يا لها من مئوية! مئة سنة من الدماء والحروب والدموع. وهل هناك من وطن في العالم، رأت عيناه ما رآه هذا الوطن؟ وبعد، فهو لا يزال على طريق الجلجلة. يحمل صليبه ويمشي. " يقتلونه كل يوم ولكنه يرفض ان يموت". وهل كان يحلم البطريرك الياس الحويك ان هذا المولود الجديد الذي ولد في 1 أيلول 1920 سيكون بعد 100 سنة على هذا الفشل المدوّي وهذا الجحيم من الألم واليأس؟ ومن يصدق أن بيروت التي كانت يوما "أم الشرائع"، تطالب اليوم وكلما وقعت جريمة فيها، بتحقيق دولي. تحقيق خارج بيروت. لقد ماتت الشرائع في بيروت، وهجرها العدل من زمان. وأكثر ما يؤلم هذا اللبنان، ان الذين يقتلونه كل يوم، هم من أهل بيته. هم من يدّعون محبته. لذا نريد منه ان لا يطلب من الله ان يغفر لهم " لأنهم يدرون ماذا يفعلون".
نحن لن نيأس. لن ننام. ولن ندعه يموت. سنعيده الى الحياة من تحت الركام. لذا جئنا نقترح العودة الى مكان ولادته. الى فرساي. جئنا ندعو الى مؤتمر دولي حول لبنان يُعقد في باريس برئاسة الرئيس ماكرون وبحضور دولة الفاتيكان ودول الغرب. مهمة هذا المؤتمر تحقيق الأهداف التالية:
1. الاتفاق على ما يشبه "Marshall plan" لإعمار لبنان ومساعدته للنهوض من الركام الاقتصادي والمالي. ان فرنسا تعرف جيداً أهمية هذا المشروع الذي اطلقه الرئيس الأميركي Truman مع وزير خارجيته George C. Marshall بهدف إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
2. وضع لبنان تحت إشراف مظلة دولية لمدة انتقالية، يلملم فيها جراحه، ويرمم مؤسساته. فلبنان اليوم بحاجة ماسة الى ضمانة دولية. ضمانة سياسية وأمنية. ان هذا الوطن الصغير هو ضحية الجغرافيا. لقد ولد في بيئة جغرافية تتآكلها الازمات السياسية والحروب الدينية. فمن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الى النزاعات بين دول الشرق الأوسط، الى حركات الإرهاب والتطرف الديني، الى التمدد الإيراني في العالم العربي. هذا التمدد الذي يقبض اليوم على القرار الوطني اللبناني. ان مشكلتنا ليست مع ايران، الشعب الأبي والتاريخ المليء بالتراث الحضاري؛ بل مع الثورة الإسلامية الإيرانية التي تأخذ من لبنان رهينة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة والعالم، وساحة لحروبها ضد العرب و الغرب. والخطر الكبير ان هذه الثورة تصدّر حضارة هي نقيض الحضارة اللبنانية . فبينما يرمز لبنان الى التعددية الدينية والتعددية الحضارية ومعانقة الآخر بغض النظر عن حضارته ودينه؛ ترمز الثورة الإسلامية الى الحضارة الأحادية وتعتبر "الآخر" خارج عائلتها. ان الرؤيا السياسية التي تولد من رحم الايدولوجية الدينية تشكل خطرا على الانسان.
3. ضمان حياد لبنان. ان حروبنا كانت "حروب الاخرين" على ارضنا وعلينا. نحن لم نعتدي على أحد. لقد أعتدي علينا. ولكنه يجب ان نعترف اننا اعتدينا على انفسنا، على سيادتنا، وعلى وطننا. بسببنا كانت "حروب الاخرين"؛ لأننا لم نتمكن كمسلمين ومسيحيين من صنع رؤيا موحدة للبنان وسياسة خارجية لحمايته. بعد خمس عشر سنة من الاستقلال بدأت الحروب في لبنان. ففي سنة 1958 قامت الحرب الأولى عندما أراد عبد الناصر ان يضم لبنان الى الجمهورية العربية المتحدة التي لم يكتب لها الحياة. ثم جاء اتفاق القاهرة حيث تنازلت الدولة عن سيادتها في جنوب لبنان. ثم جاءت منظمة التحرير برئاسة عرفات الى بيروت. وثمة من يعتقد ان عرفات كان ينوي تحويل لبنان الى بلد بديل. وهكذا بدأت في سنة 1975حروب لبنان. وبعد ان غادرت منظمة التحرير لبنان سنة 1982، جاء النظام السوري يريد احتلالنا. وها نحن اليوم في قبضة المحور السوري- الإيراني. لقد تكلمنا الكثير عن الحياد. الحياد الفاعل الذي يصب في مصلحة لبنان العليا. وها نحن اليوم ندعم بكل قوتنا البطريرك الراعي في طرحه لمفهوم الحياد كحل لأهم مشاكل لبنان. مشكلة هيمنة الاخرين على الأرض وعلى الانسان فيه.
هذا ما نطلبه من العالم، فماذا نطلب من أهلنا؟ نقول الى اللبنانيين تعالوا نبنيه من جديد. فنحن لا نريد ان تكون المئوية الثانية شيئا يشبه المئوية الأولى. تعالوا نبنيه على مرتكزات جديدة تؤمن له الحياة والسلام والاستقرار. وهذه هي المرتكزات التي نقترحها.
1. الانصهار المسيحي – الإسلامي. نحن لا نؤمن بمفهوم "الشراكة المسيحية الإسلامية"، ونرفضه. كما اننا لا نؤمن بمفهوم "العيش المشترك" ونرفضه كذلك. هذه مفاهيم أسرتنا وراء حدود الطائفة، وجعلتنا شعبين مختلفين ولكنهما يتعايشان على ارض واحدة. بعكس ذلك نحن نؤمن اننا شعب واحد لا شعبين. نؤمن بانصهار مسيحي اسلامي في مواطنة واحدة. نحن لسنا مسيحيين ومسلمين. نحن مواطنين. ان مفهوم "الشراكة المسيحية – الإسلامية" ومفهوم "العيش المشترك" هي مفاهيم زرعها رجال الدين في اللاوعي فينا لترسيخ نفوذهم وللتفرقة بيننا. لذلك كنا عند كل مفصل تاريخي او قرار مهم، تنهار هذه الشراكة وننقسم على أنفسنا ونعود الى مربعات طوائفنا. من اجل ذلك لم نعرف أي لبنان نريد. من اجل ذلك قتلنا بعضنا البعض. نحن ندعو الى الثورة على هذه المفاهيم التي فرقتنا لمئة سنة ومنعت قيام الدولة. لقد آن الأوان ان نتحرر من سلاسل الطائفية ونعتنق المواطنة الحقيقية. لقد آن الأوان لفصل الدين عن الدولة والأهم من ذلك فصل الدين عن التربية. لقد آن الأوان لنبني الدولة المدنية. وحدها الدولة المدنية تفك ارتباطنا بالماضي وتأخذنا الى المستقبل بحيث نصبح مواطنين لا رعايا.
2. الثقافة السياسية. في المئوية الأولى بنينا دولة عدوة للمواطن. دولة تخدم " الزعيم". الزعيم السياسي والزعيم الديني. وتخدم أيضا أزلام الزعيم. كانت دولة ازلام من رأس الهرم الى القاعدة. أو تسألُ لماذا لم تبنى الدولة؟ وهل للأزلام القدرة على بناء دول؟ ونظام المحاصصة! من الوزير الى اصغر موظف هو حصة احد ما. وبذا يصبح ولاء "ابن الدولة" ليس لعمله أو للبنانه بل لزعيمه. وتأملوا في مفهوم الحكم عندنا فالحكم ليس مسؤولية كبيرة كما يجب ان يكون بل وجاهة كبرى كما يجب ان لا يكون. وأفضل مثل على ذلك هو انفجار المرفأ. اخذونا كلنا الى الموت في المرفأ. وبالرغم من هول ما حدث، ما زلنا نخاطب الوزير ب"المعالي" والنائب ب" السعادة". في المئوية الثانية يجب ان ندمر المعوقات التي منعت قيام الدولة: النظام السياسي الطائفي. نظام المحاصصة. أيديولوجية الزعيم المتسلط على السلطة وأيدولوجية الحكم اللا مسؤول. في المئوية الثانية نحتاج الى قادة لا زعماء ، الى احرار لا أزلام.
3. واكثر ما يحتاج لبنان اليه في المئوية الثانية هو قومية لبنانية جديدة. وكنا قد طرحنا مفهوم هذه القومية من قبل*. في هذه القومية لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه كم جاء في الطائف. نهائي بمعنى انه لا يذوب في كيان آخر. وجئنا اليوم لنقول ما لم يقله الطائف: انه لجميع أبنائه وحدهم، فهو ليس وطنا لجميع الذين لا وطن لهم. ونقول أيضا انه لن يكون تابعا لكيان آخر. وفي هذه القومية أيضا ان هناك ارض واحدة في كل الأرض تكون ارضنا. لهذه الأرض يجب ان نقدم الولاء المقدس. ان لبنان موجود في الجسد في الشرق، ولكنه في الحضارة فهو موجود في العالم كله. لهذا اللبنان نعلن له وحده الولاء المطلق ولكننا بنفس الوقت نعانق بمحبة وفرح جميع البشر.
ونعود الى الثوار لنقول لهم انتم رعاة المئوية الثانية. في المئوية الأولى لم يبن اهلكم وطنا يليق بكم. لذا ندعوكم في المئوية الثانية ان تبنوا وطنا يليق بأبنائكم. وتعالوا كلنا مسلمين ومسيحيين نركع ونصلي معا ونقول:" كن معنا يا الله. لا تحجب وجهك عنا ".
* افتتاحية جريدة النهار الصادرة في تاريخ 13 حزيران 2019 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق