ما أن شرعتُ في الكتابة عن زُمّار وإحتظانها للمسيح حتى إستذكرتُ عملاق المقام العراقي ورائده الشاب الذي طالته يدُ المنية فجأة وهو في أوج عطائه وقمة شبابه (ناظِم الغزالي) الذي تغنى بعذابات لجنديٍ مسلمٍ في العهد العثماني وقع في حب فتاة مسيحيّة عندما شاهدها تضرب ناقوس الكنيسة القريبة منهم بدلاً من راهب الدير الذي كان كبيراً في السن ، بادلها النظرات التي كانت أبلغ رسولٍ للمحبين فأحبا بعضهما ولكن بعيداً عن الأنظار فقال بعد أن صرعه عِشقُه وغرامه :
سمراءُ من قومِ عيسى
من أباحَ لها قتلَ إمرءٍ مسلمٍ قاسى بها ولها
أردت بيعتها ... أشكو القتيل لها
رأيتها تضرب الناقوس
قلت لها : مَنْ عَلَّمَ الخود ضرباً بالنواقيسِ
ناديتها يا مَها الله يُلهمك وصلي
فكُفي النوى إني مُتيمك
قالت : بلى قلت إنَّ الوجد يؤلمك
وقلت للنفس : أي الضرب يؤلمك
ضرب النواقيسْ أم ضربُ النوى قِيسي
وبعد مضي فترة تغلغل العشق في القلوب وضرب أطنابه إذ لا مناص ولا مفر منه ... ولكن شاء الله أن تتحرك الوحدة أو القطعة العسكرية لإستلام قاطع مسؤوليةٍ جديد ؛ ومِن خلالِ تجربتي فلطالما عِشتُ مواقفٍ كهذهِ في حياتي العسكرية التي جعلتني أهيم عِشقاً بكل ذَرةِ تُرابٍ من أرض بلادي الغالية فما مِن موطئ قدمٍ إلاّ ولي معه قصةٌ وحكاية ، المهم أن بطلنا إبتعد عمن أحب مُرغماً لأشهر لكن حبه لمحبوبته المسيحيّة يتعاظم ويشتد ويكبر ، وبقيت هي تنتظر عودته بشغفٍ ولكنه حينما عاد مع تباريح الفجر وجد الأبل على إستعداد للرحيل طلباً للعيش في غير هذا المكان ، وراهبُ الدير رغم إنشغاله بالناقوس لكنه يراقب الموقف عن كثب كونه يعلم بقصتهم ، شاهدت الفتاة حبيبها عبر شَقٍ في الهودج الذي يوضع فوق الجمل ، تهلل وجهها فرحاً وغمرت قلبها السَعادة فرحاً بعودته سالماً فلوحت له بيدها ... فما كان منه إلاّ أن يرتجل هذه الأبيات الخالدة :
لَمّا أناخو قبيل الصبح عِيَسهُمُ
وحملّوها وسارت في الدجى الإبلُ
يا حاديَ العيسِ عَرِجْ كي أودعهُـمْ
يا حادي العيس في تِرحَالِك الأجلُ
إني على العهد لم أنكر مودتهم
يا ليت شعري بطول البعدِ ما فعلوا
فأرسَلَتْ من خلال الشَقِ ناظرها
ترنو إليَّ ودمعُ العينِ ينهملُ
لَمّا علمتُ بأن القومَ قد رَحَلوا
وراهبُ الدَيرِ بالناقوسِ منشغلُ
يا راهب الدَير بالإنجيل تُخبرني
عن البُدُورِ اللواتي هاهنا نَزَلوا
شَبَكْتُ عَشْرِي على رأسي
وقلت له : يا راهب الدير هل مَرَتْ بكَ الإبلُ
فَحَنَّ لي وشَكَى وأنَّ لي وبَكى
وقال لي يا فتى : ضاقَتْ بكَ الحِيَلُ
إنَّ البدورَ اللواتي جئتَ تطلبها
بالأمسِ كانوا هُنَا واليومَ قَدْ رَحَلوا
صحتْ محروم مكلوم مسكَوم مهضوم خايب سايب يا قلبي ....
إستذكرتُ أصدقاء طفولتي وأحبتي الذين أدمى شوقي إليهم مُقلتي فأرسلت روحي لتطوف حيث بيتنا الزُمّاري الذي يطفح بالفرح تتعالى فيه أصوات الضحكات بعد يومٍ حافلٍ بالركض والجري مع رفاقي كأني حصانٌ بريٌ يأبى أن يلجمه لجام أو يمشي الهوينا ، عدتُ وقد إغبرت قدماي وتعفر وجهي بتراب زُمّار وثراها لأدلِف بيتنا دون أن أطرق الباب الذي ما كان يُغلق بل كان مشرعاً وخلفه ستارة قماش (بردة) ... هذه هي العمة سُعاد المسيحية زوجة العَم هُرمز أم سعدي تحمل بيديها صينية فيها ما لذ وطاب من الأطباق صحن الدولمة أو الكبّة أو التمن والمرق مع الخضراوات وأرغفة الخبز لتقول لأمي :
أم رياض : تنغصتولكي ولي دادا والمسيح كوي اللقمة ما تعبغ بثمي إذا ما تتهنون معانا وتضوقوها
نتقابل نحن أفراد العائلة على الطعام لأبصِر سلسلة ذهبية في رقبة أخي رِياض وما أن أمعنت النظر حتى تأكدت بأنه صليبٌ ذهبيٌ في رقبته أدركت أنه غارقٌ حتى أذنيه في العِشق لكن من هي يا ترى التي أهدته هذا السِلسال هل سيبقى إسم محبوبته المسيحية لغزاً يصعب حَلّه خاصةً وأنَّ أخي رياض (هل الكَويويد) سكوتي فهو بحرٌ من الأسرار ليس له قرار ، فدار في خلدي أن أكثر الشابات التي ستتردد على بيتنا ستكون هي المقصودة لكنَّ المشكلة أنَّ بيتنا ما كان يخلو وزيارات الشابات خيرٌ من الله وكلهنَّ صديقات أخواتي ....
أسمع صياح يلدا في صراخه المتعالي من بيته المجاور لنا وقد نشب صراع الدِيكة بينه وبين زوجته أم سمير كأنهما ( بَبَّاي وزوجته) ويكفي أن يمر أحدنا من قرب دائرة البريد أو البدالة ليستمع إلى صراخ (يلدا أبو سمير ) وهو ينادي :
ألوووووو حُكَنَة (حكَنَة قريةٌ تتَبع زُمّار فيها بَدالة) ....
يعتصرُ قلبي وأنا أستذكرُ صديق طفولتي ذلك الطفل الجميل الذي يشع وجهه نوراً (نبيل إسحق) وقد بدأ يكثرُ من الغياب عن المدرسة لنصعق لاحقاً بنبأ وفاته بعد أن إنقض عليه (سَرطان الدَم) ذلك الداء العضال " رحمك الله يا حبيبي "
أستذكر صفنتي بورقة إمتحان الهندسة وأنا في الخَامِس العِلمِي لأستمع إلى صوت جاكلين شليمون إيشو (جاكو) وهي تهمس لي :
تغيد "تريد" شيء لأن أنا كملتو وغاح "راح" أسلّم ورقة الإجابة وأطلع ...
فأجيبها : إنشلع هرشج كل شيء ما أعرف مثل الأطرش بالزفّة
تسألني : بس قلي إيما سؤال ؟
كلهن من السؤال الأول إلى الخامس بس إتركي إجابة سؤال ترك إختاريهِ أنتِ !!!
ينتبه الأستاذ سليم قرياقوس سليمان فيصرخ (شارلوك هولمز ) :
جاكو إقطعي الكلام ثم يأمرها قومي :
تسارعت دقات قلبي وأنا أتضرع بالدعاء ( ربي بس لا يطلعها من الإمتحان فهي حبل نجاتي)
قال أستاذ سليم بصوت حازم :
قومي جاكلين وإقعدي بالرحلة اللي خلف زِياد تماماً
في قلبي أقول شكراً لك أستاذ سليم فقد كانت رحلتها بعيدة عني وربما إنتبه الجميع لصوتها وهي تردد لي الإجابات وهكذا أكملت لي الإجابة فسألتها :
هل بقي شيء في ورقتك لم ترديه لي ؟
قالت : نعم فقط إسمي ضحكنا ثم سلمنا الإجابات
حفظكم ربي (جاكلين شليمون إيشو وإبن بَرطِلة الأستاذ العزيز سليم قرياقوس سليمان )
أستذكِرُ أصدقاءَ طفولتي هَيثَم هُرمز شابا وصديق صباي الحبيب إدمون أدور يونان المشاكس وأقول :
ما أن نعق بعراقنا غُراب البين وشطت بنا الأوطان لنصبح كلٌ تحت نجمةٍ في مشارق الدنيا ومغاربها وبينما أنا أبحث وأتقصى عن أخباركم عسى أن يصلني بصيصُ أملٍ يبشرني أنكم فوق الأرض حيثما ما وطئت أقدامكم من ثرى حتى رَفَّ قلبي على صفحةٍ تحمل صورةً لقسيسٍ أو راهبٍ توقفتُ لحظةً ثم عُدتُ إليها ثانيةً لأبعث طلب صداقةٍ خاصةً بعد أن قرأت الإسم (Edmond ) لأفاجئ بأني قد عثرت مصادفةً على أخي وصديقي ورفيق دربي ذلك الطالب المشاكس في شِيكاغو ولكن لا ضير أنا في السماوة وأنت في أميركا لنتواصل بعد طول فراق لتكون الدموع سيدة الموقف ....
إيه يا إدمون أتذكر حينما قالوا إنَّ إدمون وزياد خلقوا مِن ذاتِ الطينة ربما قالوها تهكماً ولسان حالهم يقول ( ما أطكَع من سعيد إلاّ مبارك ) لكننا نقول (يا رب تكون طينةٌ مباركة) لا نلومهم فقد قالوها وصفاً لمشاكساتنا لكن الأيام أثبتت أننا أشد الناس تعلقاً بالأرض والوطن فها أنذا أنحب نحيب الثكالى على وطنٍ لم نحفظه كالرجال فَحُقَّ علينا أن نبكيه كما النساء لتشاطرني أنت ذات المشاعر
وتسألني عن محمود الحسون الذي ينعته الأستاذ قائلاً :
إذا إستوعب محمود الدرس فقد فهم الجميع
تسألني عن العراق وموصلنا الحدباء وعِين زَالة وزُمّارنا الحبيبة التي غيبتها الأمواج المتلاطمة لكنها لن تمحو وقع خطانا ولا همسات شفاهنا لمن أحببنا ولا التراتيل والأنغام العذبة التي كنّا ننشدها ونتغنى بها ، وأصوات المدرسات والمدرسين تصرخ بنا :
كَفّي بقت : أشقد تدوون زياد وإدمون
يشدنا الحنين إلى صديقنا الثالث (ليون توما مُرقس) لطالما كنّا نعدو ونمرح حتى إذا أتعبنا الركض والجري تقول لي :
أيشــــــــ ورطك بالجيش حتى تقضي عمرك بورقة إسمها "نموذج الإجازة" وأنا أقول لك :
أسأل الله يا إدمون أن يسلطني الله عليك وتخدم العسكرية بإمرتي والله إلاّ أشوي على أذانك بصل
أيها المشاكس الذي أوهمني قرع كعب الـــ( بوت) الذي يرتديه في زمنٍ كُنّا ننتعل أحذية (الجوبلس / اللاستيك) فأتوهم بصوت قرع كعبه بأنه قرع أصوات أقدام الطالبات فإذا بك تضرب الأرض بقوةٍ عمداً مدركاً أن حيائنا يمنعنا من الإلتفات إلى المدرِّسات (ست سُعاد يُونس طه وست عاتِكة الصُميدعي) يمنعنا الحَياءُ من الإلتفات إلى أخواتنا وزميلاتِنا الطالبات (سَميرة هُرمز شَابا ، جينا فريدون إيشا، نوال يُوسُف يونان ، هُيام عَزيز شَمعون ، كَلادِس يُوسُف ، جاكلين ، سَارة ، دُوريس ، نهرين و...) حفظهن الله فوق أي أرضٍ وتحت أي سَماء ...
بماذا أحدثك يا إدموند عن العراق .
فلعل أبيات الشاعر البردوني تصف الحال في اليمن كما العراق :
ما ذا أحدث عن صنعاء يا أبتي *** مليحةٌ عاشقاها السل والجربُ
ماتت بصندوق وضاحٍ بلا ثمنٍ *** ولم يمت في حشاها العشق والطرب
وأصبح حالنا كما يصفه المواطن اليمني بهذه الإجابات :
مواطن بلا وطــن لأنه من اليمن
تباع أرض شعبه وتشترى بـلا ثمن
يبكي إذا سألته من أين أنت؟.. أنت مَنْ؟
لأنه مـن لا هنا أو مـن مـزائد العلن
مواطن كان حماه من (قبا) الى (عدن(
واليوم لم تعد له مـزارع ولا سكــن
لكنني أبشرك أننا بنينا لنا وطنٌ من أحلامنا وها نحن فيه وها أنت اليوم قادمٌ إلينا من شيكاغو حي هلا بك ولن نطالبك بفيزا أو تأشيرة دخول فدونك منزلاً نبضات القلب وحدقات العيون .
بالعودة إلى أصل موضوعنا عَنْ العوائل المسيحية في زُمّار فقد بدأ الإستقطاب مع وصول الإنكليز إلى منطقة (عين زالة ) واكتشاف النفط فيها الأمر الذي أسهم في إيجاد الكثير من فرص العمل والتعيين في شركة نفط عين زالة فكانت زُمّار المكان الأمثل للسكنى لأسبابٍ كثيرةٍ منها طيبة أهل زُمّار وروعة المجتمع الزُمّاري يعزز ذلك الموقع الجغرافي لزُمّار كونها تقع على ضفاف نهر دجلة وإحتوائها على الأماكن الترفيهية نادي ومقاهي وأماكن جميلة تسحر العيون فضلاً عن توفر كل الخدمات ومستلزمات الحياة الرغيدة وهكذا أصبح أهلنا المسيح جزءٌ لا يتجزأ من النسيج الزُمّاري بحيث أن قسم منهم بقي في زُمّار حتى بعد إنتهاء عملهم وخدمتهم في وظائفهم خاصةً بعد أن أنهى أبناء هذه العوائل دراساتهم الثانوية والجامعية ليشغلوا مراكز ومواقع مهمة في دولة العراق وخارجها وسنستهِلُ الأمر لاحِقاً بقامةٍ عِراقية زُمّارية هو إندريوس (شماشة / الشمّاس) بن القَسْ داؤود (قَس كَنيسَة مَار زَيّا) وهو والد الخالة الأصيلة فِكتوريا عِنوان الأصالة ومعدن الوفاء فالبرغم من رحيلها عَنِ العِراق إلى أمريكا منذ ما يزيد عن الثلاثين عاماً لكنها لا زالت تحتفظ بِتُراب زُمّار وقد أوصت أن يُنثَر على جُثمانها (بَعد عُمرٍ طويل) وما مِن مناسبة إلاّ وتُبادِرُ بالإتصال والسؤال والإطمئنان لِتُشعِرنا بِتقصيرنا ، عُذراً خالتي الحبيبة فهذا هو ديدن الكِبار ، فالعِراق بلا أهله وبُناة مجده من أهلنا الآشوريين كما الوردة وقد غادرها عِطرها وشَذَاها ، لكم مِنا أسمى آيات المحبة والتقدير والإعتزاز .
بِقَلَم إبنُ زُمّار : د. زِياد مُحمَّد حمُود السَبعَاوِي
:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق