(إلى علي الهق وسامر الحبلي وما تبقى فينا من إنسان)
كتب جبران خليل جبران قبل قرن ونيّف "مات أهلي جائعين، ومن لم يمت منهم جوعاً قضى بحدّ السيف، ماتوا وأكفّهم ممدودة نحو الشّرق والغرب وعيونهم محدّقة إلى سواد الفضاء". وها نحن بعد قرن نقبل على الموت جوعاً أو بحدّ السّيف، سيف العقول والنّوايا والنّعرات الطّائفيّة والكذب والنّهب وحكم الآلهة، آلهة الحرب. ولمن لا يعلم، فليعلم أنّ عليّاً وسامراً وسواهم ممّن يحملون لعنة العيش في ظلّ الآلهة انتحروا جوعاً وبؤساً. لم يمت علي وسامر وهما يحدّقان إلى الفضاء الأسود، فالسّواد في كلّ زاوية وكلّ نفس. ماتا بهدوء، وسترا وجههما بصمت العجز والألم، صمت لا يفهمه إلّا أولئك الّذين يغمّسون قوتهم بالدّمع والدّم.
أكتب إلى علي وسامر، لأنّه لو كتب تاريخ جديد فلن يذكرهم. ففي بلاد العرب يذكر التّاريخ غالباً السّفاحين، ويجعل منهم أبطالاً، ويدخلهم في تكوين الفكر البشريّ، فيدرّب الإنسان على المزيد من التّنكيل والإجرام؛ لأنّ مفهوم البطولة العربيّة سفّاح يدخل التّاريخ عنوةً ليتحكّم بمصير البشر. وأمّا الضّحايا فلا يذكرهم أحد! إنّهم مجرّد أعدادٍ يندرجون تحت راية الشّهادة، الخدعة الكبيرة والوهم المميت. ما هذه الأوطان الّتي لا تبنى إلّا بالموت؟ ما هذه الأوطان الّتي لا تحيا إلّا بدماء الأبرياء وجوع الأطفال؟ ما هذه الأوطان الّتي تطحن عظامنا وتسرق أنفاسنا وتنهب عقولنا وأرواحنا؟ هي أوطان من ورق، من رماد يتبعثر ويمضي في مهب الرّيح.
لم ينتحر علي وسامر بل قتلوا مع سبق الإصرار والتّرصّد، والآلهة متربّعة على عروشها. تجتمع وتتبجّح وتستنكر وتنظّر وتحلّل. لكنّ علي وسامر وسواهم ماتوا وانتهى. والقافلة تمضي مثقلة الخطى نحو المجهول وما من معين، وما من أحد يرفع عنّا لعنة سبعين عاماً من الاستقلال. وما من أحد يحاسب. ومتى سمعنا عن محاسبة الآلهة؟ الإله يُعبدُ فقط، وينبغي على العابد أن يظلّ جثّة تتنفّس حتّى الموت، وإلّا فليمت ليحيا الإله!
خسر علي وسامر معركة العقل وانهزما بعنف. دحرهما الجوع الآتي بسواده الأعظم، وكسرهما بكاء أبناء قُدّر لهم أن يكونوا هنا، في هذا المنفى التّعيس. إنّها معركة العقل ولا بدّ من الصّمود حتّى نخرج من البئر وحدنا. فلا نريد أن نستعطف أحداً ولا نريد أن يهتمّ لأمرنا أحد. فلنصمد وحدنا ولنخرج وحدنا.
وإلى منظّري الكفر والإيمان، كفى تهريجاً وسخفاً، وكفى تنظيراً! من راح استراح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق