دافيد صيمح شاعر عراقي جميل ومجيد، ساهم مع غيره من زملائه ومجايليه المثقفين والمبدعين العراقيين في الحياة الاجتماعية والثقافية، ورفد المشهد الأدبي العراقي بمساهماته الشعرية والأدبية.
وهو من مواليد بغداد العام 1933 أتم دراسته فيها، وعمل مدرسًا للغة العربية. في العام 1950 اضطر للهجرة من العراق مع نخبة من المثقفين اليهود نتيجة ضغوطات الحكومة العراقية على أبناء الطائفة اليهودية، واقتلاعهم من وادي الرافدين، وبذلك خسر العراق العديد من أبنائه الأبرار الطيبين في جميع المجالات والاختصاصات. وغادر صيمح إلى الدولة اليهودية، وهو يحمل معه أجمل هدية قدمت له، ديوان الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، الذي أهداه إياه عندما كان أستاذا للأدب العربي في مدرسته.
نظم صيمح الشعر وفق الطريقة الكلاسيكية التقليدية وأجاد في ذلك، ونشر قصائده في مجلات عديدة، وشارك في عدد من الندوات الشعرية والأدبية. وكان قد أنجز ديوانه الشعري الأول لكن الظروف والأوضاع التي سادت في تلك الفترة حالت دون إصداره مطبوعًا.
وفي العام 1954 شارك صيمح مع ساسون سوميخ وشمعون بلاص في إنشاء ندوة " أنصار الأدب العربي "، وفي العام 1959 تحقق حلمه بصدور مجموعة مختارة من أشعاره حملت عنوان " حين يجيء الربيع "، وهي المجموعة الشعرية اليتيمة التي صدرت له.
واصل دافيد صيمح دراسته الأكاديمية في الأدب العربي في الجامعة العبرية بالقدس. وفي أواسط الستينيات حصل على منحة من جامعة حيفا لاستكمال دراسته في جامعة اوكسفورد، وفي العام 1969 حصل على درجة الدكتوراه عن أطروحته " النقد عند أربعة من أقطاب الأدب العربي المعاصر "، وهم : " عباس محمود العقا، محمد حسين هيكل، طه حسين، محمد مندور ".
بعد أن عاد للبلاد أشغل محاضرًا في جامعة حيفا، وكتب الكثير من الدراسات عن الأدب المعاصر، وفي أواخر أيامه أنجز كتاب " أدب الحب عند العرب " باللغة العبرية، وحقق مخطوطة " روضة القلوب ونزهة المحب والمحبوب " للشيرزي.
وفي العام 1997 رحل عن الدنيا إثر إصابته بالمرض العضال، عن عمر ناهز 64 عامًا، تاركًا سيرة أدبية طيبة، وإرثًا شعريًا رائعًا، متنوع الموضوعات والأغراض والثيمات.
وكان دافيد صيمح قد كتب ونشر في حزيران عام 1957 قصيدة في غاية الصدق والروعة والجمال، تزخر بالنغم والجرس الموسيقي، إلى شاعر العرب الأكبر، ابن النجف، محمد مهدي الجواهري ، وذلك كسداد دين وشكر على هديته الثمينة، ديوانه الشعري، ويعبر فيها عن شعوره تجاهه ، مشيدًا بشاعريته الفذة ومواقفه الوطنية، حيث أمن بالشعب المعتز بقومه، وحمل لواء الوثبة في العراق. وكانت صحيفة " الاتحاد " العريقة أعادت نشر هذه القصيدة في عددها الصادر يوم الجمعة الثامن والعشرين من كانون الأول 1990، ويقول فيها :
يا شاعر الشعبِ عُذرًا أستميحُكَه
إذا مَعيني من الافصاحِ قد نّضَبا
ما زالَ في عُنُقي دَينٌ أسدُدُه
أفيكَ عن بعضِهِ بالشكرِ ما وجَبا
ديوان شعرِك إذ جُزتُ الحدودَ بهِ
أسمعتُهُ من حديثِ القلبِ ما رغِبا
على الغلافِ رجاءٌ أنْ أسَخِّرَهُ
شعرًا لخدمةِ شعبٍ يشتكي السَغَبا
الكلُّ يشهدُ أني لا أزالُ على
عهدي، فللشعبِ سقتْ الشعرَ والأدَبا
****
آمنتَ بالشعبِ معتزًا بقوتِهِ
يرنو الى الغدِ مأمولًا ومُرتَقَبا
بالحاملين لواءَ الوثبةِ – اندلعتْ –
مُسَعَّرا بدمِ الأحرارِ قد خَضِبا
فجائرٌ بالسلاحِ ارتاعَ مندحرا
من ثائرٍ باليدِ العزلاءِ قد ضربا
جوانبُ الجسرِ كالأفواهِ شاربةُ
دمَ الشبابِ على الغبراءِ منسكبا
أمنتَ بالأرض يجري في مساربِها
دمٌ تدفَّقَ من أعراقِها ذَهَبا
وبالمساواةِ إذ حاربتَ فلسفةً
" تقضي بأنَّ البرايا صُنِّفَتْ رُتبا "
وبالأكفِّ التي تسعى بلا وَهَن
للرزقِ أملتْ على التاريخ ما كتبا
وبالقلوب، من الاعصارِ قد جُبِلتْ
تكادُ لهفًا من الأضلاعِ أنْ تثِبا
***
الأرضُ لم تُنْبت الحرمات والكربا
ولا الهوانُ من الأقدار قد كتبا
لكْن أبادتْ يدُ الاقطاعِ غلَّتها
وطغمةُ الشرِّ لصَّت زرعَه الرَّطِبا
رأيتُ دورًا على الاجحافِ قائمةً
والعرضَ مُنـتَهَكًا والحقَّ مغتصبا
والزارعين مع الديدانِ مرقدُهم
في الليل، والسيدَ المحظوظَ قد كَسِبا
والمانحين جمال الكون بهجتَهُ
لم يجتنوا منه إلا الهمَّ والتعبا
ولجتَ أنديةَ الباغينَ تلعنهُم
وتجعلُ الخمرَ في أقداحهم عطِبا
ولم يُلِنْكَ جهادًا أنهم حشَدوا
في كل يومٍ، عليكَ الظلمَ والوصبا
فشاهدوكَ قناةً خابَ عاجمها
وشوكةً مُرةً أدمتْ من احتطبا
طعنتَ فيهم فقالوا : أضرمَ اللهبا
وحرَّضَ الفتنة الشعواءَ والشغَبا
وكيف يخرسُ شعبٌ أنتَ شاعرُه
تميطُ عن ناظريهِ السترَ والحُجُبا ؟
أنتَ العراقُ وهذا الشعرُ مُهجتهُ
حَرَّى فزَندُكَ قد أذكى بها اللهبا
إذا الَّمتْ من الأزرارِ داهيةٌ
فمن قوافيكَ سال الدمعُ وانسكبا
ولو تفجَر منكَ اللحنُ في جذلٍ
تميلُ بغدادُ من أصدائه طَرَبا
سلامًا لروحي الراحلين صيمح والجواهري، ولهما المجد والخلود، وطوبى لهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق