ذكراه الجميلة/ محمد آيت علو

       


           ـ 1 ـ

          الغائبونَ تحتَ التُّرابِ أكثرُ حضوراً منَّا، وقد مَضَواْ فوقَ أَجْنِحَةِ الرَّحيلِ، كشواهد القُبورِ كانَ غِيَّابهُم، أُوَدِّعُهُم رغماً عَنِّي، ويمضون إلى حيثُ تستريحُ أرواحُهُم..، وجوهُهمُ المُشرِقَةُ كما لَوْ كانَ موتهُم اختيارُهم، كانوا نجوماً في الظُّلْمَةِ، ترَكُوا السَّاحَة مَلآ بالحُضورِ الزائفِ وغابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ...لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فلقد عاشُوا للخيرِ والحُبِّ والعطاءِ، وسيلهجُ ويَنْبُضُ القلبُ بذكرِهِم، قلوبهُمُ النابضة بالصِّدْقِ والإشْرَاقِ وحُبِّ النَّاسِ لن تتوقَّفَ، وستدقُّ دقاتٍ عديدةٍ إلى آخرِ العُمْرِ...! رحالة تركَ خلفَهُ أكبر الأثر!!

                   ـ 2 ـ

          كانَ ذلكَ آخِرَ يومٍ له بيننا هُنا، ورقةٌ أخرى تُطْوَى إلى الأبَد، لم يُسْعِدْهُ أحدٌ حتى الوداعَ الأخيرَ، حدَّ الرَّمق، رمق النهاية، لم يبقَ لي غير ذكراه الجميلة، صورتُه الوحيدَةُ على الجدار، لا أحدَ يشعرُ بكآبَتِها، عيناهُ تحدِّقانِ في، وكأنَّ رُوحَهُ تتلبسُ بي...ترتِّلُ أشواقَهَا في ثُقوبِ الشَّبابيك... وكأنَّ واحدنا يشبِهُ الآخرَ، لم يكن يحبُّ الصُّعودَ إلى القِمَمِ أو الإبحارِ، لكنَّهُ كان يحِبُّ البحرَ ويسيرُ قريباً منهُ، وَيتبعُ الغُروبَ إلى أقصى نُقطَةٍ، لكن كل ما فَخِرَ بهِ فيما مضى صارَ مجرَّدَ تخاريف، وعبثاً حاولَ الخروجَ، عبثاً حاولَ تَضْميدَ الجراحِ، لكن الريَّاحَ تأتي على غيرِ اشتهاء...

لم يكن ينامُ كثيراً في آخر أيامِهِ، كان يتَّكِؤ بحذائهِ المثقوبَ وكان دوماً على أُهبَةِ الاستعدادِ، لأنَّهُ كان يحلمُ بالحبِّ والسَّفرِ البعيدِ ... 

                  ـ 3 ـ

...لحظة أن لمح الإشارة، وهرول إلى باب الخروج لكن كان عليه بداية و قبل كل شيء، أن يحمل النهار وأجزاء الليل على كاهله مبتعدا، كي يجد الوقت الكافي ليبكي ذاته، فممكن الأمس القريب يغوص في المحال، وحده! لم يكن وحده واقفا في التقاطع بين الخروج لملاقاة هذا المساء، أو العودة إلى غرفته، ولم يستطع ذلك!؟

                  ـ 4 ـ          

      هذانِ دَربانِ، الأوَّلُ يأخُذُني للبحرِ، والثاني يأخذُني للمَقْبرَةِ...فأَرْنُو إلى القبورِ، أستنفرُ خُطايَ، أفكر في النهاية، أحتاطُ من المجهولِ، أُنْصِتُ لنداءِ الغيبِ، البحرُ زاخرٌ بصنوفِ الحياةِ، يمنحُ الكائنَ أسرارَ الدَّهْرِ المنسابةِ كالأمواجِ في مدِّها وجَزْرِها، أشرعة بيضاء تنشرُ امتداداً من الحياةِ الذَّاهِبَةِ الفانيةِ، والقبرُ مليئٌ بحياةٍ أبديةٍ حقيقيةٍ خاليةٍ من الزَّيْفِ، حياة طاهرة صامتة لكنهاكاشفة، هُنا جواب واعضٌ يقينِيٌّ عن كل أسئلتي وحَيْرَتِي...

                 ـ 5 ـ

  ...وأرى ما لايُرى، فهأنذَا أطوفُ ما أطوفُ، لكن حتماً سَتَسْرَحُ بي قدمايَ رغماً عَني حيثُ تريدُ...أعتمِرُ قُبَّعَتي ثم أُصَوِّبُ خُطايَ من نُقْطةٍ ما ثم تنطلقُ الخطواتُ...، تتساقطُ اتِّباعاً في مَهَبِّ ما لايُدْرَكُ، والقلبُ يَنْخَلِعُ من مكانهِ، يتهَلَّلُ للوداعِ، قد تهدينا الخُطُواتُ إلى ما قد وُجِدَ بهما، قد أركضُ وأَجْتَرُّ حرَّ الآهِ...! ثم أنبِشُ عن مُسْتَقَرٍّ يمسحُ ما في القلبِ من كَمَدٍ، مستقر أُسائِلُ فيه عن حرفِ البَدْءِ وحرفِ الختمِ، فأطلبُ مدداً...، غير أنَّ خُطوةً واحدةً خاطئةً قد ترميني في الهُوَّةِ السَّحيقَةِ، لكن حَسْبِي الإحْتِمَاءُ بالحذرِ إن نفَعْ، أُقَدِّمُ رِجْلاً وأؤَخِّرُ أُخْرَى.... 

                 ـ 6 ـ

     بيتي كان يقبعُ وسطَ الدَّارِ الكبيرةِ، والدارُ الكبيرةُ تقعُ قُرْبَ السَّاحةِ الملقَّبَةِ بساحةِ الشُّهداءِ...، والسَّاحةُ تمتَدُّ قُربَ الغابةِ الوارفَةِ الظِّلالِ تمتَدُّ مسافةً يسيرةً منَ البحرِ...، والبحرُ يقبَعُ هناكَ وبينهُ وبينَ الدارِ الكبيرةِ مقبرَتُنا، هُنا يرقُدُ الآباءُ والأجدادُ...هُنا مُستَرْوَحُ العائلةِ، محطَّتُنا الأخِيرَة.

                  ـ 7 ـ

…          حتما لم يتغير شيء حتى الآن، ولن يتغير...ثم ماذا عساه أن يفعل ...؟! وكأن الأبواب سدت كلها...! وما عادت هناك طريق...ماذا يفعل الآن سوى أن يتناسخ، أن يتنادى وأشخاصه الآخرين بين يقظتهم والسبات، الصدى يطول، والفراغ يتناسل، وكل أماني البارحة أصبح مستحيلا، لاشيء منها تحقق، لاشيء...، لا شيء غير الوهم والموت في الظلام.

يرى ما لايُرى، ها هو ذَا يَطوفُ ما يَطوفُ، لكن حتماً سَتَسْرَحُ به قدماهُ رغماً عَنهُ حيثُ تريدُ...يَعتمرُ قُبَّعَتَهُ ثم يُصَوِّبُ خُطاهُ من نُقْطةٍ ما ثم تنطلقُ الخطواتُ...، تتساقطُ اتِّباعاً في مَهَبِّ ما لايُدْرَكُ، يفتح يداه لكل صدفة أومفاجأة أوحظ، لاشيء يذكر، لكأن التطهير الحقيقي أعطى الفرصة لكل ما يجري من حوله، وكي يطارده إلى أبعد نقطة، ولربما يطارده إلى نهاية الخط المقوس من الدنيا...

هو الذي اختار دربه، وإن شئت قلت دربه هو الذي اختاره، لم يختر البحر الذي عشقه، لحظة أن لمح الإشارة، وهرول إلى باب...

                ـ 8 ـ

      بيته كما أسلفنا يقبعُ وسطَ الدَّارِ الكبيرةِ قُرْبَ السَّاحةِ الملقَّبَةِ بساحةِ الشُّهداءِ...حيث الغابةُ الوارفَةُ الظِّلالِ تمتَدُّ مسافةً يسيرةً منَ البحرِ القابع هناكَ بجوار المقبرة...مُستَرْوَحُ العائلةِ، المحطة الأخِيرَة.

محطة أسرار الدَّهْرِ المنسابةِ كالأمواجِ في مدِّها وجَزْرِها، أشرعة بيضاء تنشرُ امتداداً من الحياةِ الذَّاهِبَةِ الفانيةِ، والحنينُ يطفو، وتغزو الذكرياتُ وُشوما عن الغائبينَ تحتَ التُّرابِ...وقد مَضَواْ فوقَ أَجْنِحَةِ الرَّحيلِ، كشواهد القُبورِ كانَ غِيَّابهُم، يُوَدِّعُون رغماً عَنهُم، وقد مضوا إلى حيثُ تستريحُ أرواحُهُم..، وجوهُهمُ المُشرِقَةُ كما لَوْ كانَ موتهُم اختيارُهم، كانوا نجوماً في الظُّلْمَةِ، ترَكُوا السَّاحَة مَلآ بالحُضورِ الزائفِ وغابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ...لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، وقد مَضَواْ فوقَ أَجْنِحَةِ الرَّحيلِ...

               ـ 9 ـ

أجل، لقد غابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ...لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فمن  بين ما أتذ كر من دُرَرهم  وحكمهم وبمزيج من العشق والشوق، ما ذكره لي ذات يوم أبي ناصحا " رحمهُ الله، لو علمت السرعة التي سينساك بها الناس بعد موتك يا بني...فلن تعيشَ لإرضاء أحد سوى الله".

منذُ ذلك اليوم، وأنا أدعو لوالدي أن يتغمدَهُ الله برحمته، ولم ولن أنساه ماحييتُ. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق