الأدب الأيروسي في القصيدة السردية التعبيرية أولا : الشاعر عدنان جمعة/ كريم عبد الله


(( الباب يسأل ))

الساعة الواحدة بعد جنون الليل، أجفان تحاور السقف بشوق منهك، هلوسة على وسادة الانتظار، وشرشف كتان زهري يتمرغ، لم يأت، أسدلت ستائر نوافذها والباب يسأل، انتفضت فكرة، ليكن ما يكن وتهدأ، تساءلت: كم ناعمة قبرتي، مشاكسة لا تهدأ، لا ترتقي بالنعاس، تحرضني، تغويني، بعبث سبابتي، وثورتي تكبر، هرب القط متلفتاً، واختبأ، ما أوحش ليلتي، هائجة وأرتدي الأخضر، أتلمس ضفتي النهر أوشكت أن اغرق، ارتجف النهد لاهثاً للمس، وساعة الحائط تسعل، اشتاق إليكَ، يا ليت أناملكَ تشعلني وأتجمد، والباب يسأل..

عدنان جمعة/بغداد/2018

في كل يوم وفي أكثر ما يكتب في موقع السرد التعبيري تثبت السردية التعبيرية نجاحها وتطورها بصورة تجلب الانتباه , كل يوم يقفز إلى الوجود نصّ سردي تعبيريّ يستحق التوقف عنده طويلا ويلحّ على المتلقي ان يقرأه قراءة إبداعية منتجة وليست قراءة استهلاكية سطحية عابرة , نجد بانّ هناك نصوصا بمستوى متطور لغة وفكرة وجمالية ورسالية وبناء , نصوص لا يجيدها الاّ كتّاب السرد التعبيري بعدما وجدوا أنفسهم من خلال السردية التعبيرية بنموذجيتها المتطورة والباذخة العطاء . سنؤكد دائما وأبدا بانّ السرد التعبيري لا يعني السرد الحكائي أو القصصي إنما يعني تجلّي واضح لطاقات اللغة وتعظيمها ونقل للمشاعر العميقة والأحاسيس عن طريق خيال إبداعي جامح فيجعل اللغة كأنها قادمة مما وراء الحلم , انّ السرد التعبيري يعتمد على الزخم الشعوري العنيف والجامح ومحاولة إيقاظ مراكز الشعور والمشاعر في النفس وهذا يؤدي إلى أن يتغلغل النصّ بأعماق النفس فنشعر بلذّة الارتواء من جمال اللغة وعذوبتها وتتحقق عملية التواصل ما بين الشاعر والمتلقي ويحث التفاعل الايجابي فيما بينهما وهذا ما نسعى إليه , نريد ان نخلق جسورا قوية وراسخة ما بين الشعر والمتلقي حتى يكون الأخير ايجابيا في قراءته ومشاركا في النصّ . إن الكتابة الأفقية أي كتابة القصيدة على شكل كتلة واحدة أصبحت واضحة الملامح وأصبح لها عشّاقها ومريديها والمدافعين عنها , لما تمنح الشاعر من أفق شاسع في الكتابة حتى يتمكن من صياغة كتاباته بحرّية مستعينا بالرمزية المحببة والخيال الشاسع والمشاعر النقيّة الصادقة القادمة من القلب لتدخل القلب دون استئذان وبمفردات عذبة تثير مشاعر المتلقي وتجعله يعيش في أجواء النصّ.

بعدما قدّمنا القصيدة السردية التعبيرية وتناولنا جمالياتها عن طريق اللغة والخيال والعاطفة وهندستها وتعدد الأصوات فيها , سنحاول اليوم تناول القصيدة السردية التعبيرية من خلال اللغة الايروسية في قصيدة الشاعر السومريّ : الباب يسأل / عدنان جمعة .

لازالت اللغة الايروسية خجولة في مجتمعنا الشرقي وكثيرا ما تكتب على استيحاء إلا ما ندر بسبب طبيعة مجتمعاتنا العربية والأعراف والتقاليد الاجتماعية والدينية والثقافية , لهذا نرى هنا وهناك لغة ايروسية تنزّ من هنا ومن هناك عن طريق الأدب النسوي أو الذكوري , وربما تكون لغة تلوّح من بعيد الى هذا الأدب عن طريق مفردة ايروسية او جملة واحدة في نصّ او نصّ كامل يحتاج أليها الشاعر بين فترة وأخرى في محاولة لإشباع ذاته او تحريك مشاعر الآخرين او تكون رسالة موجّهة الى مجهول او معلون يحاول إيصالها اليه .

إن الايروتيكية مذهب يعني الجنس والشهوة وقد خرج منه الأدب الايروسي , وتعود كلمة ايروتيكية الى كلمة EROTIC الانكليزية وهذه تعني المثير للشهوة الجنسية وكذلك تعود الى الكلمة الانكليزية EROTICISM وتعنى الاثارة والتهيّج الجنسي . بالعودة الى النصّ ومن خلال العنوان / الباب يسأل / فمن خلال مفردتي / الباب / يسال / سيتبادر إلى الأذهان بانّ هناك مكان مغلق ووراءه مجموعة أسئلة , وبلغة ذكية استطاع الشاعر أن يمنح هذا الباب لغة يتحدّث بها لكنها مكمّمة لا نسمع من حديثه إلا السؤال من داخل المكان فقط , هذا يوحي بأنّ هناك حكاية غير مصرّح بها وكأنها حكاية سجينة في دهاليز بعيدة ممنوعة . فمن خلال الإحساس والإيقاع الداخلي للعنوان سنعرف جيدا بانّ هذا المكان مغلق وليس فيه أي منفذ إلا هذا الباب الغارق بالتساؤل والحيرة والخوف . قد نستشفّ من خلال العنوان بانّ الشاعر يحاول الإيحاء لنا بانّ ما يحدث خلف الباب هو ما يحدث داخل النفس الإنسانية الغارة بالكبت والحرمان , فلا تجد لها من متنفّس إلا البوح الداخلي لعدم وجود النفس الأخرى معها والاطمئنان أليها .

يرى رولان بارت في " لذة النص" : (أن الكلمة تكون شبقية بشرطين متعارضين ، هما ؛ التكرار المفرط و الحضور غير اللائق ) , فهل سنجد عند الشاعر عدنان جمعة كل هذا ..؟ .

/ الساعة الواحدة بعد جنون الليل / هكذا يبدأ الشاعر بلغة هادئة الإيقاع نسبيا إلا أنها توحي بأجواء خاصة ومواقيت متأخرة من الليل , حيث تقل الحركة وتسكت الأصوات ويهجه الجميع ويخلد الى النوم .. / أجفان تحاور السقف بشوق منهك وحدة قاتلة وقلق وأنهاك وتعب وعيون مسهّدة من طول انتظار تحدّق في الفراق حيت اللاشيء هنا سوى الفراغ المملّ والمقيت هلوسة على وسادة الانتظار أفكار غير طبيعية وغير منطقية تراودها في هذه الساعة المتأخرة من الليل , قد تكون هذه الهلاوس بشكل خيالات وصور أو على شكل هلاوس سمعية أو هلاوس شمّية , كل هذا الضجيج يحدث وعلى وسادة الانتظار والترقب للقادم الأخر وشرشف كتان زهري يتمرغ أنها الرغبة الشبقية الجموح والبحث عن لحظة الاتصال الجسدي والنفسي والفكري لم يأت إنها الصاعقة المدمّرة ولحظة الفشل الأكيد حيث استحالة المجيء والحضور الجسدي المرتقب لإطفاء حرائق النفس المعذّبة أسدلت ستائر نوافذها والباب يسأل أنها الخيبة والإقرار بالهزيمة والفشل المريع وانتهاء فترة الانتظار وما قد يحمله من سعادة ونشوة مرتقبة , هكذا ينتهي هذا الاحتفال وينتهي كل أمل كان منتظرا في النفس ولم يبق غير السؤال والخيبة ..وفي محاولة لكسب الوقت والانتصار على النفس الجريحة انتفضت فكرة ليكن ما يكن وتهدأ الإقرار والإذعان للهزيمة والفشل والاستسلام تساءلت: كم ناعمة قبرتي هنا يتحول السؤال الى الذات المنكوبة والخاسرة , وهنا أيضا سنجد قمّة الايروسية وانكشاف قلقها وحيرتها / قبرتي – الباب المؤدي إلى الفردوس – المكان الأكثر إثارة في جسد المرأة / في هذه المفردة سنجد الايروسية المهذّبة والرقيقة والخجولة , ايروسية تدغدغ لا تجرح المشاعر أنيقة شفافة عذبة لم يصرّح الشاعر بمفردة ايروسية قذرة أخرى تبوح بكل مكنونات هذه / القبرة / لم يصرّح بالاسم الحقيقي وهنا اعتقد قد خسر الشاعر الكثير بسبب الحياء وهذه الأعراف والتقاليد لئلا يتعرّض للنقد وهذا شيء وارد في مجتمعاتنا للأسف الشديد , لان الكثير يفسّر لغة الشاعر ويحسبها جزء من شخصيته وحياته وهذا خطأ فادح عندنا حين نعتقد بان كتابات الشعراء ما هي ألا الوجه الحقيقي لهم .. / مشاكسة لا تهدأ / لا ترتقي بالنعاس / تحرضني / تغويني محاولة تعويض الفشل وإشباع الرغبة تحولت هنا جسديا بعدما كانت عبارة أفكار وهلاوس وتساؤلات موجعة , انه الرغبة الجنسية المتأججة والنيران المشتعلة ى تهدّأ ولا تعرف الصمت والهجوع , رغبة شبقية عارمة تجتاح النفس بسبب هذا الغياب بعبث سبابتي هنا تحول كل شيء إلى فعل بسب الإلحاح والتحريض والغواية والرغبة , هنا حصل الاتصال الجسدي الفعلي ولكنه اتصال من طرف واحد , اتصال سلبيّ انبعث من الداخل وليس من الخارج وثورتي تكبر بعد هذا الاتصال الجسدي حصلت الثورة وأصبحت تتسع وتتسع بعدما هرب القط متلفتاً / واختبأ .. / بعدما هرب حتى من الأحلام ونشوتها واختبأ بعيدا حتى من هلاوسها وتلاشى صوته عبر المدى وانّمحت صورته من الذاكرة واختفى حتى عطر جسده , يا للخيبة ..! ما أوحش ليلتي من جديد تعود الى غربتها ووحدتها داخل هذا الفراغ المشبع بالخيبة والوحشة هائجة وأرتدي الأخضر كانت على مهيأة ومستعدة لإقامة هذا القداس والكرنفال البهيج أتلمس ضفتي النهر أوشكت أن اغرق كانت على مقربة منه وقد وصلت الى الضفاف المترعة بالجنون والهيجان وكانت على شفا حفرة من الغرق والاستسلام والنشوة ارتجف النهد لاهثاً للمس كان الجسد وجميع أعضائه على استعداد تام لهذا الاتصال وتحقيقه وساعة الحائط تسعل لكن الوقت أزف وتلاشى وضاع كل شيء وصار مجرد سراب اشتاق إليكَ رغم الخيبة وعدم الوصول واللقاء يبقى الاشتياق قائما ومستمرا والرغبة جامحة لم تهدأ بعد يا ليت أناملكَ تشعلني وأتجمد أنها الأمنية الغير محققة والتوسل باللقاء والرغبة الملحّة بالتواصل الجسدي والروحي مع الأخر, انه الشبق المتأجج الباحث عن لحظة الانفجار والباب يسأل ويبقى السؤال مبهما وبلا جواب .

بالعودة إلى النصّ مرّة أخرى نجد بانّ الشاعر وعن طريق لغته السردية التعبيرية المهذّبة والجامحة في نفس الوقت لم يمنح لغته هذه الحرية الطلقة في أن تبح بكل مكنوناتها وكان الشاعر خجولا جدا ولكنه مشاغبا / وكح / استطاع بذكاء إشعال النيران ولكنه تركها بدون أن تنطفئ . كان عليه أن يكون عبثيا جدا ويندفع بعيدا عن الأخلاق والقيم الاجتماعية والدينية وان يفتح فضاء قصيدته ويصوّر لنا هذا العالم بأكثر دقّة وشبقية وان يكثر من المفردات الدالة على الجسد والشبق ويصرّح علنا بكل هذا , لكن نعود ونقول بان ثقافة مجتمعنا لا تجيد قراءة هكذا كتابات وسيتعرض كاتبها إلى الكثير من الانتقادات اللاذعة . لقد كان الشاعر محتمي وراء لغته من الانتقادات . على العموم كان النصّ شبقيّا عشنا عن طريق خيال الشاعر أجواءه ومنحنا فسحة واسعة من الجمال والإبداع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق