التعبيرية القاموسيّة
غافلة .. للشاعرة : عائشة أحمد بازامة / بنغازي – ليبيا .
يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعر العربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراء كثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنا بدأنا نحن وأستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالأتكاء على مفهوم هندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ ما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد – التعبير / ويخطيء كثيرا مَن يتصور أنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاء والتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّه السرد بقصد الأيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّة العظيمة وتعمّد الأبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّة فأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الآلآم العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيره الأحداث والأشياء في الذات الأنسانيّة . انّ ما تشترك به القصيدة السرديّة التعبيريّة وقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عالية وجديدة . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزان والقافية الموحّدة ولا التشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بين الفقرات النصيّة وانّما تسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة . أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلة بالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروح دون عناء أو مشقّة .
وسعياً منّا الى ترسيخ مفهوم القصيدة السرديّة التعبيريّة قمنا بأنشاء موقع الكترونيّ على ( الفيس بوك ) العام 2015 ,اعلنا فيه عن ولادة هذه القصيدة والتي سرعان ما أنتشرت على مساحة واسعة من أرضنا العربية ثم ما لبثت أنّ انشرت عالمياً في القارات الأخرى وأنبرى لها كتّاب كانوا أوفياء لها وأثبتوا جدارتهم في كتابة هذه القصيدة وأكّدوا على أحقيتها في الأنتشار وأنطلاقها الى آفاق بعيدة وعالية . فصدرت مجاميع شعرية تحمل سمات هذه القصيدة الجديدة في أكثر من بلد عربي وكذلك مجاميع شعرية في أميركا والهند وافريقيا واميركا اللاتينية وأوربا وصار لها روّاد وعشّاق يدافعون عنها ويتمسّكون بجماليتها ويحافظون على تطويرها .
سنتحدث تباعاً عن تجلّيات هذه اللغة حسبما يُنشر في مجموعة السرد التعبيري – مؤسسة تجديد الأدبيّة – الفرع العربي , ولتكن هذه المقالات ضياء يهتدي به كل مَنْ يريد التحليق بعيدا في سماوات السردية التعبيرية .
اللغة القاموسيّة :
اللغة هي الجناح الذي به يحلّق الشاعر بعيدا وتتشكّل القصيدة حيّة نتلمس عطرها وتلاحقنا صورها بدهشتها وعمقها وفضاء تأويلها والاستئناس بلذّتها الحسيّة والجمالية تملأ ارواحنا بالجمال واللذة , اللغة هي الشجرة الوارفة التي تحتها نستظلّ فيئها وتأخذنا الى عوالم بعيدة تنتشلنا من كلّ هذا الضجيج الذي عمّ الافق وسدّ منافذه وانتابنا خمول في الذاكرة ونقطف ثمارها ناضجة لذيذة . اللغة هي اليقظة والنشوة والدفء والضوء الذي ينبعث من اعماق الذات تسحبنا من نومنا العميق تستفزّ خمولنا . على الشاعر الحقيقي ان يمتلك لغة خاصة به يحنو عليها ويشذّبها ويعمل عليها كالمونتير الذكي يقطع المشاهد التي تجعل القصيدة مترهّلة ويضيف اليها ما يجعلها تتوهّج اكثر ويفتح للمتلقى أفقاً شاسعا للتاويل , يغامر الشاعر بلغته ويرتفع عن لغة الواقع كونها لا تمتلك عنصر المفاجأة والغواية يجعل منها قطعة مشحونة تستفزّ الخيال وتمارس الانزياح الشديد حيث نهرب اليها من نهارنا المكسو بالتشتت والضياع والحيرة نتيجة ما يكتب اليوم باسم قصيدة النثر وهي براءة من هذه التهمة . مادام الشاعر هو ابن الواقع والملتصق بثقافة بيئته , فمن خلال قاموس مفرداته نستطيع ان نقرأ الواقع الذي يعيش فيه الشاعر ونتمكن من معرفة طريقة تفكيره نتيجة ما يستخدمه من مفردات يطرّز بها نسيجه الشعري ليكون شاهدا حقيقيا على العصر . مما لاشكّ فيه انّ مفردات الشاعر تعبّر عن مزاجه الخاص ورؤيته لما يحدث حوله , فكلما كان مزاجه مستقرا وواقعه ينعم بالسلم والأمان جاءت مفردته رقيقة عذبة أنيقة جميلة , لكن حينما يجد الشاعر نفسه محاطا بالخراب والخيبة , ستكون مفرداته كئيبة خشنة تمتلأ بالقبح والمرارة , كون إلتصاقه بهذا الواقع وتفاعله معه , لأنه ابن هذه الأرض ومن رحم مجتمعه كان . انّ مفردات الشاعر حتما ستصنع لنا المزاج العام للنصّ , فينقل مشاعره واحاسيسه الينا بصدق , معبّرا عن هذا الواقع المزري والمرير بمفردات تشبه هذا الواقع , سيكون النصّ ملتصقا بالشاعر ومنتميا اليه والى واقعه .
نحن اليوم نتحدّث عن شاعرة تكتب الشعر بنكهة الياسمين ولوعة الوطن وشغف القلب الرقيق , الشاعرة : عائشة أحمد , من خلال قصيدتها المعنونة / غافلة / , نستطيع أن نقرأ قاموسها على شكل ثلاثة أساليب دلالية :
1- القاموسيّة المفرداتيّة : لو تمعّنا جيداً في نسيج الشاعر الشعري فسنجده ممتلىء بمفردات تدلّ على الحزن والخراب والموت والألم والضياع , فمثلاً نقرأ المفردات التالية / غافلة / تضرج / دماً / نحور / الهائمة / جرفت / مناقير الحقد / تاهت / الآهات / متنمّرة / عرجاء / دموعك / تحجّرت / عجوز / دموعك / هائج / طغيان / مهاجرة / غضبة / برق / رعد / صامت / دكّ / نواح / أحترقت / شبّ الحريق / آهاتاً / الطرقات باكية / تشحذ / اللئام / تنوء / وزر / خطيئة / العفاريت / المسجونة / الموبوءة / السأم / النواح / النكوص / ذابلة / متعرّجة / تغتال / خدعتها / صخور / جائع / رصاصة الرحمة . كلّ هذه المفردات استطاعت من خلالها الشاعرة أن ترسم لنا واقعاً مأساويّاً يبعث على الأسى والخوف والغربة والقحط والموت , أنّها صور للواقع الذي تعيشه الشاعرة , الواقع المتشظّي الذي ترك بصماته واضحة في روح الشاعرة , فرسمت لنا هذه الصور المعتمة من الحياة البائسة .
2- القاموسيّة المكانية : بالعودة الى نسيج الشاعرة الشعري فسنجد المدينة / أويا / حاضرة وشامخة رغم ما حلّ بها , كما في المقطع النصّي الرائع / حمامة بكف الزمان تضرج عشها دماً سفحت شواطيء لهفتك على نحور حفرياتك الهائمة أويا* جرفت وكرك المعشوشب مناقير الحقد القديم / , هذه المدينة القديمة / طرابلس / صاحبة التاريخ المجيد والحضور المشع في الزمن , وكذلك نجد / ومقبرة سيدي منيدر / التي يعود إليها ذكر النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم , هي الاخرى لها تاريخها العظيم والمشرق , وكذلك نجد / على تخوم جردينة / هي الأخرى لها تاريخ روحيّ عظيم .
3- القاموسيّة التاريخية : من خلال ذكر الأماكن والاشخاص والأسطورة , فمن خلال النسيج الشعري للشاعرة نستشعر بعبق التاريخ والحضارة التي كانت , والجمال الروحي والنفسي والمكاني والزماني الذي كان , كل هذا نجده ونتلمّسه ونتنفّسه داخل نسيجها الشعري الذي جاء مترابطاً ومحكماً وعلى شكل بناء جملي متواصل فذّ .
كلّ هذا الجمال سرعان ما يتداعى وينهار على واقع مؤلم ترك بصماته في روح الشاعرة كما في هذا المقطع الذي تختتم به الشاعرة قصيدتها هذه / تحنو لغفوة اللقمة الشهية لفم طفل جائع على رصيف التاريخ يرتجي صدر امه الحنون المغتالة برصاص الرحمة على سفوح اعشاش الحمام / . هكذا ينهار كلّ شيء وينتهي الى الخراب والدمار والجوع والموت , ويبقى صوت الشاعرة عالياً في كشف الحقيقة وتعرية هذا الواقع , فهي صوت الأمة الذي لن يسكت . لقد أضافت الشاعرة الى السرديّة التعبيرية اضافة جميلة ورائعة تستحق عليها التقدير والاحترام .
النصّ :
غافلة
حمامة بكف الزمان تضرج عشها دماً سفحت شواطيء لهفتك على نحور حفرياتك الهائمة أويا* جرفت وكرك المعشوشب مناقير الحقد القديم تاهت الآهات متنمرة تقود سفينة عرجاء نحو تلكم الشواطيء غارت دموعك حدقات الكون تحجرت كوجه عجوز نحتوه على جدارك السميك موج هائج يرتشف رجفة طغيان حمائم مهاجرة غضبة برق رعده صامت دك حصن السلام نواح الملائك غاص اسماع حدائق الزيتون احترقت فيافي الكلم شب الحريق آهاتًا انطوت الطرقات باكية تشحذ خبز موائد اللئام تنوء بوزر خطيئة مدينة العفاريت المسجونة تخوماً الموبوءة إذلالاً الغافية حضناً تاريخها مغادر لحافها السأم تقتات صوت النواح تنام طويلاً تتبرج النكوص براياتها ذابلة الجبين متعرجة الوجه تغتال بسمة طفلة خدعتها تفاحة حواء معابد زيوس * ومقبرة سيدي منيدر * على تخوم جردينة* الغابرة على صخور الوجدان عتيقة البهاء شفيفة التيه تحنو لغفوة اللقمة الشهية لفم طفل جائع على رصيف التاريخ يرتجي صدر امه الحنون المغتالة برصاص الرحمة على سفوح اعشاش الحمام .
عائشة أحمد بازامة / بنغازي
_______________________________
* أويا الاسم القديم لطرابلس .
* زيوس إسم آلهة إغريقية .
*سيدي منيدر مقبرة في طرابلس .
*جردينة قرية جنوب بنغازي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق