معرفتي بالصديق الشاعر شفيق حبيب، ابن بلدة دير حنا الجليلية، تعود إلى زمن بعيد، سبعينيات القرن الماضي، وقد جمعته بأخي المتوفى الأديب المثقف نواف عبد حسن، طيب الله ثراه، صداقة عميقة. وكنت تبادلت معه العديد من الرسائل، وأهداني ديوانه " دروب ملتهبة " الصادر في العام 1980، وكتبت عنه متابعة نقدية نشرت في مجلة " مشاوير " المحتجبة التي كان يرأس تحريرها الشاعر المرحوم جورج نجيب خليل " أبو طروب ".
ثم أهداني عددًا من دواوينه التي صدرت لاحقًا، وكتبت عن بعضها في الصحف والمجلات المحلية والمواقع الالكترونية.
وكنت زرت أبا وسام شفيق حبيب في بيته العامر، مع عضو الكنيست المرحوم هاشم محاميد ولفيف من الأصدقاء المثقفين والمتأدبين، تضامنًا معه إبان محاكمته السياسية التي استهدفت النيل من مواقفه الوطنية واسكات صوته الغاضب.
وشاءت الأقدار والمصادفات الجميلة أن نلتقي بعد هذه السنوات الطوال، في مدينة اسطنبول التركية، حيث جمعنا اللقاء في الفندق الذي نزلنا فيه خلال رحلتنا في الصيف من العام الماضي.
شفيق حبيب من الأسماء الشعرية والأدبية التي برزت على ساحة الأدب والإبداع في السبعينيات، وهو صاحب شاعرية خصبة متوقدة، ووطنية متأصلة، وله تاريخ أدبي وشعري عريق ومسيرة متدفقة زاخرة بالعطاء والنتاج الشعري الغزير. صدر له ما يقارب 14 ديوانًا من الشعر، تتنوع قصائده فيها، من ناحية البناء والشكل الفني، الكلاسيكي والحديث، ومن ناحية الموضوعات الوطنية والعاطفية والوجدانية والغزلية والرومانسية والرثائيات.
وله ايضًا كتاب نثري بعنوان " في قفص الاتهام " الذي يحكي عن وقائع محاكمته التي استمرت ثلاث سنوات، على خلفية ديوانه الشعري " العودة إلى الآتي "، وبتهمة التماثل مع الانتفاضة ومساندة " الإرهاب "..!
لكنه تخطى المحاكمة بصلابة الأديب المثقف الواثق المؤمن برسالة الأدب وبالكلمة ودورها في معارك الحضارة والحرية، وبشموخ الفلسطيني المعتز بهويته وانتمائه وحبه لوطنه وأرضه وشعبه.
وتجربة شفيق حبيب هي تجربة ثرية وصافية، تتميز بالصدق والعفوية الجميلة ورقة المشاعر وحرارة الانفعال، وشفافية الصياغة بملامح جمالية وفنية ومفردات وصور شعرية خاصة ومبتكرة.
شفيق حبيب شاعر ملتزم بقضايا شعبه الجماهيرية والسياسية والاجتماعية والوطنية، اعتلى المنابر مدافعًا عن الحق الفلسطيني المشروع، ومنشدًا للوطن والأرض والإنسان الفلسطيني، وهاتفًا للكفاح والنضال.
وهو يتفاعل مع الأحداث، ويتأثر بها، وقصائده تأتي تجسيدًا وانعكاسًا لعمق الحدث، كما هو واضح في قصائده عن يوم الأرض والانتفاضة الماجدة.
ولشفيق حبيب عدد من القصائد التي كتبها عن وإلى بيروت الصمود، بيروت الغناء والأدب والشعر، وبيروت الدم والجرح النازف الباقي، منها قصيدته الرائعة " بيروت والدم والصمود ".
تذكرت هذه القصيدة التي نشرها في ديوانه " أنادي أيها المنفى " الصادر العام 1984، في خضم الكارثة الأخيرة التي أحدثها انفجار مرفأ بيروت، وما خلفته من موت ودمار وخراب. ومن يقرأ القصيدة يعيش الحدث نفسه من خلالها وكأنها كتبت اليوم. كيف لا فالمكان هو المكان، والنزيف نفسه، والمأساة نفسها، والمؤامرة التي تواجهها بيروت وشعبها لم تتغير منذ ذلك الحين بل قبل ذلك وحتى يومنا هذا.
ولنقرأ من هذه القصيدة هذه السطور :
لهفي على الأطفال،
يرتجفون كالطير الطريد ..
ذبحتهم المتفجرات من الوريد الى الوريد..
بيروت ! .. يا دمع اليتامى .. والثكالى ..
بيروت !!
يا عينيَّ !! يا قلبي !!
على اعتابها انهارَ الغرورُ فلن يعود ...
بيروت منطلقُ النسّور الى شماريخ الخلودْ...
اني كفرت بخالقي ..!
وكفرتُ بالأديان..
بالأوثانِ...
بالأصنامِ
خالقةِ الرّعايا...
والسّبايا...
والعبيدْ...
إن التلاحم بين شفيق حبيب وبيروت في هذه القصيدة وغيرها يعتمد على حسٍّ ونسقٍ وطني وقومي وعروبي وإنساني، وهي مرتكزات لعبت دورًا مهمًا في بنية النص الأدبية والفنية والفكرية وأبعاده السياسية برفض الطائفية البغيضة.
للصديق أبي وسام، شاعرنا الوطني المبدع المجيد شفيق حبيب، أطيب الأمنيات وأصدق التحيات، متمنيًا له حياة عريضة ومديدة حافلة بالعطاء والإبداع والمزيد من التألق والتوهج الشعري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق