مشمش حزيران... وهدايا الفانتوم/ أ. عمر عبد الرحمن نمر

في الخامس من حزيران وفي كل عام... تثور فيّ ذكريات الطفل الصغير... سألت في حينها: ما هذي السكك في السماء؟ قالوا: طائرات ميراج... سألت: لم تتخطط السماء بغيوم بيضاء رفيعة في عز الصيف؟ قال أبي- رحمه الله- وطيّب الله تربته وثراه.. طائرات فانتوم.. ما شاء الله ميراج وفانتوم في السماء...! ونحن لم نجد كهفاً بدائياً نسكنه يحمينا من زمجرة الطائرات.. فوجدتنا تحت شجرة مشمش باسقة الظل، لامعة الثمر... نصحنا بالاختباء تحتها والاحتماء بها الوالد رحمه الله...
الإثنين 5/6/1967
كنت قد بلغت من العمر عتيّا... عصر ذاك اليوم طلب مني قريب لي أن أذهب لقريب له.. وأطالبه بدينية دينار كان قد استقرضها منه..
الجو حار.. الطائرات تطارد من بالفضاء... الحارة المعمورة خالية، وأنا... ألهث راكضاً حتى وصلت مغارة الرجل التي حولها إلى ملجأ..
ما بك؟ سأل. دينار العم... قلت. ارتجف.. قل له: والسماء والطارق... حاولت طرق باب المغارة ورائي، فلم أجد لها باباً.
الثلاثاء6/6/1967
سكة المحراث –الميراج- سكتان.. ثلاث سكك انحنت وقبلت سنابل القمح في سهلنا... ومن حرارة الشوق احترق القمح......
ثم انحنت وأهدت (ثلاثة قيازين) على خيمة.. لمساكين في السهل.. فحرقت امرأة.. وصبياً.. وشاباً أصبح رجلاً يعاني من بتر ساق، وحروق بدن......
الأربعاء7/6/1967
سمعنا الإعلامي الكبير بصوته الجهوري.. يعلن عن سقوط طائرات العدو... وأنها تسقط كالذباب.. قلنا: اقتربنا من الناصرة وحيفا... فسقطت القدس.. والجولان...
الخميس8/6/1967
اتفق الرابضون تحت شجرة المشمش، وكانوا زهاء خمسين فرداً.. أن يوسعوا مغارة بالقرب منهم وينظفوها ويعمروها.. لأن الحرب ستطول.. وستتعقد الأمور.. ولن تغني شجرة المشمش من الحرب شيئاً... ولن تقي ما ستصبّه الطائرات من جام غضبها...
بدأت المعاول بالضرب، والدلاء بنشل التراب.. ورميه جانباً.. والطائرات تجوب السماء.. وتحفر نصرها...
الجمعة9/6/1967
الفضاء ميدان للطائرات... ولم يكن بمقدورنا التمييز بين طائرات عربية، وتحديداً عراقية، أو مصرية، وبين الطائرات العدوة... فعلمتنا العجائز أن ندعو:
إن كنت طيارة عربية الله ينصرك
وإن كنت غير ذلك الله يكسرك... 
فكنا نرددها... عند رؤية دخانها... أو إسقاط قيازينها... أو سماع (متر اليوز) يلاحقها
السبت 10/6/1967
كانت كل الراديوهات تقول إننا انتصرنا... وسنحقق مزيداً من النصر..
في الصباح الباكر.. نظر رائد مغارتنا إلى أعلى.. إلى خط سكة حديد الحجاز... على بعد مئتي متر من كهفنا ... فرأى جماعات تتلوها جماعات... رجالاً وركباناً... رجالاً ونساءً... شيوخاً وشباباً وأطفالاً... أطفالاً بلغوا من العمر عتياً... وقد حملوا ما استطاعوا حمله على حمير.. وخيل، وبغال.. وحتى على ظهورهم.. وسارت القوافل نحو الشرق
ركض رائدنا نحوهم.. وكأنه سألهم... ولما رجع، وقف باب المغارة، وأعلنها والدموع في عينيه:
الآن سقطت البلاد.. الآن سقطت البلاد... ارفعوا الرايات البيضاء... 
تبا له من إعلان
فوراً رجعت إلى البيت.. أنا وأخي الذي يكبرني –رحمه الله- وطيب الله ثراه، كانت الساعة لا تتجاوز السادسة صباحاً.. ونبّهنا أبي وأمي من غطيط نومهما وأعلنا النبأ
ومن هول الصدمة... حاول والدي الخروج من الشباك... ونسي أن للغرفة باباً... يمكن استخدامه للخروج والدخول أيضاً... وصرخت الوالدة.. رحمها الله –وطيب الله ثراها- وااااااااه.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم... وعزفت دموعها... على أنغام مواويل حزينة
نواح وعويل في كل بيت
الناس لا تأكل ولا تشرب.. كان للعم _ أبو موسى _ رحمه الله وطيب الله ثراه_ مزرعة دجاج، فلم يجد علفاً لها فوزع الدجاج على أناس لا يأكلون.. ولا يشربون.. وعندما أكلنا دجاجاً قالت العمة نعمة رحمها الله وطيب الله ثراها: أيوه.. كلوا كلوا.. وانصحوا.. واسمنوا.. هسه رايحين يذبحوكم مثل الجاج... كنا قد بلغنا من العمر عتيا.. فأصبحنا نرتجف...
بعد السقوط المدوي.. انطلقت المصطلحات: احتلال.. سقوط.. نكسة.. نكبة.. هزيمة.. رحيل.. ترحيل.. أسرى.. قتلى.. جرحى.. قرار242، مجلس الأمن، سقوط الـ التعريف من الأراضي، الترجمة الإنجليزية للقرار.. الفرنسية، العربية.. خيمة، مخيم
استقالة عبد الناصر، الجماهير في الشوارع تطالبه بعدم التنحي.. المشير.. الرائد.. الإعلامي، وكالة الغوث... شجب، استنكار، تداعي لاجتماع... منع التجول الليلي...
12/6/1967
افتقد والدي_ رحمه الله وطيب الله ثراه_ أتانه (حمارته) في الجبل.. فلم يجدها.. كان يحمل إليها مؤونتها من التبن والماء في كل يوم من أيام الحرب، ويتركها في الخلاء.. بحث عنها، لم يجدها.. سرقت الحمارة..
وبعد شهرين من النكسة:
حفر والدي رحمه الله في حاكورة الدار... حفر خندقاً عميقاً، ورفع منه أعز ما يملك:
منفضة دخان بلورية ذات أصابع ستة... أحضرها أخي هدية من الكويت قبل النكسة بثلاث سنوات.. كسرها ابني علي في طفولته في تسعينيات القرن الماضي...
وسجّادة رسم عليها غزالان في مرعى.. كنا نعلقها على واجهة غرفة الاستقبال.. ليراها الضيوف فقط
وراديو ترانزيستور، ماركة توشيبا.. مع بطارياته الحديثة، كان والدي قد دفنها في ساعات الحرب الأولى... 
قبل أن أنسى بعد خمسة أو ستة أشهر من النكبة، أو النكسة، أو السقوط... التقينا بحمارتنا المفقودة
كان يملكها مكاري جديد.. حمّلها.. بصلاً.. وبندورةً، وخياراً.. وما طاب من الفواكه، وحولها دكانا متجولا.. وأتى بها إلى قريتنا.. هجمنا على رسنها
وقبضناه.. ودار هرج ومرج... وشهد شاهد من أهله بأن الحمارة له.. وشهد شهود من أهلنا أننا نمتلكها من سنين، وقال شهودنا.. إن ترك لها الخيار، فستذهب وحدها بلا إكراه أو توجيه إلى مذودها.. وأخيرا اقتنع الجمع وكانت الحجة دامغة.. ولكن لم يذعن المالك الجديد للحل إلا بعد دفع دينارين، وأخذ رسنها المزوَّق، وحلسها الجديد...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق