قراءة في فساد القوى السياسية الفلسطينية/ حسن العاصي


حائط المبكى في القضية الفلسطينية

تعقدت كثيراً خيوط القضية الفلسطينية خلال الأعوام الماضية، ودخلت نفقاً قاتماً وخطيراً منذ العام 2005، حين قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، والطلب من ممثله عفيف صافية مغادرة الأراضي  الأمريكية. ثم اعلان إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه عام 2006، بأن لا شريكاً فلسطينياً لإسرائيل الآن في أية مباحثات سلام قادمة.

بفضل الرعونة السياسية لبعض القيادات الفلسطينية، وصل الشعب الفلسطيني وقضيته العظيمة إلى مرحلة قد تقلب وتغرق المركب الذي يحمل مجمل الأحلام والأهداف الفلسطينية، وتضحيات الفلسطينيين منذ قرن من الزمن.

 نامت النواطير الفلسطينية عن كرومها وعنبها، واشتغلت بخلافتها فجاءت الذئاب والثعالب، وأكلت الكروم والعنب، ومن فيها، بعد أن انشغلت القيادة الفلسطينية، اختلفت وتخاصمت على من يحكم، لا على من يرسم.

واقعية الانهزام

لقد انشغلت الساحة الفلسطينية في الفترة الزمنية التاريخية ما بعد حرب العام 1973 في جدال سياسي حول قضايا مصيرية، مثل الاعتراف بالقرارين الدولي 242 و338 ومحاولة البحث عن حلول مباشرة للقضية الوطنية الفلسطينية، تكون حلولاً مرحلية، بديلاً عما هو تاريخي واستراتيجي في البرنامج الوطني لكفاح الشعب الفلسطيني.

فبرز في البيت الفلسطيني تيار تبنى ما أطلق عليه الواقعية في تحقيق أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، ونادى بإقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة يجري دحر الاحتلال الإسرائيلي عنها.

بعد نقاش فكري وسياسي عميق تحول إلى صراع بين مختلف قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها امتد قرابة عام، تمكن التيار الواقعي من تعزيز مواقعه في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية وداخل أطر م ت ف، وتحول من تيار كان يمثل الأقلية إلى تيار الأغلبية.

ولاحقا نجح في تحويل أفكاره من الحيز النظري داخل غرف الاجتماعات وتحويلها إلى سياسة عامة لمنظمة التحرير، حين أقر المجلس الوطني الفلسطيني في العام 1974 برنامج "النقاط العشر”، والذي عرف في حينها “برنامج السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة"

منذ ذلك الوقت رفعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية هذا البرنامج في مواجهة الاتهامات التي كانت توجهه لها بأنها قيادة متطرفة وغير واقعية. واستخدمت القيادة هذا التوجه الجديد في التدليل على مرونتهم وواقعيتهم، وعلى استعدادهم المساهمة في المساعي الهادفة إلى إيجاد حلول سياسية عادلة وواقعية للصراع مع إسرائيل.

لكن جميع الأحداث اللاحقة أكدت بوضوح، أن ما كان يتم التحضير له في مطبخ السياسة الفلسطينية والعربية، لم يكن سوى طبيخ حصى، لا مرق فيه ولا آدام.

خطة الحل المرحلي

في حينها اعتقدت معظم القيادات الفلسطينية أن الظروف والأوضاع الدولية مهيأة لانبعاث الكيان الفلسطيني الجديد، وقيام السلطة الوطنية على جزء من الأرض الفلسطينية. كان ذلك التحليل يخالف وجهة نظر الشعب الفلسطيني، ويعكس قصوراً فاضحاً في رؤية معظم القوى السياسية الفلسطينية، التي لم تتمكن من توظيف مقدرات وتضحيات الشعب الفلسطيني في معركة الحرية والاستقلال. بل أصرت تلك القوى على الدخول وإدخال القضية الفلسطينية برمتها في نفق حذر من نتائجه الكارثية العديد من المفكرين الفلسطينيين وبعض القوى الأخرى. زمن أبرز نتائج هذا النهج ـ إضافة إلى تقويض أهداف وأحلام الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة ـ أنه أدى إلى هزيمة سياسية فلسطينية انتقلت بالعدوى إلى العرب، وأحدثت هذا السقوط الأخلاقي، والانحدار في القيم والمواقف تجاه عدو الفلسطينيين وعدو العرب إسرائيل.

لقد أكدت الأحداث اللاحقة ومسار الأحداث في المنطقة والعالم، أن القوى الدولية المقررة، وبخاصة قطبي الحرب الباردة حينها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لم يكونا جادين في ايجاد حلول واقعية وعادلة لقضايا المنطقة وصراعاتها المستفحلة.

وإن كل منهما كان يسعى في تلك الفترة لتوظيف الصراع العربي الإسرائيلي لتعزيز نفوذه ومواقعه في المنطقة. كما أكدت أيضا أن ظروف وأوضاع أهل المنطقة أنفسهم لم تكن ناضجة للتوصل إلى أية حلول جدية لصراعاتهم العميقة.

واتضح أن خطة الحل المرحلي كما روج لها أصحابها من القوى الفلسطينية، لم تكن إلا أداة لكبح عنفوان الشعب الفلسطيني، ووقف جموح ثورته ونضاله لتحقيق أهدافه.

الخطة المشؤومة

في ربيع العام 1991 أطلق الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب مبادرة يدعو فيها أطراف الصراع الفلسطينيون والعرب وإسرائيل، إلى مغادرة ميادين القتال والحروب، واعتماد طريق السلام من خلال التفاوض المباشر لحل النزاعات المزمنة في المنطقة.

وهذا ما حصل، فقد التقى العرب في مدريد، ولاحقاً التقى وفد يمثل منظمة التحرير الفلسطينية سراً مع ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية، وتوصلوا بعد مفاوضات عسيرة إلى اتفاق " إعلان مبادئ" حول ترتيبات حكومة ذاتية فلسطينية انتقالية، عرف هذا الاتفاق فيما بعد باتفاق أوسلو،

جوهر هذا الاتفاق بشكل أساسي هو إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة خمس سنوات، تؤدي إلى تسوية دائمة على اساس قراري مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338.

وهكذا في أجواء احتفالية غير مسبوقة، تم التوقيع في أيلول العام 1993 على هذا الاتفاق الشهير بين الفلسطينيين وإسرائيل في العاصمة الأمريكية واشنطن برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، على أن تتم مناقشة قضايا الحل النهائي بعد ثلاث سنوات وهي القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه.

غير أن هذا الاتفاق أغفل وضع جداول زمنية محددة للانسحاب الإسرائيلي من الضفة وقطاع غزة، كذلك سقط من الاتفاق أية آلية دولية تلزم إسرائيل لتنفيذ استحقاقاتها من الاتفاق، أنتج هذا الأمر وضعاً غريباً، فقد أغرق الجانب الفلسطيني فيما يسمى معالجة التفاصيل قبل معالجة جوهر المشكلة، وكان الاتفاق ملزماً للفلسطينيين بينما تنصلت إسرائيل من التزاماتها، الأمر الذي كرس الاحتلال بدلاً عن إزالته.

طوال الأعوام الماضية ظلت القيادة الفلسطينية تلهث بسعار خلف جزرة الحل النهائي الذي لم يتحقق من بنوده شيء، بل على العكس تماماً، تنصلت إسرائيل من كافة التزاماتها من اتفاق أوسلو وكأنه لم يكن.

إن جزء من الشعب الفلسطيني الذي اعتقد أن تشكيل السلطة أنجاز لابد من حمايته والدفع به لتحقيق إنجازات أخرى، اكتشف أن هذا الاتفاق الذي أبرم مع إسرائيل لا يعبر عن أمنه ومصالحه ولا عن أهدافه الوطنية، بل على العكس، وجد المواطن الفلسطيني نفسه أنه يعاني من سلطتين، سلطات الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية التي ألزمتها إسرائيل بالتنسيق الأمني معها ضد كافة النشطاء والمناضلين الفلسطينيين الأمر الذي أدى إلى اغتيال عشرات من خيرة أبناء شعبنا الفلسطيني، واعتقال الآلاف منهم.

من الثورة للمؤسسة

لقد أعادت السلطة الفلسطينية إنتاج نظام التنفيع الذي ورثته من منظمة التحرير الفلسطينية، وبدلاً عن المضي في بناء مؤسسات لمختلف القطاعات واعتماد مبدأ الكفاءة والجدارة، أصبحت علاقات المنفعة والمصالح الشخصية والولاءات هي السياسة المعتمدة لهيكل السلطة، وأصبحت هذه الطريقة أداة قوية وفاعلة في الاستيعاب للمنتفعين والمتسلقين والانتهازيين، ووسيلة أيضاً لإقصاء الشرفاء والمناضلين وأصحاب الكفاءة.

إن القيادة الفلسطينية أخذت تعمل على كسب ولاء الناس من خلال الحصول على مورد اقتصادي، الأمر الذي أدى إلى تضخم شديد في القطاع الحكومي العام للسلطة حيث وصل عدد موظفي السلطة حوالي 170,000 موظف تعتمد رواتبهم بشكل أساسي على المعونات الدولية، المصيبة أن 44% منهم يتبعون الأجهزة الأمنية وبالتالي يستحوذون على حوالي نصف الميزانية، بينما يا للسخرية لا يتم صرف سوى واحد في المائة على قطاع الزراعة: ساهمت هذه السياسة في مأسسة الفساد وانتشاره، وهو ما كانت إسرائيل تريده من خلال إنشاء سلطة بعد أوسلو تكون منتفعة وضعيفة تتحكم فيها إسرائيل من خلال الموارد من الموارد المالية.

تم توزيع المناصب في هيئات وإدارات السلطة على المحسوبيات والمقربين، حتى المعارضة السياسية من مستقلين ويساريين وإسلاميين لم تستثني من هذه الامتيازات، فتم دمج الآلاف منهم في مؤسسات السلطة الفلسطينية، ومنحوا مناصب في القطاع الحكومي مقابل ولائهم السياسي، وبهذا لا تختلف قوى اليسار الفلسطيني عن قوى اليمين عن القوى الإسلامية، جميعهم تشاركوا السقوط والاستنفاع.

من جهة أخرى برزت في النظام السياسي الفلسطيني في الداخل ظاهرة زواج المصلحة بين رجال الأعمال ورجال السلطة وهو الشكل الأكثر انتشاراً للفساد، يستمد قوته من تمتع النخب بالحصانة السياسية والاجتماعية والقانونية، فامتلأت الحسابات المصرفية لآلاف الفاسدين، بالمال الفاسد.

كما أن استغلال المناصب لتحقيق مكاسب شخصية وعشائرية يشكل ظاهرة واضحة في مؤسسات السلطة، إبرام صفقات مشبوهة، استخدام موارد السلطة والوزارات للأغراض الشخصية، سرقة الممتلكات الوظيفية وإهدار المال العام، حتى أن إحدى عمليات التدقيق والرقابة في بداية الألفية أثبتت أن حوالي 40% من ميزانية السلطة قد أسيء استخدامها.

إسرائيل ليست بعيدة عن هذا الفساد، بل على العكس هي تساهم في تعزيز هذا الفساد في السلطة الفلسطينية وتحسن استغلاله فيما بعد، وتحاول إشغال الرأي العام بهذا الفساد كي تصرف أنظار العالم عن الآثار المدمرة التي تلحقها سياساتها العدوانية بالبنية الاقتصادية والتنمية الفلسطينية، وما تقوم به إسرائيل من تدمير ممنهج للاقتصاد الفلسطيني.

أكبر من كبوة

لقد أدى هذا الوضع الشاذ إلى جملة من التغيرات في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها التي انحدرت إلى مستويات غير مسبوقة من الضعف والهشاشة، وتراجع الشعارات والأهداف الثورية التي طالما تغنى بها الشعب الفلسطيني وميزته عن باقي شعوب الأرض، التي استحق احترامها وتقديرها ومساندتها نتيجة لكفاحه والتضحيات التي قدمها عموم الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وجعلته يحظى بكل تلك الهالة المقدسة التي كان يعتز بها.

لكن الفلسطيني ذاته أخذ يشعر بالغضب والحزن والإحباط الشديدين، بسبب ما وصلت إليه قضيته الوطنية التي أصبحت تهمة للمناضلين، ومطية للمتسلقين الانتهازيين من الفلسطينيين أنفسهم قبل غيرهم، كما تحولت القضية إلى ميدان للمزايدات لدى البعض، وفرصة لشتم وتحقير الشعب الفلسطيني وقيادته، وتعداد محاسن إسرائيل لدى البعض الآخر، وصولاً إلى المجاهرة من قبل بعض العرب بالعلاقات الطبيعية العلنية مع بني صهيون، بل والمفاخرة.

ثمة مفارقات عجيبة تحصل في خلفية المشهد السياسي المتعلق بالقضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي يزداد حجم ومستوى التضامن الأوروبي والعالمي مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، نشهد تراجعاً عربياً ملحوظاً على المستويين الرسمي والشعبي في التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني ودعم قضيته الوطنية، التي هي بالأساس قضية العرب الأولى وقضية عموم المسلمين.

فما الذي أوصل أهم قضية تحرر وطني في التاريخ إلى هذا المستوى البغيض الذي لا يسر أحداً ولا يدلل على عافية، ولماذا جنح بعض العرب إلى مستوى غير مسبوق من الحقد على الفلسطينيين. وهل نحن أمام واقع جديد في التعامل مع القضية الفلسطينية ، أم أنه برزت أولويات جديدة أمام الشعوب العربية، أم أنه انعكاس طبيعي لواقع الحال الفلسطيني والعربي الذي يشهد حالة متعاظمة من التردي والسقوط والانحدار على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، الأمر الذي جعل زيارة وزيرة العدل الإسرائيلية السابقة " تسيبي ليفني " سراً إلى إحدى عشرة دولة عربية لتطلب منهم عدم تقديم أية تبرعات مالية إضافية للسلطة الفلسطينية، يبدو خبراً طبيعياً حين تم تسريبه، وتعاملت الدول العربية معه بصمت وتجاهل بعد أن انصاعت الحكومات العربية إلى المطالب الإسرائيلية دون خجل، وهكذا وضع الأشقاء العرب قرارهم بدعم القدس العربية بمبلغ مليار دولار في سلة النفايات العربية، ولم يكلف الأمين العام للجامعة العربية نفسه عناء تكذيب هذا الخبر حفاظاً على ماء وجه العرب .

انتكاسة مبكرة

مما لا شك فيه أن هناك أسباب ومسببات عديدة ومختلفة وراء إيصال قضية سامية وعادلة كالقضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه. إلا أنه من الصحيح أيضاً أن كل تلك الأسباب والعوامل ما كانت لتكون مؤثرة وفاعلة لولا الدور السلبي للقيادة الفلسطينية ومواقفها المتخاذلة وسعيها وراء السلطة وامتيازاتها بدلاً من تعزيز ودعم فكرة النضال والكفاح ضد المغتصب.

 وبالرغم من أننا لسنا في وارد تقييم تجربة الثورة الفلسطينية هنا، إلا أن ما نشهده اليوم من إحباطات وانهيارات وانسدادات أمام القضية الوطنية الفلسطينية لم يكن وليد المتغيرات الأخيرة التي تشهدها المنطقة، إنما هو نتيجة طبيعية وكارثية لكل السياسات التي انتهجتها القيادة الفلسطينية، والخيارات التي اقدمت عليها منذ انطلاق العمل الفلسطيني المسلح في منتصف ستينيات القرن الماضي.

إن مجمل هذه السياسات أدت فيما أدت إلى تقزيم منظمة التحرير الفلسطينية، وإضعاف العامل الفلسطيني برمته، وتحويل قضية فلسطين الوطنية إلى حائط مبكى، وظهور قيادات فلسطينية ضعيفة، وبعضها مخترق من قبل العديد من أجهزة المخابرات وخاصة الأمريكية والإسرائيلية.

أنيطت بهذه القيادات مسؤولية الحل والربط فيما يتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته، وهم المسؤولين مسؤولية مباشرة عن تقليص الحقوق الفلسطينية وضياعها، من خلال حجم التنازلات المرعب الذي قدمته هذه القيادة الفلسطينية للجانب الإسرائيلي، بدءًا من التنازلات التي قدمت للوصول إلى اتفاقية أوسلو الملعونة، وصولا إلى كافة التنازلات التي مازالت تقدمها القيادة الفلسطينية في سبيل محافظتها على مناصبها وامتيازاتها على حساب مصالح شعبنا الفلسطيني وتضحياته، هذه التنازلات جعلت إسرائيل تتنمرد على السلطة الفلسطينية بل وتتجرأ بكل وقاحة وتطلب ويا للعجب من القيادة الفلسطينية الضعيفة الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل !!

هذه القيادة الفلسطينية التي يستقوي بعضها على شعبه وعلى الفصائل الأخرى، بالأنظمة العربية التي كانت داعماً رئيسياً لنضال الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية مالياً وسياسيا، فأصبحت الثوابت الفلسطينية والعربية تجاه الصراع مع إسرائيل تُنتهك وتُحذف بمباركة عربية استعاضت بها القيادة الفلسطينية لغبائها، عن الغطاء الشعبي الفلسطيني لتمرير سياسات التنازل والاستسلام.

 تلك الأنظمة العربية مغلولة اليد أمام النفوذ الأمريكي والإسرائيلي. لا تريد سوى السلامة حتى لو كانت على حساب القضية الفلسطينية، لكنها تصبح شرطياً بعصا غليظة حين تستقوي بها القيادة الفلسطينية لكسر إرادة قوى المعارضة الفلسطينية الرافضة لكل سياسات السلطة التنازلية.

 هذا الاستقواء في الحقيقة -إضافة إلى عوامل أخرى- هو ما جعل الأنظمة العربية نفسها تستقوي على القضية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين أنفسهم، وإلى إخضاعهم إلى التجاذبات المتنافرة في السياسة العربية.

أم الكوارث

لقد سقطت القيادة الفلسطينية في مستنقع الفساد والاستنفاع، وانكشفت عورتها أمام الجميع، وكل أوراق التوت والتين لا تستطيع ستر عورات قيادة هجينة، وليدة اتفاقيات مذلة، حولت جميع الحقوق الثابتة التاريخية للشعب الفلسطيني إلى" مشاكل قابلة للتفاوض" وحولت قضية وطن محتل ومغتصب إلى خلاف على تقاسم نفوذ فيما بينها، وتتبنى سياسة التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، هي العقلية ذاتها التي تطاولت بالكلام بداية على المناضلين والأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية عام 1988 أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى تحت شعار "هجوم السلام الفلسطيني".

حيث تحول هذا الهجوم فيما بعد إلى تآمر لضرب الحركة الوطنية الفلسطينية، وقامت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية المحترمة باعتقال قيادة وكوادر ونشطاء المقاومة الفلسطينية، وتعاونت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي لاغتيال مناضلين.

إن السلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها على نفسها اساساً، هي ليست أكثر من أداة وظيفية لدى الاحتلال الإسرائيلي، قد أصبحت حاجة إسرائيلية لضرب المشروع الوطني، فاتفاقيات أوسلو التي أنجبت السلطة أنهت الحكم العسكري الإسرائيلي، لكنها لم تُنه الاحتلال نفسه.

 وبينما انشغلت السلطة بإدارة الحياة اليومية، تحول الاحتلال إلى استعمار نظيف قليل التكلفة حيث تتولى أجهزة السلطة الفلسطينية كافة الملفات القذرة، تتابع إسرائيل مصادرة الأراضي وفرض الحقائق على الأرض.

لذلك لا بد من إسقاط هذه السلطة لإنهاء عبثية مسار التفاوض مع إسرائيل الذي اثبت عقمه، ولوضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كاملة كسلطات احتلال تجاه الشعب الفلسطيني، وحتى تكف السلطة عن كونها غطاء لهذا الاحتلال.

ومن جهة أخرى وضع المجتمع الدولي والأطراف الراعية لعملية السلام أمام استحقاقاتهم الموضوعية في فشل مسار التسوية السياسية. هذا يجب أن يؤدي إلى اعتبار أن شعبنا الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال ومن حقه مقاومة هذا الاحتلال وفق المواثيق الأممية.

إسقاط السلطة سوف يعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية التي قزّمها رجال السلطة وجعلوها ظل عديم الفعالية تابع لهم، بعد أن قاموا بإفراغ المنظمة ومؤسساتها من دورها الوطني باعتبارها حاضنة المشروع الوطني الفلسطيني.

هذا من شأنه أن يسهم في تقوية الموقف الفلسطيني الذي أضعفه زج السلطة بالرقم الفلسطيني في مفارقات العرب السياسية، فانتقلت القضية الفلسطينية بقدسيتها من حالتها في الضمير والوجدان العربي والأممي إلى رقم ضعيف في الجامعة العربية.

هل يكفي الفلسطينيين اجتماعاً استثنائياً، أو مؤتمراً وطنياً للحوار لكي يخرجوا من هذا الاستعصاء العسير؟ لا أظن ذلك. فكل ما نسمع من خطب وشعارات ما هو غير حشو أفواه الفلسطينيين بالقش.

إن هذه القيادة الفلسطينية المتخم بعضها بالفساد السياسي والأمني والسلوكي والأخلاقي، والتي حولت القضية الفلسطينية إلى ممسحة لبعض الأنظمة العربية وسياساتهم وصفقاتهم، سوف يذكرها التاريخ على أنها قيادة متهمة ومدانة بهزيمة شعبها وقضيته الوطنية، في عالم لم تعد تعنيه كثيراً قضايا الضمير والحق والعدل، بل يلتفت إلى من يملك قوة الفعل والتأثير في مجريات التاريخ، والعرب ليسوا منهم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق