تَباً لرُحى الحَرب التي تلوك بين أضراسها الغض والقضيض فتأتي على الإنسانِ والبُنيان ، تَسحق البشر والشَجر والحَجَر فتَحرِق الأخضر واليابس ليتأتى عنها الضَياعُ والتَشرُد والقَتلُ العنوان الأبرز في التأريخ الحديث الذي تقوده شياطينُ الإنس على هذا الكون الذي ينوءُ بحملِ هذا الإنسان ، فالإنسانيةُ غارقةٌ في بحرٍ من الدم منذ الأزل وقد تجلى هذا الوصف المؤلم للإنسان في خطاب الملائكة لله سبحانه وتعالى حينما قالوا :
﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
فقد عَلِمَ سُبحانه وتعالى أن نوازعَ الشَّرِ وكوامنه في الإنسان تميلُ نحو الفسادِ وسفكِ الدماء لذلك فإن حركة التأريخ موغلةٌ مُنذُ نشأتها بالكراهيةِ المُفضِية إلى الإغتيال وموغِلةٌ بالحَسَد والقَتل الذي سَنَّه قابيل بحقِ أخيه هابيل ليكون الحدثُ إيذانٌ بأن يغص الكوكبُ بالسفاكين والمفسدين الذين تدفع الشعوب المضطهدة تَداعِياتِ ونتائج إيغالِهم في القتل والإيذاء ، ورغم تقاطعي مع القول المأثور(الجميعُ خاسِرٌ في الحَرب و الرابِح فيها خَاسِر) تقاطعٌ مع القولِ في بعض جوانبه لاسيما فيما يَتعلق بالأسباب والدوافِعِ والنتائِج والأبعاد لكنني أتفق معه في الجانِب الإنساني ولا أريدُ هُنا بحث أسباب الحملات التي تَعَرَض لها الأرمن لكِنّها شَكَّلت منعطفاً في حنايا الروح والوجدان وتركت غَصَّةً في القَلب وخَلَّفت مآسي في تجاويف الذاكِرَة وتضاريسِها ، فها هي طبولُ الحربِ تُقرَع سنة (1914م) الجميع يُقاتِلُ الجميع والكُل حانقٌ على الكُل لتقتَص مخالِب القَتل مِنْ كُل فريسةٍ أرمنية تَحذِفها أقدارها بين رحى الحربِ الدائِرة لا لشيئٍ إلاّ كَردةِ فعلٍ على تحالفاتٍ للأرمنِ مع روسيا الخَصم وما يحصلُ هُنا في تُركيا العُثمانية للأرمن هو صدى لما يحصلُ للمسلمين هناك ...
بُوغُوس كَربيت ذلك الطِفل الأرمني الطري الترف بعينيه البريئة التي تُخفي خلفهما أسرارٌ لا يُسبر غورهما إلاّ مَنْ فتحَ الله عليه مدارك عُلوم الغَيب ، تَجْحَظُ عيناه رهبةً وتَرتَعِد فرائصه خوفاً فترتجف أقدامه كما السعف في يوم عاصِفٍ وهو يرى مصارع أبيه (كَربيت) وإخوته كيف تُزهَق أرواحُهم ويُقَتَّلوا تقتيلا .... ربااااااااه متى تستقر رصاصةً طائشة بين عينية ياااااا الله متى تستقر حربةً في قلبه وبين أضلاعه رحمااااااااك ربي قُتِل مَن كان يلوذ بهم (بوغوس) ولم يبقَ سوى أمه التي توالت على رأسها النكبات إثر النكبات وهي ترنو بعينيها مصارع زوجها وأولادِها الذين لاكتهم أنياب الحرب الضروس ، بُكاء طفلها الأخير (بوغوس) إنتشلها من دهاليز الموت الداهِم وأيقض روحها من وادي الهم السحيق القاتِم لتذكرها عبرات ونشيج إبنها بإنَّ رِسالتها لم تكتمل فلا زالت رائحة المنون تترصد فلا بُدَّ مِنْ مواصلة الحياة والبحث عن ملاذٍ آمن قبل أن تُصبِح أجسادهم البريئة طعامٌ لِغربان البين ووحوش الفلاة ...
علمتنا التجارب التي ألَمَّت بنا نحنُ أهل الموصل خاصة والعِراق عموماً بعدَ أن تشبثت بِنا المصائبُ وأمسكت بِتَلابيبنا أنَّ النّاس تجتمعُ بالخوف وهذا ما حصل للطفل اليتيم المنكوب (بوغوس) وأمه (المفجوعة بزوجها وأولادِها وأهلها وكُلِ عشيرتها) وهكذا إجتمع مَنْ تَبَقَّى على قيد الحياةِ مِن الأرمن في رَتلٍ بَشري مِن الأطفالِ والنِساء والشيوخ الطاعنين في السِن بعد أن أحنى ظهورهم تقادُم السنين وأحنت رقابهم خشية الجَلاّد وطالهم الإذلالُ والتنكيل ، حيثُ بلغَ تِعداد الرتلِ البشري آلافٌ مؤلفة يحدوهُم الأملُ بالحياة الحُرةِ الكريمة والتخلص من هاجِس القتل المُرَوِع يحدو ركبهم قائِدهم الذي إختلطت عليه كُل الإتجاهات فيَمَّمَ وجه صوب (سوريا) لكنَّ الرتل البشري كان كمن يستجيرُ مِن الرمضاءِ بالنّار حيث إنهالت الأيدي تضرب الجموع الوافدة والألسن كأنها السيوف الباشِطة (فلا تستهجنوا سادتي إنها الحرب وربما لو كُنّا مع أبناء سوريا لمارسنا دور الجلاد حينذاك ) ...!!!
فبَعدَ أن كانَ (بوغوس) يهيمُ في البراري مع أمه التي تمثل له بَر الأمان وبصيص الأمل لكِّن بصيص الأمل هذا تلاشت أنواره حينما إعترضهم (ذَكَرٌ) يمتطي صهوة جواده (إذ لا يليق أن نطلق عليه لفظ الفارس الذي يُرتبُ على حامل هذا اللقب سجايا وسِمات وخصال الفروسية) حيث أقدَم هذا الذَكَرُ على إختِطاف (أم بوغوس) وترك هذا الطفل هائماً على وجههِ لا حول له ولا قوة ، ربااااه ما أصعب الفراق بل الأصعب أنْ لا يَجِدَ المُفارِقُ فِراقُ غيرِ وامِق فرصة آخرِ ضَمةٍ وعناق لحظة الرحيل حيث تتعانق الأرواح ليبدأ عهدٌ جديدٌ من النحيبِ والبكاءِ إثرَ الفراق الذي إجتثَ الروح من الأعماق ليضيف هذا الموقف مصيبةٌ ربما هي أعظم المصائبُ التي تَحِلُّ بطفلٍ أن تُخطَف أمه (التي تجسدُ له كل ما تبقى من دنياه) دون أن يقوى على فِعلِ شيء سوى أن يَعدو راكضاً متعقِباً آثار سنابك الخيل وحذواته التي بَدت أكثر عُمقاً في الأرض بحكم الحِملِ الجديد ، إستدار الخَيَّال صوب الطِفل محاولاً زجره ومنعه مِن اللِحاقِ به لكن مع كلِ محاولة يزداد الطِفلُ تشبثاً للإلتِحاقِ بأمه المُنهَكةِ المغلوبةِ على أمرها وقد تَقَطَّعت نياطُ قلبها وبُح صوتها حَدَّ التلاشي ؛ وهكذا لم يبقَ للطِفلِ بوغوس سوى أن يتتبعُ بنظراته البريئة أمه التي بدأت تتلاشى رويداً رويداً ليتيقنَ أنه فقدها إلى الأبد .
وهكذا أضاع (بوغوس) أمه في فراقٍ إمتدَ إلى قِيام الساعة يا ويح نفسي على قلبِ أم (بوغوس) التي فقدت آخر أملٍ لها في الحياة ، ويا ويح قلب الطفلِ بوغوس الذي فقد بفقده لأمه فقد الأمن والأمان والحنان ، والله كأني بهم وقد قامت قيامتهم وإنطبق عليهم قول البارئ عز وجل :
﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
مع دخول الرتلِ البشري أرض سوريا فُقِدَ كثيرٌ مِن الأطفالِ الأرمَنُ وتشتت شمل ما تبقى من شتات العوائل فكان القَرارُ الذي إتُخِذ على عجل بعد الذُلِ والإهانة التي تعرض لها الهائمون على وجوهِهِم أن يتوجهوا إلى (نهرِ الخابور) مُيَمِمِينَ وجوهَهم صوب العِراق وُهنا إستَحضر موقِفي حينما غَادرتُ أرض الموصل وجمر الفراق يلتاع في قلبي وصَدرِي حتى إلتقيت بصديقي الشاعِر الموصلي المخضرم الأستاذ (عبد الوهاب إسماعيل ) حيث إجتمعنا في أرض السماوة فأنشد واصفاً حالنا وحال كل من تجرع أسى التهجير فتغنى بالموصل الحدباء وأردف بالسماوة قائلاً :
وَدعْتُ صيفي في هواكِ ومَربَعي
وخرجْتُ محزوناً ألوذ ُ بأدمُعي
يا موصلَ الجرح الكظيم ومَنزلاً
غادرتُ ... لا نفسي ولا روحي معي
غادرتُ أحمِلُ في الحنايا جمرةً
تلتاعُ في صدري وتوقِرُ مَسمَعي
وعسى الفراتُ يلُمّني بروائه
كي أطفئِ التعبَ الغليلَ بأضلُعي
قد جئتُ أطلبُ في السَماوةِ راحة ً
فَنَزْلتُ منزلها بأكرم موضِعِ
والآن أهواها ومَعْشَر أهلِها
صَدَحَتْ نَسائِمُهُ الحِسانُ بأروعِ
وهكذا فَرَّ (بوغوس كربيت) إلى نهرِ الخابور وعَبَرَ إلى جهةِ العِراق عارياً حافِياً جائِعَاً شَريداً طَريداً حتى وَصل إلى منطقة (قره ولي) التابعة إلى دهوك العراقية ثُمَّ إتجه نحو الشَرق حتى وَصل قرية (ديربون) العِراقية المقابِلة لقرية (خَانَك) السورية يفصل بينهما نهر دجلة في أضيق مجرى له و(خانك) تعود إلى ناحية المالكية المسماة (ديرك) حيثُ قصر (عزيز ياغو) في أعلى مكانٍ وهو يُطِلُّ على نهرِ دجلة ليبقى شاهداً على ظلمِ الإنسانِ لأخيه الإنسان عِلماً أنَّ هذا القصرَ المنيف لا يبعدُ عن قرية فيشخابور المسيحية سوى مسافة (100 – 200م ) وفي سنة (1991م) وبعدَ أن حصل الأكرادُ على شُبه إستقلالٍ عَن العِراق ، إستوطنت عشيرة (الميران) جزء مِن أراضي (عزيز ياغو) وأنشئوا مجمعاً لهم على شكلِ قريةٍ أطلقوا عليها إسم (قرية النركَزليّة) وهي تَقَعُ على الشَارِع الذي يربِطُ شَرقَ دِجلَة بِغَربِها قريباً مِن عَين (ديرَبُون) التي تَنبَعُ مِن سِلسِلة جِبال (بي خير) على الجهة اليُسرى .
في سنة (2005م – 2006م) وعِندما إشتَدَّت المؤامرة على تهجير المسيح عَن بغداد ، دفعَتِ الحكومات الغربية تعويضاً مُجزِياً لــ(عشيرة الميران) ليتركوا هذه القرية على أن يتم تعويض رب العائلة وكل فرد متزوج ضمن العائلة الكردية الواحدة بقطعةِ أرضٍ في مدينة دهوك مع مبلغ (25000000) أي خمسة وعشرون مليون دينار عِراقي وهو ما يعادل 20000 $ (عشرون ألف دولار) ؛ وهذه التعويضات ربمّا تكون مِن العالَمِ المسيحي البابوي المتعاطف مع ما آل إليه حالُ أهلنا مسيحيو العراق ؛ وهكذا تَمَّ إرجاعُ العوائل المسيحية التي إستوطنت بغداد منذ عام (1974م) عِندما تَمَّ ترحيلهم مع الأكراد فأعادوهم إلى ديارِهم وقراهم لكنَّ (التَبَغْدُد) غلب على طبيعتهم ، يقول (أحمد البرو) :
- إلتقيت بالعشراتِ منهم وهم يتخطون (يتمشون أوقات العصر) وكأني بهم يتمشون في شارِع أبي نؤاس أو شواِرع كرادة مريم أو حي الآثوريين في الدورة أو الكرادة فبادرتهم بالسؤال :
- هل تعني لكم هذه الدِيارُ شيئاً ؟
إنقسمت الآراء إلى قسمين فكِبارُ السِن كانت إجابتهم :
- نعم إنها أرضنا وأرض الآباء والأجداد
أمّا الشباب الذين ولِدوا وترعرعوا في بغداد فكانت إجابتهم قطعية وبالنص التالي :
- كُلُّ شِبرٍ من أرض بغداد لا نستبدله بهكتارٍ من الأراضي هُنا .
هكذا هو الحال ( قيمة الأرض بعبقِ ذِكراها) .
المُهِم أن (بوغوس كربيت) وصل قرية (ديربون) بعدَ أن إختلطت دِماء أقدامه العارية الحافية بأشواك الطريق فأحتظنه رجلٌ عريضُ المنكبين فارع الطول تُنبئُ ملامحه عن شِدةِ بأسٍ وشجاعة مقترنة بطيبة قلبٍ فقال له أيها الطفل :
(أنت مِن هذه اللحظة إبني وسيكونُ إسمك عَلِي تيمناً بأمير المؤمنين أسدُ الغالب فارسُ المشارِق والمغارِب علي إبن أبي طالب وسألحقك بإسمي ونسبي لذا فأنت الآن " علي بن محمود بن شيبو الجبوري" ) وسنتوجه على الفور إلى قريتنا (خراب دِيم) فهلمَ بِنا نحثُ الخُطى إلى إمكِ الجديدة (ريزة شيخو) وهي إحدى زوجات محمود الشيبو وهي إمرأةٌ عربية مِن أهل زاخو ، وهكذا تنفس (بوغوس كربيت الأمس / علي محمود الشيبو اليوم) تنفس عَبق الأمومة والحنان في كنفِ أمه الجديدة ألتي أنعم الله عليه بها .
لقد رعته السيدة (ريزة الشيخو) وكأنه إبنها وأغدقت عليه بفيض حنانها وأمومتها عِلماً أن (ريزة وزوجها محمود الشيبو) هم مِن قبيلة الجبور عشيرة العبد ربه فخذ الناصِر وهم خؤلتنا حيث أنَّ جدتنا هي الشيخة (عَدلة المحمد الناصر شقيقة الشيخ عبد ربه وهي والدة جدنا الأمير مطلك الصالح أمير قبيلة السادة السبعاويين "رحمهم الله جميعاً ") تعامل الجميع مع (علي محمود الشيبو) وكأنه الإبن الصُلبي لمحمود الشيبو ولم يفرقوا بينه وبين إخوته فكان الجميع حالةٌ واحدة في السَرَّاء والضَّراء إمتدت إلى الأبناء والأحفاد وستبقى في ذرياتِهم إلى يوم البعث والنشور بإذن الله تعالى .
بدأ (علي محمود الشيبو) أولى خطواته في الحياة العَمَلِيّة رَغْمَ قِصْرَ قامته لكنّه شَرع يَرعى الأغنام حتى إشتد عُوده وبلغَ مَبلَغ الشباب ليباشِر العَمل بالحصاد وقد عُرِفَ عنه ( ذو أنفةٍ لا يُجامِل ولا يتنازلُ لأحد) توجه لاحِقاً إلى قرية الإضويج (زُمّار) بعد أن جَمَعَ كُل ما إدَّخَره مِن كَدِّه وتَعبِه عند أمه ليكون هذا المال المُدخر رأس ماله الذي إفتتَح به دكاناً (مَحلاً) للبقالية وكان يأتي بكل إحتياجات محله وبضاعته مِن الشِمال حتى تمكن مادِياً ليغير إتجاه تجارته صوب الموصل خاصةً بعدَ أن إمتَلَك (حِمارَين حَساوِيين) فكان يتوجه بهما مِن زُمّار إلى مدينة الموصل (90كم) ذهاباً مشياً على الأقدام قاطِعاً (جبلة البُطْمَة) ثم (بادوش) ومنها إلى الموصل ليُحَمِّل البضاعة التي إشتراها على ظهور الحمير ويعود أدراجه سيراً على الأقدام (90كم عودة) وإستمر هذا ديدنه حتى تيسرت وسائط النقل في بداياتها رغم قلتها ونُدرتها .
في عامِ (1938م) تزوج (علي) من السيدة (ياسة " آسيا" خضير أحمد الكتنة الزهيري) أميرة ُ نِساء زُمّار (مواليد 1920م في إحدى قرى سُمِّيل /دهوك ) المرأة التقيّة النقيّة التي يُضرَب بها المثل بالكرم والسخاء وطيبة القَلب فجعلها الله وجهُ خيرٍ على زوجها فقد إنفتحت أبواب الرزق والخير والبركة على مصاريعها حيثُ منحته الدولة تموين المنطقة (بالمواد والأقمشة) وكانت أشهر أنواع الأقمشة حينذاك (النيل والمستيكة " الجابان" ) أمّا قِماش النيل فكان يصبغ الأجساد وضُرب به المثل على شِدة لونه الأزرق (الحِبْري) أعقب العَم علي ثلاث أولاد هم (محمود أبو نشوان ؛ يونس أبو عروبة ومحمد سعيد أبو شهد ) أنعم الله على العم علي بالخِبرة في معالجة الأطفال ومعالجة حالات الإسهال والحرارة وتجبير الكسور للبشر وللحيوانات وقد كان يعالج الناس في سبيل الله وعلى نفقته الخاصة دون مُقابل ، وللأمانة في كُلِ مرة تبعثني أمي إلى العم علي لشراء (الزيرقون) آكل قاط رزالة منه وأحياناً معها قرصةٌ من أذني تبعاً لمزاجه ويكفي أن يستذكر أهل زُمّار رائحة التوابلُ الأصيلة بمجرد المرور مِن أمام دكان العم علي .
لقد كانَ العم علي (أبو محمود) الذي إشتُهِر بإسم (عليكو) عِصامياً متواضِعاً ينصحُ كلُ مَن يرى لديه إعوجاج حيث ينبهه على إعوجاجه وينصحه لتقويم خطأه ، تشهد له زُمّار بصدقه وأمانته وقد كان لديه صندوق مُزَركَش يحتَفظ به بالأمانات المودَعَة عِندَهُ مِنْ قِبلِ أهالي زُمّار ، ومما يُوثَر عنه شغفه وتعلقه بالإسلام منذ نعومة أظفاره ودائماً كان يحمدُ الله على نَعمَة الإسلام وتواترت الأنباءُ أن العم (أبو محمود) صاحِبُ سِرٍ وصاحبُ كرامةٍ وقد كان الكثيرُ ممن يزوره مِنَ الرِجالِ يُقَبِّلون راحة يديه ويمسحون بها وجوههم تَبركاً ، مِن أصدقاء العَم علي هو الحاج (قاسِم عبدالله الخاير) مِن رواد المساجد المواظبين على صلاة الجمعة والجماعة يقول :
أفنى (الحاج علي أبو محمود) عُمرهُ بالعِبادَة وتطبيق شعائِر الإسلام وواظب على صلاة الجمعة وقد أحصيت له (4850) صلاة جمعة لم يتخلف عنها وهذا ما يُعادِلُ عُمُر (85 عاماً ) حافِلاً بالطاعات والعِبادات كان الحاج علي " رحمه الله " ، نعم والله فقد شهد له أهلُ زُمّار بأنه كانَ :
تقياً ورعاً مواظباً على العبادات جميعها حيثُ كانَ مِنْ رُوَّادِ جامع زُمّار القديم الذينَ لا يتجاوز عديدهم أصابعُ اليدِ حينذاك وهم (سيد أحمد الناصر ، سيد أحمد السلامي ، الحاج معيوف الوكَاع ، الحاج مجيد معروف ، ملا علي الكردي ، الحاج عمر ، الحاج عبدالله العمر ، العريف حميد والحاج شاكر و...) "رحمهم الله جميعاً " ؛ محباً للجميع نقي القلب تقي اللسان صادِق القول والحديث أميناً مُثابِراً مكافحاً في عمله موثراً في نفوس أهالي زُمّار القديمة حيثُ نال إستحسانهم وثقتهم بإخلاصه وأمانته ونزاهته .
الحاج علي كان مِن الأبناء البَرَرَة بأهله وأقاربه فقد راعى أهل زوجته وجَلَبَهُم في بيته خاصةً وأنَّ عَمَّه (خضير الكتنة الزهيري) أصبح بَصيراً وله ثلاثُ بناتٍ تبنى (أبو محمود) وتكفّل بهن بمعيشتهن وتلبية كل إحتياجاتهن حتى أنه زوجهنَّ ، وإصطحب عمته (أم زوجته) معه لأداء فريضة الحج عام (1961م) وفي عام (1985م) إصطحبَ زوجته السيدة (آسيا أم محمود) لأداء الركن الخامِس مِن أركان الإسلامِ وهو (الحج) ليكون بذلك قد أدى فريضة الحج مرتين في حياته ، شكل الحاج علي وزوجته الحاجة آسيا ثُنائياً رائعاً فقد كانا سباقَين في الخير ومساعدة المحتاجين وفي الإنفاقِ على الأيتامِ والأرامِل ، ولسمو منزلة الحاج علي وذريته ولسمعته الطيبة فقد صاهرته بنسبٍ وصهرٍ سادات زُمّار وخِيار عشائرها وأكارم بيوتاتها ، وشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون بيت الحاج علي وأولاده آخر البيوت التي تُغادِرُ زُمّار قبل أن يجتاحها الطوفان والفيضان فيغرقها تحت هديرِ أمواجه .
توفي العم (الحاج علي) عام (2000م) عن عُمُرٍ ناهز الـــ(98 عاماً) توفيت مِنْ بعده العمّة (الحاجة آسيا) عن عمرٍ ناهز (83 عاماً) مليئةٌ بالعَطاء والبذل وهنا سألت العم يُونس الحاج علي (أبو عُروبة) هل تصف لنا آخر لحظات حياة الوالد (رحمه الله) فقال :
إستذكر أهوال الفراق الذي حالَ بينه وبين أمه في طفولته فبكاها بِحُرقَةٍ وكأنهما إفترقا تواً ، رحمهم الله جميعاً وجعل كل تلك الأهوال والمآسي في ميزان الحسنات وعُذراً لعينيك عمنا أبا عُروبة إذ إغروقرقت بدمعها الرقراق ، وقبلاتنا ليديك الكريمة يا إبن الأكرمين عُمّنا والأخ الأكبر والصديق الودود والأستاذ الناصِح والرجل المُهَاب بين أهلك وإخوتك فدونك القلوب مسكناً وحدقات العيون مَنزِلاً ، رَحِم الله الحاج علي (حج عليكو) ورحم الله زِينة شباب زُمّار محمد سعيد الحاج علي " أبو شهد " حفظ الله ذرياتهم وجعلهم نِعم السَلف لذاك الخَلَف .
بِقَلَم : إبنُ زُمّْار د. زِيَاد مُحَمَّد حمُود السَبعَاوِي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق