت، في جميع انحاء العالم، حوارات ساخنة تناولت مفهوم الحرية الفردية ومكانتها في زمن الآفات، مقابل الحاجة الى التكافل العام والتضامن المجتمعي والانصياع إلى الانظمة والقوانين الجديدة؛ وعالجت، كذلك، دور الخوف والعجز البشريين وتأثيرهما، كعنصرين رادعين وناظمين، على ممارسة الحريات داخل الحيزات العامة، أو استغلالهما، أحيانًا، من قبل بعض الزعماء السياسييين، كوسائل لتعزيز مواقعهم وخدمة لمآربهم الحزبية والخاصة؛ كما اتهمت تلك التغريدة نتنياهو.
اعلنت القيادة الفلسطينية عن فرض حالة الطوارئ، في المناطق الخاضعة لنفوذ السلطة الفلسطينية، مباشرة مع بداية نشوء الأزمة وقبل أن تفعل ذلك معظم الدول الأخرى. وانتقدت جماعات عديدة مبررات القرار الفلسطيني المذكور، وشكك البعض بدوافعه، بينما عزته طائفة الى ضعف الحيلة الفلسطينية لكونه أسهل القرارات على قيادة عاجزة لا تريد ان تجتهد ولا أن تتعب !
من المستحيل، ونحن في ذروة الأزمة، أن نجري تقييمًا شاملًا لفحص صحة القرارات التي اتخذتها مختلف الحكومات في العالم؛ مع اننا نرى بشكل واضح كيف اخفقت حكومات دول "عظيمة" في مواجهة "جنون" الفايروس ونتائجه الكارثية، في حين لم تكبُ الحكومة الفلسطينية، كما تمنى لها اعداؤها او توقع منها منتقدوها التقليديون.
لم تكن وقفة القيادة الفلسطينية، رئاسة وحكومة، وأداؤهما مفهومين ضمنا؛ فسيادة السلطة الفلسطينية محاصرة بسطوة جيش الاحتلال وبنزق الحكومة الاسرائيلية وعنجهيتها، كما ولا تملك فلسطين جيشاً نظامياً، وليس لديها قدرات تكنولوجية كافية، كسائر الدول المتقدمة؛ وتعاني ميزانيتها، فوق كل ذلك، من عسر مالي موجع؛ وهو ان كان في الايام العادية بثقل "إبّالة" فلقد زادته هذا الظروف العصيبة "أضغاثًا على أضغاث".
وعلى الرغم من جميع تلك المعطيات المعيقة، علينا، ونحن في خضم هذه التجربة الخطيرة، أن ننصف الحكومة الفلسطينية ونثمّن طريقة ادائها في متابعة واحتواء الازمة؛ ونجاحها، حتى اليوم، بمنع انتشار الفايروس داخل المناطق الفلسطينية، وبالسيطرة على تداعيات الامور وضبط سلوك المواطنين في معظم القرى والبلدات والمدن الفلسطينية.
لم يكن هذا النجاح ليتحقق لولا التئام عدة مكونات وتضافر عدة مقومات كان في طليعتها واهمها اكتساب الحكومة لثقة الأغلبية الساحقة بين الجماهير الفلسطينية؛ ففي استطلاع أجراه معهد (j m cc ) الموثوق، لصالح مؤسسة "جذور للانماء الصحي والاجتماعي" تبين ان الناس يدعمون طريقة تعامل الحكومة مع تفشي الوباء، اذ ان نسبة 96% منهم يثقون بطريقة استجابة الحكومة، ونسبة 88% يثقون في نتائج الفحوصات المخبرية للفايروس، بينما تؤيد نسبة 96% قرار الحكومة الفلسطينية بفرض حظر تجوال كلي على الضفة الغربية وقطاع غزة.
من يحظ بمثل هذه الشعبية والتأييد لن يخشى دعوة كتلك التي اطلقها حفيد رابين وتمنى فيها ما تمناه لرئيس حكومته؛ فنتنياهو حاول ان يستثمر الشاشات لأهدافه الخاصة، السياسية والشخصية، وهو لذلك تعمّد، في عدة اطلالات تلفزيونية، تهليع المواطنين، وأصر على استعراض علاقاته الشخصية، كملك لا ينازع، ومن خلال تغييب دور الدولة ومؤسساتها.
لقد أفضى هذا التصرف الارعن الى اشاعة اجواء سلبية في الاعلام ضده وضد حكومته والى اشمئزاز قطاعات واسعة من المواطنين وفقدانهم للثقة فيه وفي ما يقرره .
لقد حظيت، بالمقابل، الحكومة الفلسطينية بثقة شعبية عريضة وذلك بسبب تصرفها المتزن وأدائها، رئيسًا ووزراء، كطاقم مهني يحاول تقديم كل امكاناته من اجل سلامة جميع المواطنين بعيدًا عن اي مكاسب سياسية فئوية أو أهداف شخصية، فكسبوا جراء ذلك مصداقية ودعمًا لدى الناس.
لم تستأثر الحكومة او رئيسها بصدارة العمل، بل سعوا الى انشاء طواقم دعم فنية، وجندوا، مستفيدين من خبرتاهم التنظيمية، جميع القطاعات الادارية والاجهزة الامنية ومكاتب المحافظين وكبار موظفي الوزارات وعملوا على تشبيك جميع هذه الدوائر وربطها تراتبيًا مع خلية طواريء دائمة الانعقاد والتواصل مع أصغر المواقع حتى اكبرها.
لقد تصرفت القيادة في هذه الأزمة بمسؤولية وطنية عليا ، كما يليق برغبات شعب ضحى بأرواحه ويصر على التحرر وعلى اقامة دولته المستقلة؛ وهي قد دحضت بذلك مرّة اخرى ادعاءات بعض المفترين الذين درجوا على اجترار الاتهام المستفز بان فلسطين خالية من قيادة قادرة على ادارة دولة مستقلة.
لن يكتمل المشهد الفلسطيني المشرّف دون تسجيل ذلك التكامل بين الحكومة واذرعها وبين القيادات السياسية الفصائلية والميدانية - وقد برزت بينهم أطر الشبيبة الفتحاوية - والى جانبها مؤسسات المجتمع المدني وعناوين كثيرة من القطاع الخاص؛ فإنشاء جميع هذه المفاعيل ومعها لجان الطوارئ المحلية يشهد، مرة اخرى، على ان فلسطين ما زالت حبلى بطاقات لا تعرف لليأس محلا ولا تستكين لخوف او لمذلة.
مرت على الفلسطينيين سنوات عجاف وما فتئوا يعيشون، في الواقع، على أهدابها؛ وكان من السهل عليّ ان أحصي اليوم مثالبها وخسائرها ، لكنني آثرت وأنا ازاء جائحة تواجهها الانسانية، أن استذكر فلسطين المعطاءة والجميلة بدون ان انسى غصة غزة المؤلمة؛ فمن يسمع عن قصص أهل النخوة في الريف وفي مدن العز الفلسطينية، ويعرف كيف لا يرضى الفلسطيني أن ينام وجاره خائف أو جائع، لن يفتش عن عيوب ذاك القوم ولا عن سقطات قياداته.
فلكل مقام مقال، وشعب فلسطين صمد في الماضي حصارات مقيتة ولم يخرج منها الا وهو أصلب واوعى، او كما قال محمودها، على لسان جميع ابنائها وهم في حالة حصارهم الاسبق: " لم يبق بي موطئ للخسارة، حر انا قرب حريتي وغدي في يدي .. سوف ادخل عما قليل حياتي، وأولد حرًا بلا أبوين ، واختار لاسمي حروفًا من اللازورد.."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق