أنهَت إعداد مائدة الإفطار الرمضاني، وجلَسَت إلى جانب النافذة المطلة على حديقة المنزل، بانتظار اكتمال حضور أفراد الأسرة، وسماع صوت المؤذن.
لفتت انتباهَها أشجارُ الحديقة، ونسيمُ الغروب يداعب ذؤاباتها العالية، فتميل قليلا، وتنحني، وتعود ثانية للاستواء. وثمة أزواج من الحمام، وبلابل وعصافير متنوعة، تنهي تحليقها الأخير، في الفضاء، قبل أن تأوي إلى أعشاشها الدافئة. تنهدت من أعماق قلبها، وهمست: الله يرضى عليك، يا ابني.
كم كانت تمنّي نفسها، بأن يتحقق حلمها، وأن يعود ابنها المغترب؛ طلبا للعلم، وأن يشارك إلى جانب أفراد أسرته، في تناول إفطار رمضان الشهي، في الوطن!!!.
طبخت اليوم الأرز مع الملوخية، والدجاج المحمّر، كم كان يحب هذه الطبخة!!. كان يشم رائحة الملوخية، من مكان بعيد، وما أن يدخل المطبخ، ويرى الطنجرة على الغاز، حتى يقترب منها، ويشمّ رائحتها بعمق، ويقول وهو يفرك راحتي يديه بجذل: ما أشهى رائحتك، يا ملوخية حقول بلادنا الجميلة!!، سلمت يداك، يا أمي.
مضت خمسُ سنوات على غيابه عن مائدة رمضان، كانت تضع كرسيه و صحنه، وملعقته، وتتخيله جالسا مع إخوته.
هذا العام، كانت الأسرة على موعد معه؛ للحضور إلى البلد، وجاء صوته عبر الهاتف ضاحكا مستبشرا: في بداية رمضان، سنلتقي، سأمضي صيام الشهر كله، وإجازة عيد الفطر السعيد، في فلسطين، وسأغادركم فترة قصيرة من الزمن، وأعود لكم حاملا شهادة الطب ، بامتياز.
حجز مقعدا له، في الطائرة، قبل شهر من موعد عودته، وكنت أستعجل مرور الليالي والأيام؛ لألقاه، وأضمّه إلى صدري، وأشمّ رائحته العبقة، وأبحر في عينيه السوداوين العميقتين .
وواصلَت استرسالها في حديثها الداخلي، وصعدت من صدرها آهة حرّى: آهٍ...آه ..!!. لم يتحقق الحلم، حدث في العالم زلزال، خلخل كل شيء، هاجَمَنا فايروس الكورونا، فأغلقت الدولُ كلّها أبوابَها، وتم إلغاء مواعيد السفر، وربضت الطائرات في أماكنها، وخلا الفضاء الرحب منها، وأنّى لمغتربٍ حبيب، أن يأتي وهو بعيد عنا، آلاف الكيلو مترات، وفي قارة أخرى؟!!.
تتصل به يوميا، تسمع صوته، وترى وجهه الحبيب، عبر الكاميرا، توصيه: حافظ على نفسك، التزم بعدم الخروج، إلا للضرورة القصوى، غسّل يديك، وعقمهما، تغذَّ جيدا، تحاول أن تصبّره، وهو بدوره يطمئنها: لا تقلقي، يا أمّي، أنا وزملائي في السكن بخير، ونتعاون معا.
تُحدِّث نفسَها: ما أشدَّ صعوبة تشتت أفراد الأسرة، في ظلّ المصائب والحروب والكوارث، وانقطاع المواصلات!!. ليت الغائبين موجودون معنا، نجوع، ونشبع، ونحزن، ونفرح معا!!.
وقبل أن يعلوَ صوت أذان الغروب،معلنا انتهاء يوم رمضاني، رنّ هاتفُها، و ردت: أهلا بك ، يا ابني، بشّر ..!!. أجابها: سجّلت اسمي مع الراغبين في العودة الاضطرارية، قريبا سأكون عندكم، ولكنني سأخضع للحجر المنزليّ.
قالت وعصفور الفرح يغرد في صدرها:الحمد لله، المهم أن تصل البيت، ونفرح بوجودك معنا،يا حبيبنا الغالي..!!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق